التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:00:42 غرينتش


تاريخ الإضافة : 28.02.2010 11:16:04

القضاء الموريتاني: إرث ثقيل وسعي إلى الإصلاح حثيث*

د. محمدو ولد المرابــط* drlemrabott@yahoo.fr

د. محمدو ولد المرابــط* [email protected]

من المعروف أن الاستقلال الحقيقي للقضاء عن السلطة السياسية يتجسد حين يكون القضاء، باعتباره سلطة دستورية، قادراً على الجهر بالحق، نزيهاً في إصدار الأحكام والنطق بها، متجرداً حيال كل أشكال التدخل والتأثير والتوجيه، سواء من قبل الأفراد أو الجماعات أو السلطات والهيئات. بيد أن القضاء بهذا التوصيف يحتاج بالضرورة إلى مناخ حاضن له، ومدافِع عنه، و معترِف بمكانته في إشاعة قيمة العدل في الدولة والمجتمع، وفي هذا المجال تقوم السلطات العليا الحالية في موريتانيا بمحاولات جادة للتخلص من كلما من شأنه أن يؤدي إلى تعثر القضاء وإعاقته، بسبب الانحرافات التي شهدها المسلسل الديمقراطي، خلال الأحكام السابقة، وما خلفه من تأثير سلبي على المستويين التقني والفني لأجهزة القضاء وإدارته وموارده البشرية، حيث استعصى على القضاء الاستقلال بذاته.
وقد أطلق الرئيس الموريتاني"محمد ولد عبد العزيز" مشاريع، تعتبر جادة، للتغلب على الصعوبات المرتبطة بالقضايا التقنية والبشرية، عبر تكثيف برامج التحديث، وتقوية عمليات التعاون، والاستفادة من الخبرات الأجنبية الناجحة من أجل تحديث الإدارة القضائية، وترشيد الموارد البشرية وتمتين قدراتها، وتعديل ومراجعة التشريعات والقوانين ذات الصلة.
لكن التحدي الأكبر الذي تواجهه السلطات الموريتانية، يكمن في مدى قدرتها على تجاوز المعوقات البنيوية ذات العلاقة بواقع السلطة و توزيعها، فمن أجل إعادة الاعتبار للقضاء وفرض احترام استقلالية سلطته، يستلزم الأمر إقرار مبدإ فصل السلطات، و يبدو أن هناك مؤشرات دالّة على احتمال تحقق مشهد التغيير في هذا الاتجاه، فقد أسدل الستار مساء الأربعاء 20 يناير 2010م على الحوار الذي أطلقته أحزاب الأغلبية مع أحزاب المعارضة تحت عنوان: “أي حكامة سياسية لموريتانيا بعد 50 سنة من الاستقلال” في قصر المؤتمرات بنواكشوط، وتمخض عن المطالبة بمراجعة الدستور لتعزيز الحقوق وإرساء حكامة شفافة و مسؤولة، تمهد السبيل لقيام عدالة حقيقية، وترقية المساواة والإنصاف لاستحالة وجود عدالة بدونهما، ثم بناء وتوطيد الدولة كشرط مسبق للعدالة، لغرس قيم ومفاهيم العدالة لدى الناشئة عن طريق التربية، وصيانة قيم المجتمع، وترقية تطبيق القانون.
لقد تَصدَّرت وضعية القضاء في موريتانيا قائمة اهتمامات الفاعلين السياسيين منذ وصول الرئيس "ولد عبد العزيز" إلى السلطة، إذ شدد في خطاباته على مركزية إصلاح القضاء وتحديثه في دينامية الانتقال السياسي، مؤكدا في اجتماعه الأخير بالمجلس الأعلى للقضاء، على أن قضاء مستقلاً وفعالاً، كفيل بإشاعة الثقة بين المواطنين وحفزهم على التفاعل الإيجابي مع الإصلاح أولاً، وقادر ثانياً على تمتين الاستقرار وجلب الاستثمار الأجنبي وحسن استخدامه في التنمية. إلا أن تشخيص وضع القضاء وإن كان متقارباً ومتكاملاً بين السلطات العمومية ونقابة المحامين، فقد تباينت المواقف حول المقاربات الجديرة بمعالجة ملف معقد ودقيق كما هو حال القضاء الموريتاني ، سيما وأن الأمر لا ينحصر في تحيين ترسانة التشريعات والقوانين ذات العلاقة، أو تبسيط الإجراءات بين أجهزة القضاء والمتقاضين، أو حتى عصرنة آليات العمل القضائي ليغدوَ أكثر فعاليةً وجودةً، بل تتجاوز المشكلة ذلك إلى قضايا ذات صلة بالبيئة السياسية والاجتماعية التي يشتغل في إطارها القضاء، ويتفاعل معها المتقاضون، وفي هذا الإطار قال نقيب المحامين الموريتانيين الأستاذ/ أحمد سالم ولد بوحبيني في تقرير،صدر الشهر الماضي، عن وضعية القضاء الموريتاني"إن تأثير النيابة العامة الملحوظ والقوي جدا على قضاة التحقيق وقضاة الحكم أمر غير مقبول ويجب أن يتوقف". وعلى الرغم من أن القضاة لا يخضعون إلا لسلطة القانون و لقناعتهم، فإن هذا المبدأ المقدس يجب أن يحترم احتراما صارما، ولا ينبغي لأحد أن يحاول المساس بهذا الاستقلال، وخاصة المدعي العام والسلطة التنفيذية بصفة عامة. ولا شك أنه من أجل ذلك، يجب على القضاة أن يستحقوا هذا الاستقلال، وهو ما يشكل موضوع نقاش آخر. و بطبيعة الحال لا يمكن، ولا ينبغي، منحه للقضاة غير الأكفاء أو الفاسدين، ففي هذه الحالة يفضل تعسف الدولة على تعسف القضاة".
ولكي يكون القضاة في مستوى هذه المسؤولية، يدعو نقيب المحامين إلى مراجعة سياسة ترقية القضاة، وأن تكون هناك قطيعة واضحة مع الممارسة السابقة المتمثلة في تعيين القضاة حسب تدخلات أصحاب النفوذ، ففي هذه الحالة، لا تعتبر الجدارة معيارا ويستطيع كل واحد أن يجد نفسه في أية مسؤولية. ودعا نقيب المحامين إلى معالجة هذه المسألة بطريقة تبرز القضاة الذين يمكن الاعتماد عليهم وإزاحة الذين يشكلون عقبات.
وفي ردها على تقرير نقيب المحامين نأت النيابة العامة بنفسها عن أي تأثير على القضاة الجالسين أو تدخل في عملهم ولا في استقلاليتهم، ولا تعتبر الطعون القانونية التي تمارسها النيابة العامة ضد قرارات القضاة الجالسين المخالفة لطلباتها تدخلا في عمل أولئك القضاة، بل إن ذلك يدخل في صميم التكامل بين القضاء الجالس و الواقف في سعيهما المشترك لتحقيق العدل و إعطاء كل ذي حق حقه.
فبينما تعكف المنظمات الدولية على وضع معايير لتكون أسسا لتقويم أداء الأنظمة القضائية عبر العالم، وفي خضم التنافس القضائي الدولي الإيجابي، يعتبر غياب العدالة من الأسباب الرئيسية لتخلف موريتانيا، وهذا ما أكده الرئيس الموريتاني "ولد عبد العزيز" غداة تنصيبه عندما قال أنه "لا يجوز أن تستمر الدولة الموريتانية في تعهد ورعاية نظام قضائي متخلف وفاسد". فبالرغم من تغير السلطة السياسية والتقدم الملحوظ في أوضاع المؤسسات الدستورية في موريتانيا، نلمس تطورا بطيئا في أداء القضاء، و المآخذ التي كتبت منذ أكثر من عشر سنوات عن القضاء تبدو وكأنها كتبت البارحة، لأن جهود الإصلاح القضائي المنتهجة في موريتانيا في السنوات الماضية، كانت قصيرة النفس، متقطعة وغير مدروسة، وقرارات القضاء تبقى في أغلبها أقرب للتسويات منها إلى الاستنباطات المحكومة بقواعد وضوابط علمية، فقد تضمنت المذكرة الصادرة عن الهيئة الوطنية للمحامين في ديسمبر 1994 أنه "ما من متقاض يتقدم للعدالة وهو يعتقد بأن نظامية وضعيته سيتم تقديرها انطلاقا من مرجعية القانون وحدها"، كما نص، تقرير اللجنة الوزارية المكلفة بالعدالة الصادر في أكتوبر 2005، في الاستنتاج رقم: 66: "لقد بينت مشاركات الخبراء والمطلعين على القطاع مدى انتشار الممارسات المخلة بالشرف في قطاع العدالة. و يذهب البعض حتى إلى اعتبار القطاع من أكثر القطاعات تعرضا للفساد في الدولة".
وهكذا قد تنبهت السلطات الموريتانية الحالية لتلك الوضعية المعقدة، فبدأت بمحاربة الفساد والقضاء على أسبابه، ولضمان تحقيق ذلك الهدف سعت إلى انتهاج الإصلاح القضائي وتفعيل نصوص القانون المعمول بها والتي تعتبر "التعبير الأعلى عن إرادة المجتمع ويجب أن يخضع لها الجميع"، انطلاقا من أن رئيس الجمهورية في النظام الدستوري الموريتاني هو ضامن استقلال القضاء ويجب عليه بالتالي أن يعمل على تكريس استقلاله ليوفر الضمانات الحقيقية للتنمية ويحارب الفساد بفعالية ف"القضاء الصالح هو نقطة العبور نحو تفعيل مختلف الحقوق .. التي تقرها المواثيق الدولية و الدساتير والقوانين، والتي يفترض ضمانها للجميع بدون تمييز. من دون القضاء الصالح، لا يمكن احترام حقوق الإنسان ولا محاسبة السلطة التنفيذية ومراقبتها ولا إقامة الانتخابات الحرة والنزيهة ولا تطوير المجتمع المدني والإعلام. من دون القضاء الصالح يسقط ركن من أركان العقد الاجتماعي الذي ارتضى بموجبه الناس أن يكون القضاء هو الحكم والوسيلة لفصل المنازعات فيما بينهم".

===========

*أستاذ جامعي، المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية.
*مقال منشور بمجلة المرصد الديمقراطي، الصادرة عن مركز دراسة الإسلام والديمقراطية، واشنطن، فبراير 2010 .


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!