التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:00:16 غرينتش


تاريخ الإضافة : 04.04.2010 09:38:36

نقاشا لا تحاملا: الدساتير على دين ملوكها!

المختار بن نافع

المختار بن نافع

طرح المفكر الإسلامي المتمكن محمد بن المختار الشنقيطي مؤخر عددا من الآراء في الفقه السياسي أو إن شئت الدقة قل في الفكر السياسي الإسلامي أثارت جدلا اتخذ منحيين ما بين مؤيد غير قابل للمناقشة ومعارض موزع للاتهام بدل الرد العلمي، في خضم ضاعت فيه إمكانية النقاش والرد دون تخندق.


هذه الوضعية تستلزم نقاشا لآراء الشنقيطي لا يجعل أقواله مسلمات فوق الطعن ولا يتخذ من أخطائه الاجتهادية سلما للنيل من سمعته واتهام نواياه وردم "أفعاله اللائي سررن " بالتراب، أو بعبارته هو نفسه "التفريق بين مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ" .


وفي هذا المقال أحاول مناقشة مقال الشنقيطي الأخير بعنوان "الناس على دين دساتيرهم" ملتزما بحول الله بهذه المنهجية فإن وفقت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.


فأقول إنه يمكن تلخيص الأفكار الرئيسية في هذا المقال في النقطتين التاليتين:
- أنه لا خطر واقعيا ولا مانع شرعيا من رئاسة غير المسلم للدولة الإسلامية
- أن العقد الاجتماعي القائم على أساس الجغرافيا أولى وأقرب للإسلام من العقد القائم على الاشتراك في الدين


رئاسة غير المسلم بين الشرع و الواقع

في المسألة الأولى يرى الشنقيطي أن لا دليل على عدم جواز رئاسة غير المسلم للدولة الإسلامية شرعا وأن الفقهاء لم يقدموا من الأدلة على منعه إلا قوله تعالى "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" وعلق على ذلك بأنها "لا صلة لها بالموضوع إذ هي تنتمي إلى الخطاب القدَري لا إلى الخطاب الشرعي".

كما يرى أن لا خطر على الإسلام من رئاسة غير المسلم للدولة الإسلامية لأن الدول اليوم تحكمها الدساتير لا الأشخاص، وهنا يمكن إبداء الملاحظات التالية:

أولا: هذه الآية ليست الدليل الوحيد الذي يستدل به الفقهاء؛ ففضلا عن الأدلة الكلية المتعلقة بالمهمة الدينية للدولة الإسلامية فإن الفقهاء يذكرون عدة أدلة منها حديث عبادة بن الصامت "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله ، وقال: ( إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان) فإذا كان الكفر يبيح العزل رغم ما يصاحبه من المخاطر فإنه من باب أولى أن يمنع التولية ابتداء.


ثانيا: يقول الأستاذ الشنقيطي إن الآية من باب الخطاب القدري وهذا في الحقيقة أكثر دلالة من كونها من الخطاب الشرعي لأن الخطاب القدري يخضع له البر والفاجر لأنه أمر الله وتصريفه الكوني الذي لا مرد له أما الخطاب الشرعي فيمكن للفاجر مخالفته، فإذا كان معنى الآية أن الله في سابق قدره لن يجعل للكافرين على المسلمين سبيلا فلا داعي للنقاش حول جواز ذلك شرعا ما دام لن يقع قدرا.


ثالثا: أما من ناحية القول بأن لا خطر واقعيا على الإسلام برئاسة غير المسلم فإن الواقع يقول إنه مهما بلغت الدولة من تحكيم الدستور فإن ذلك لا يحول دون تأثير الرئيس؛ ببساطة لأن هذه الدساتير نفسها تعطي الرئيس صلاحيات هائلة اعترافا بمحوريته في إدارة الدول وتماشيا مع القاعدة الفطرية "لا إمارة لمن لا طاعة له".

ونحن نعرف مثلا أن الشريعة تعطي للرئيس حق تعليق العمل بالحدود في الظروف الخاصة فلو كان الرئيس غير مسلم فإن ضعف اقتناعه بهذه الحدود سيدفعه لا محالة إلى إساءة استغلال هذا الحق.

هذا فضلا عن أن تمتعه بسلطة إعلان الحرب قد يدفعه إلى خوض حروب لا تخدم الأمة أو التوقف عن أخرى تستلزمها حمايتها.
وإذا نظرنا - من زاوية أخرى- إلى بعض الدول الغربية التي بلغت شأوا بعيدا في تحكيم الدساتير فإننا سنجد أيضا أمثلة واقعية على تأثير شخصية الرئيس وخلفيته؛ فأمريكا أوباما ليست هي أمريكا بوش وفرنسا ساركوزي ليست هي فرنسا شيراك وأسبانيا ثاباتيرو ليست هي أسبانيا أثنار ..وهلم جرا. وهذا ما قصدته بالقول إن الدساتير على دين ملوكها.

وهذه مجرد أمثلة على الصلاحيات التي تعطيها الشرائع والطبائع والقوانين للرؤساء والتي يمكن من خلالها التأثير على مصلحة الإسلام.

غير أن الأهم في هذه المسألة أن هذا كله مجرد نقاش نظري لأنه من الناحية الواقعية لن يترتب عليه شيء، فلا المسلمون يتمتعون بحق اختيار رئيس مسلم فضلا عن غير مسلم ولا القوانين الشرعية حاكمة حتى يسأل هل تبيح رئاسة غير المسلم، ولا أولوية الإصلاح الإسلامي تقتضي نقاشا كهذا، ولقد تعجب الأستاذ الشنقيطي مرة كيف أن الإيرانيين يعيشون في دولة جمهورية ومع ذلك يدينون بنظرية الإمام المعصوم في حين أن السعوديين يعيشون في ظل ملكية ويجادلون عن نظرية اختيار الخليفة وأعتقد أنه يحق طرح تساؤل من هذا القبيل حول آراء الأستاذ هذه.


أساس الدولة بين الجغرافي والديني

أما الفكرة الثانية التي يطرحها المقال حول العقد الاجتماعي القائم على أساس الجغرافيا وانسجامه مع الإسلام أكثر من العقد القائم على أساس الاشتراك في الدين والقول أن بناء الدولة على عقد كهذا أكثر انسجاما مع التجربة الإسلامية النبوية والتدليل على ذلك بدستور المدينة الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود ومنحهم بموجبه المواطنة الكاملة في الدولة التي قامت على أساس العقد الاجتماعي وفرقت بين الأمة الاعتقادية والأمة السياسية ولم تأخذ الجزية من يهود فيمكن أيضا إبداء الملاحظات التالية:

أولا: أن الوثيقة حسمت أساس الدولة الإسلامية العقدي حين قالت (المادة 49) "وإنه ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث او اشتجار يخاف فساده، فإن مرده الى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم "

وهذه الملاحظة يمكن تعزيزها بالتدقيق في العبارتين التاليتين التين تبينان هوية المتعاقدين في هذه الوثيقة ومكانة كل من المسلمين واليهود فيها :
فالوثيقة جعلت أصل العقد بين المسلمين حيث قالت (المادة 1) "هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم" ، أما اليهود فذكرتهم بالتبعية بقولها (المادة 16)" وانه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

فهي إذا بين المؤمنين من قريش ويثرب أما اليهود فإنها تتعهد لمن تبع المسلمين منهم بالنصرة والأسوة وحقوق أخرى ذكرتها ليس من بينها الرئاسة المطلقة ولا توحي باعتماد الأساس الجغرافي بدل الاشتراك في الدين.

ثانيا: قول الأستاذ حفظه الله إن الوثيقة لم تذكر الجزية "التي أخذها المسلمون من المواطنين غير المسلمين فيما بعد " فلعله غفل عن أن المسلمين إنما أخذوها لقوله تعالى "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

ثالثا: هذا مع أن هناك آيات توضح أن الدولة الإسلامية قائمة على أساس الاشتراك في الدين لا الجغرافيا نذكر منها قوله تعالى " إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أؤلئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير".

فلو أن المعتبر هو العامل الجغرافي لما ربط الولاء بالهجرة من ناحية ولما لزمت النصرة في الدين لمن لم يهاجر وبقي خارج حدود الدولة الإسلامية من ناحية ثانية.

رابعا: أنه يمكن لقائل أن يقول أن الشنقيطي يحاكم الفكر الإسلامي إلى مفهوم العقد الاجتماعي لا العكس إذا قرأ مثلا هذه العبارات من مقاله "إن بناء الدول على أساس من قانون الفتح والتضامن العرقي (كما كان الحال في الإمبراطورية الرومانية والمغولية)، أو على قانون الفتح وأخوة العقيدة (كما كان حال الإمبراطورية الإسلامية) لم يعد مناسبا أخلاقيا، ولا ممكنا عمليا. فالدولة المعاصرة لا تتأسس على الاشتراك في الدين أو العرق، بل على أساس الجغرافيا" وقوله "ما يجمع بين الدول المعاصرة هو هذه الأولية لعامل الجغرافيا على العوامل الأخرى التي كانت أساس العقد الاجتماعي في الإمبراطوريات القديمة مثل الاشتراك في المعتقد أوالعرق".

خامسا: أن مفهوم العقد الاجتماعي هذا- رغم جبروته في الفكر السياسي في عالم اليوم- ليس في حقيقته سوى تفسير نظري افتراضي وتعبير اصطلاحي عن التفويض غير المطلق للحاكم من طرف المحكومين وإن تعدى هذا المعنى فلن يتجاوز الحمولة الوضعية العلمانية لفلسفة التنوير الفرنسية.


الفقهاء والعصر

أخيرا وفي ما يتعلق بتأثر الفقهاء القدماء بواقعهم فهو في الحقيقة أمر يمكن قوله عن المعاصرين أيضا في تأثرهم بالفكر الغربي ولقد لاحظ الأستاذ الشنقيطي بنفسه ذلك حين قال ردا على دعوة المفكر طارق رمضان إلى تعليق الحدود الشرعية "من الواضح أن القيم الغربية أثرت على العقل المسلم اليوم تأثيرا عميقا، ولم يقتصر هذا التأثير على العلمانيين، بل امتد إلى الإسلاميين أيضا، خصوصا المقيمين منهم في الغرب مثلي ومثل الدكتور رمضان، فبدأ مسار التكيف مع ثقافة مختلفة يتحول إلى رؤية أخلاقية ودينية" (محمد بن المختار الشنقيطي :عقوبات الحدود بين التعليق والتطبيق إسلام أون لاين ).


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!