التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:21:50 غرينتش


تاريخ الإضافة : 06.05.2010 11:27:32

الأسئلة المٌرٌة!! (2) مصداقية المعارضة 1-2

الدكتور/ أحمد سالم بن مايابى - أستاذ جامعي

الدكتور/ أحمد سالم بن مايابى - أستاذ جامعي

يُرادُ للأسئلة المرة أن تستمر، ويُملي الرفقُ بالقارئ والحرص عليه أن لا تكون مملة، وذلك يستلزم قسْمَ بعض المقالات شطرين، فهذا هو النصف الثاني من السؤال عن مصداقية المعارضة.

أثناء الحديث عن أزمة المعارضة فيما بينها وهشاشة ما يجمعها، وما تم من تعريج على جملة المظاهر المترجمة عجزا في فكر المؤسسة، وضعفا في طرق إدارتها، بدا فاعلوا المعارضة باحثين عن السلطان والحكم والنفوذ، مستمسكين بالكرسي أياً كان شكله. أما هنا فأراني معنيا بتولية الوجه شطر الأمثلة الحية لأسلوبهم في معالجة قضايا الأمة ومصائب المجتمع المتوالية، غير مطالب إياهم بتقديم الحلول، ولا تنفيذ السياسات، ولا أريد منهم أن يريقوا دما، ولا أن يفتحوا خزينة لتوزيع ما بها تفريجا عن مكروب، أو بلسمة لمجروح، وقد أكون غير منصف إن تطلعت إلى رؤية بيوتهم بـ"الكزرات"، ومكاتب لهم بـ"الكبات". ما أريده منهم لن يجد القارئ عنتا في فهمه، مشيرا بين يديه إلى ضعف الثقافة الحزبية في المجتمعات البدوية، فقيمة الولاء للمؤسسات الحزبية - حتى الآن- تبدو دون قيمة البراء، وظاهرة التنكر والانكفاء لدى ساستها أكثر انتشارا من ظاهرة الصمود والوفاء، فالناظر لفرسان التغيير مع ما قدموا من جليل تضحية، وما سطروه من شجاعة في ظروف قاسية كافأهم الشعب عليها بالإجلال والإكبار، يجدُهم لم تصمد مبررات لحمتهم المتنوعة أمام داعية الحظوظ الشخصية، ولم يمنعهم الحفاظ على مكاسب 2003 تفرقاً يخاله البعض وصل حد الخصومة، فلعبت بهم هوج الطموحات، وفتَّ في أعضادهم حب التصدر، وبات كلٌّ منهم -تقريبا- وجها بارزا في هيئة غير هيئته. ربما كان هذا لأن "المعاصرة تنفي المناصرة"، وربما كان لأمور أخرَ، هم أدرى بها، لا تصلح في رأيهم للإعلان عنها.

في هذا السياق؛ يصبح السؤال واردا عن السر وراء الهجرات المتوالية لشباب في ربيع أعمارهم السياسية، لا يجادل منصف في حبهم المجد والكرامة، ولا يكابرون هم أنفسهم فيما قدمته لهم المعارضة من تلميع، إذ نقلتهم من باب النكرة الحزبية إلى العلَمية السياسية، وحولتهم من عاطلين عن العمل يجوبون الشوارع، ويقضون الساعات الطوال أمام الشاشات إلى خطباء ومتحدثين إعلاميين؟ إلا يكن عرفُ البدوي في الظعْن إلى حيث يكثر المرعى فإن خلاصة هذا المقال ربما تساعد في فهم خلفيته.

لما ذا يجد قطار الترحال السياسي كل يوم من يقطع فيه تذكرة ويستقله من نواب المعارضة وبرلمانييها، وهم المستقرون ماليا، المحصنون دستوريا؟؟ يحدث ذلك في كل الأحزاب، ولا تتميز فيه جهة عن الأخرى من شرق البلد إلى غربه؛ ففي الحوض الشرقي مثال (آمرج) وفي الغربي نماذجُ، أما ولاية لعصابة - حيث المولد والمنشأ والأهل والجيرة - ففيها من هؤلاء عُصبة حتى لا نقول عِصابة، وإن كانت فصيحة، غير أن جهاز الإعلام ربطها في الأذهان بالمجموعات الطائشة، وهكذا تتوالى الشواهد، وللباحث عنها أن يَقيلَ بـ"مقطع لحجار".. كما له بِـ "أرْكيزْ" أن يلقي عصى التسيار. إنه نزيف حقيقي في دماء المعارضة. إنه تساقط مخيف لأعضاء جسمها الأساسية إن لم يعترف به الإخوة ويبدعوا آليات علاجه سنكون أمام احتمالين -لا قدر الله لهما ثالثا!!- إما أننا سنعيش عاجلا غير آجل عهد الحزب الجمهوري الثاني، أو أن مسحا ضوئيا سَيُجْرَى للطبعة الأولى من حزب الشعب ثم تسحب ليتم تداولها في موريتانيا الجديدة. وهذا خلاف الطموحات المشروعة لي وأمثالي، فضلا عن منْ هم أعلى كعبا، فتطلعاتنا منصبة على أن تنضج المعارضة فتكون جميع أطيافها فاعلة قوية لنشيِّعَ حكومة الحزب الواحد، ونقيم عزاءً للتفرد بالسلطة، فلا يجد الباحث في قاموسنا السياسي مصطلح الحزب الحاكم.

تلكم أولى القضايا التي لا تزال المعارضة لم تعطها حقها من العلاج، ولم تولها ما يكفي لاستئصال دائها وقطع دابر الظروف المؤدية لها. ومنها يتحول الحديث إلى قضية الانتخابات - التي ارتضى الجميع المشاركة فيها، وتولت المعارضة الإشراف عليها بنفسها، فكانت من أعلن عنها - لأصوغ الاستفهام كالآتي: هل كان مشهد الجفاء والقطيعة بين المكونيْن السياسييْن سيختلف لو اعترفت المعارضة بالانتخابات وأخذت بيد الفائز فصارت عونا له، رحمة للبلد التائه بين لعَب السياسيين وغيبة الأمناء، واستجابة للسنة الكونية حيث السباق لا بد فيه من متقدم ومتأخر، وأول وثان؟؟ أما أسيئتْ معالجة هذا الملف برفض الاعتراف؟ أهي عقدة سياسية، أم موقف شخصي، أو أنه عدم الإيمان بأركان الديمقراطية، والكفر البواح بآليات التناوب؟.

لما ذا ينصب اهتمام المعارضة على تنمية السخط ضد الأشخاص لا البرامج، فتفرغ طاقاتها البيانية في إنتاج خطاب احتجاجي لا يذر من معجم التنقيص مفردة إلا وظفها؟ لمَ لا تكون عملية التجييش هذه حكيمة، متدرجة، تنمو مع الوقت، ليتولى الشعب نفسه القيام بما يراد له، بعد تأصل الغضب فيه، وبعد تقديم ما يكفي من الأدلة الأخلاقية والفكرية على أهلية هؤلاء الزعماء لأن يكونوا بديلا أمثل وخيارا أفضل؟ أليس مثل هذا الطرح صورة أخرى غير ملونة ولا مدججة من الانقلابات؟.

ربما كان من المتوجه على مؤسسة المعارضة بمختلف مكوناتها وفقا للأدبيات العالمية للنظام الديمقراطي أن تشكل حكومة ظل، فتكلف فرَقا ولجانا بمتابعة كل قطاع من قطاعات الدولة، مستندة لقاعدة بيانات لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من التزامات النظام ووعوده وتشبعاته وادعاءاته إلا أحصتها وعلَّمتْ تاريخ استحقاقها فكانت حاضرة في مراحل التنفيذ جمعاء، لتكشف الفساد، وتقيم البرهان على التقصير وسوء التنفيذ متى حصل، محاكمة منْ هم في موقع القرار أمام الشعب، رافعة عنهم ستر الإعلام الرسمي بالصوت والصورة، والحقائق والأرقام ليُحرج الرئيس، ويُسقط في يدي وزيره الأول، وبقدر ما تكون بياناتها دقيقة وحجتها بالغة يكون سلطانها قاهرا نفوسَ الوزراء، يرتجف من طول ذراعه المديرون، وأما عقول رؤساء المصالح فلا ملام عليها إذا طاشت.

ما المانع أن يكون للمعارضة حديث أسبوعي، وإيجاز شهري، وبيان كل ثلاثة، وتقرير كل ستة، وحصيلة سنوية تستعرِض عمل السلطة، فتقدم بالأرقام والأزمان والأماكن ما أخْلِفَ من وعد، وما بُذر من مال، وما بولغ في تقويمه من مشاريع، وما نَقصتْ فيه الشفافية من صفقات وحامت حوله الشبهات من عقود تفضيلية؟ حينها ستكون مرجعا للصحافة، وذات مصداقية عند المؤسسات الدولية الشريكة والمانحة، ومحل ثقة من المواطن والمواطنة، وتلك غاية قصوى؛ دليلُ أنها لم تحرزها كونُها ما زالت تتمناها. بهذا الأسلوب وحده سيكون لكل فقرة تصدر عنها صدى، وسيقيم الحاكمون لها وزنا، لا منّاً منهم ولا تبرعا، بل رغما وكرها.

أين هي من "مافيا" السموم (الأدوية) المسببة السرطانات، الناشرة الآلام نشرا، الموزعة اليتم والترميل يمينا وشمالا، المشتة الأسرَ بما ترحله للمقابر من فلذات الأكباد، ضعفاء العبادِ، سواء منهم الحاضر والباد؟؟ لِمَ لا ترفع المعارضة دعاوى على موردي هذه الأدوية؟ لم لا تحاكم الجهلة "الوقافة" الذين تمتلئ بهم الصيدليات؛ إذ الصيدلة ما لهم بها من علم ولا لآبائهم، كبرت فعلة يقومون بها، وبئست أرباح تأتي بهذه الأساليب. إنه أمرٌ مشاهد متواتر، فأين هم منه؟؟

حين يسجن صحفي بناء على أمر قضائي حرَّكتْه دعاوى أفراد باحثين عن استيفاء حقوقهم، تهب المعارضة وتجيش حناجرها، ومواقعها الإعلامية شجبا وتنديدا، وشغلا للرأي العام بمسألة شخصية، غاية أمرها أن تكون خصومة بين اثنين من الشعب، لكل منهما حق على المعارضة في الدعم والمساندة. دليلُ الاختلال وعدم التوازن في هذه المسألة: القفز على أن المدعيَ مثلُ الصحفي، وأن القضاء هو ما ارتضاه البشر حكما بينهم، فانتظار أحكامه خلق المنصفين، وواجبٌ مُضيَّقٌ بموجب الشريعة والقانون، فكيف تكتسب قضية كهذه أهمية يشعر معها كل طيفٍ معارضٍ أو مترددٍ أنه مذنب إذا لم يصرحْ برفضها، ويصرخ بإنكارها مفرغا مداده الذي لم يسل حين عاشت العاصمة ظلاما دامسا الأيامَ واللياليَ مسببا آلاما للمرضى، مخلفا خسائر على التجار، مفسحا المجال أمام اللصوص... وحين تموت ساكنة العاصمة عطشا، ويصبح برميل الصدأ و"الفيروسات" ذهبا، تبدو المعارضة غير معنية بمقدار ما تستنفر لو سحب ترخيص مؤسسة، أو منعت تغطية مؤتمر.

حين يُحجرُ على قاصر في الفكر والحكمة، مظلم البصيرة، مُنشََّطٍ...، داعيةٍ للفتنة، مبشر بالشرذمة، مجاهر ببيعته الخارجَ، معلن التزامَه بِـ"أجندات" الأعداء تنطلق ألسنة المعارضة في الانتقاد، مدفوعة بموقفها من النظام المعزز بسوء الاعتقاد، متناسية أن وحدة الشعب وتماسك المجتمع وانسجام المكونات لا مجال فيها للمزايدات، وليست ميدانا للمعارضات.

حين يُزكم رجل أعمال داعمٌ للمعارضة، أو يُصدعُ زميلُه في تلك الصفة، الثريُّ من بيت المال تقيم هيئة المعارضة القيامة، وحين تزكم القمامة الجميعَ وتحيلهم إلى الطوارئ والحالات المستعجلة، هل تحس بأحد منهم أو تسمع له ركزا؟؟

هل يفوت على زعماء المعارضة والمنظرين لأنشطتها أن آلاف المغتربين والعازمين على السفر ممن هللوا لها ودعموا بما ملكت أيمانهم وحملت ذممهم يدفعون مئات الآلاف من الأوقية رشوة للحصول على حقهم الطبيعي الممثل في وثيقة تعرف الآخرَ بهم (جوزا السفر). يفعل مَن هم في الداخل تلك الفعلة الشنيعة اضطرارا للهروب من جحيم البلد، وأما من هم في الخارج فراغمهم الخوفُ من العلوق، وتجنب الغرامات. القائمون على هذه الخدمة ممن نبتت شحومهم وتكاثرت ثروتهم، ولم يبق لهم حياء مانع من إذلال الناس واستنزاف جيوبهم، ألا يستحقون هجمة شرسة من المعارضة لغاية أن تضطر الحكومة إلى إقالة مدير، ومحاكمة ثانٍ، والتشهير بثالث حتى يستقيم هذا القطاع الممركز في العاصمة، مع أنه ينبغي أن ينال خدماته ساكنة "باسكنو" من حاكم مقاطعتهم، وهو أولى الصلاحيات التي تمنح للسفراء، وأبسط الخدمات التي تقدم للجاليات في مهجرها.

حين تقف سياساتُ البنك الدولي، وتآمرُ وزارات التعليم على المجتمع المدعومُ بتقصير الأساتذة وراءَ تدني المستويات التعليمية فلا يُحرِز الثانوية العامة إلا أقل من عُشر المسجلين، يمر الحدث وكأنه شيء طبيعي!!! أيُّ وضع هذا الذي يسمح بتسريح تسعة أعشار الخلف بعيدا عن ميدان العلم والمعرفة؟ إنها كارثة لا تبقي ولا تذر، فأين منها المعارضة التي تتحدث باسم الموريتانيين؟؟.

بحسبما توصل إليه صاحب هذا القلم؛ لا يمكن أن توجد إجابة لمثل هذه الأسئلة إلا ولها وشيجة بضعف المنظومة الفكرية والقيمية والتنظيمية التي تحكم هذه المؤسسات و "تؤطر" عملها. وأيُّ جواب لا آصرة له بغياب الديمقراطية سلوكا وتطبيقا سيكون منقوصا، إن لم يكن مجتزئا، مذموما، مدحورا. إنني قد أذيع سرا للمرة الأولى، لكني لا أحدثكم كذبا حين أبوح بخشيتي من تلاشي المنظومة الحزبية - رغم ما بها من قصور- حين يمد الفناء يده لبعض الشخصيات، طالت أعمارهم وحسنت خواتيمهم.

للراغب في التلخيص والخروج بجُملٍ مفيدة مختصرة أقول بملء الفم: إن حُكم موريتانيا في المرحلة الحاضرة لا يستحق التصادم عليه، لأنه ورطة لا غبطة، وما هو بمنحة إن لم يكن محنة، وانتماؤه للتكليف أبينُ من نسبته إلى التشريف. ثم إني لا أرى المعارضة جاهزة لإدارة البلد، لا طعنا في أهلية القوم، ولا استباقا للأحداث، كلا، ولا مصادرة لقدرات زعمائها الملهمين، لكنَّ مُلِحّاتِ "المشروعات" وضخامة الاحتياجات، وتراكمَ الويلات أكبر من كل المتطلعين، وليست شهوة النفوذ، ولا الجراءةُ على الحكم كافيتين لفك كل هذه الطلاسم. ولِيأخذْ عني القارئ قولي: إن صناعة الإصلاح والنهوض تبدأ بمحاربة الفساد المستمرة إحراجا ففضحا لأصحابه فإزالة فمحاكمة، لا بجمع الناس حشودا وتوزيع الشعارات عليهم ليُطلقَ العنانُ للألسنة من المنابر عبر المكبرات استغضاباً وشحناً بالعداء، لأن رميَ زمام الكلمات على غاربها أمامَ الجماهير أقصى مفعوله أن يدفعهم للفوضى والتخريب إن كان بهم جهد وطاقة، وإلا فمزيد من اليأس والإحباط، وليس في الأمرين مكسب للمجتمع ولا لنخبته. وفي خاتمة الجُمَل أرقم: إن المعارضة لن تسدي للشعب نعمة أفضل من القيام بواجبها واستغلال سائر صلاحيتها، فهذا حق الشعب عليها، وثمن تمويل مؤسستها من الميزانية العامة، وقد قلت في مقال سابق عنوانه: "توزيع الحظوظ المنحوس والمحظوظ" ما نص إحدى فقراته: حَذارِ أن ينخدع رأس النظام بفكرة لمِّ الشمل، وتقريب المعارضة، رغبة في الاستقرار، فليس من مصلحته هو أن تنضم المعارضة، ولا فائدة للبلد في ذالك، فمن لا خصوم له لا مخاوف لديه، ولا رقيب عليه، كما أن مصيره في نهاية المطاف الانشغالُ بترضية هذه الشريحة حينا، ومراعاة مشاعر تلك تارة، وإمكانات البلد محدودة، وذات اليد ضيقة، فتنصرف الوجهة عن الإصلاح إلى كسب الخواطر وتتحول الصداقات إلى مضرات:
ومن العداوة ما ينالك نفعه**ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
الملاحظة الأخيرة: إن لرموز المعارضة صفحاتٍ ناصعةً من الإيجاب والفعل الحسن، فمن يتصفحها سيجدهم يحسنون صنعا وسيكتشف أنهم يُسِّروا لخير كثير إلا أن هذا المقال وقْفٌ على البحث عن المصداقية، فعن ندات القلم أعتذر، وفي شردات الريشة أستسمح، وكل ما فُهِمَ إساءة من الأسئلة المرة فهو غير مقصود، ولا حرج لدي في سحبه. وفي انتظار ما يستقبل من مقال، أختتم هذا المقال.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!