التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:21:36 غرينتش


تاريخ الإضافة : 09.05.2010 17:59:35

الهوية والتعددية الثقافية

السفير محمد فال ولد بلال سفير مورييتانيا في دولة قطر

السفير محمد فال ولد بلال سفير مورييتانيا في دولة قطر

ما دعاني للعودة إلى موضوع الهوية والتعددية الثقافية مرّة ثانية ليس فقط ما يمثله من أهمية حيويّة بالنسبة لبلدنا , ولكن لأني تلقيت من الأسئلة والملاحظات والطلبات , ما يقتضي توضيح بعض النقاط التي تناولها المقال من خلال إعادة نشره على نحو أكثر تفصيلا... وقد نالت الخلفية التاريخية لميلاد الدولة الموريتانية والمعطيات الجغرافية مكانة بارزة في الصياغة الجديدة للمقال.
وبهذا الصدد , يأمل أخوكم كاتب هذه السطور أن يفهم المقصود من عبارات "الجنوب" و "الشمال" الواردة في النّص فهمًا صحيحًا. إنها لا تخفي أي معنى عرقيّا أو طائفيّا أو جهويّا , وإنّما وردت لدلالتها السياسية والجيو-سياسية فقط.

- الهوية تنشأ مواجهـًة للخوف

لمّا كنت شابّا وتحديدا في سبعينات القرن الماضي كنت أعتقد – مثل غيري من شباب الكادحين- بأن الإنسان في صعوده سلّم الحداثة سيصل إلى مقام تتلاشى فيه الانتماءات العرقية والإثنية والقبلية ليحلّ محلّها الانتماء الطبقي (في المفهوم الماركسي)...استنادا إلى أن صراع الطبقات- وهو المحرّك الرئيسي للتاريخ حسب رؤيتهم- سينتهي إلى مجتمع عمّالي أممي يرقى بالإنسان عن القوميّات والأعراق والهويّات. وكانت هذه الرؤية أساسا إيديولوجيا للموقف السياسي الخاطئ الذي اعتمدناه في الحركة والحزب من مسألة "الهجرة" (الهجرة الزنجيّة المفتوحة على موريتانيا) والتي كانت في ذلك الوقت موضوع خلاف حاد ومناظرات ساخنة بيننا وبين الحركات القومية العربية. وللأمانة التاريخية ينبغي الاعتراف بأن إخواننا البعثيين والناصريين كانوا على صواب بهذا الخصوص , على الأقل.

وفي بداية التسعينات , لمّا سادت العولمة واقتحمت الليبرالية ساحة الفكر ظننت مع "افرنسيس فوكوياما" أن الانتماءات والولاءات والهويّات وغيرها من الخصوصيات ستزول ليحلّ محلّها "الإنسان الأخير" حسب تعبيره . بمعنى أن الاهتمام في المجتمعات سينصبّ على الكفاءة والإنجاز , وسيختفي تماما دور الأعراق والعشائر في الحراك الاجتماعي , ليكون للفرد قيمة اجتماعية أصالة عن نفسه نابعة من كفاءته الشخصية, لا من انتمائه لهذه الفئة أو لتلك الإثنيّة . ويعود ذلك في تقدير الليبراليين لدور التعليم ولسيادة قيّم السوق ولتعمّق وسائل الاتصال والتي ستعمل جميعها على تفكيك المجتمعات القديمة وإعادة صهرها في المجتمع الحديث.

ولكن الواقع المعيش منذ بداية القرن الحالي أثبت لديّ خطأ هذه المقولات والأطروحات ...لقد شهد العالم خلال العقدين الأخيرين – على عكس هذه التنبّؤات والتحليلات- تصاعدا كبيرا في الاهتمام بالانتماءات القبلية والإثنيّة والعرقيّة والثقافية , وغيرها من الو لاءات الضّيقة. تبدو الصورة وكأنّ المجتمعات تزداد حماسا ونشاطا في البحث عن جذورها وهويتّها كلما ازدادت مواجهتها لعواصف التّحديث والعولمة. وهذه الظاهرة لا تنحصر على ا لدّول المتخلفة , بل هي ظاهرة عامة تشد انتباه كل دوّل العالم لما تحمل في طياتها من تهديد للوحدة الوطنية وللتكامل القومي.

ومن أمثلة ذلك ما حدث في جمهوريّات الاتحاد السوفياتي السابق , وفي منطقة البلقان, وفي آسيا الوسطى, و في غيرها من بقاع العالم...ومن أمثلته ما يحدث حاليا في فرنسا حيث أعلنت الحكومة عن مناظرة وطنية مفتوحة بعنوان : "أي هويّة لفرنسا ؟,,شأنها في ذلك شأن الدوّل ا لأوروبية كافة التي ما فتئت تسنّ عشرات القوانين العنصرّية والظالمة بحجّة "الدفاع عن القيّم" والحفاظ على "الهويّة". وفي منطقة الخليج العربي, باتت مسألة "الهوية" مصدر قلق شديد, وهي -باتفاق المحللّين – تحتلّ المقام الأول والأخطر على قائمة التحديات الإستراتيجية التي تواجه دوّل مجلس التعاون.

ومن أمثلته كذلك ما يحدث في البرازيل حيث استيقظ الشّعور العرقي وتحرّك الإحساس القومي لدى الملايين من السوّد وطرحوا فكرة العودة إلى "مواطنهم" الأصلية في إفريقيا. وغير بعيد من هناك الزنوج الأمريكان يتمسّكون بجذورهم الإفريقية ويتشبّثون بولائهم الدائم للقارة الأم, رغم عصرنة بلدهم وتقدمه في شتى المجالات... هكذا هو الإنسان –بصرف النظر عن مكانه وزمانه- كلّما ضاقت عليه الأرض بما رحبت وحاط به المجهول, لجأ إلى العشيرة,,, أو الفئة,,, أو العرق بحثا عن ملاذ... والعاقل من اتعظ بغيره !

ومن الأمثلة الدّالة على كون الإنسان يعود إلى جذوره ويبحث عن هويتّه وانتمائه القبلي والفئوي والقومي كلّما ازدادت عليه ضغوط العصرنة والتحديث, ما يحصل عندنا في موريتانيا : كلمّا حاولنا أن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام على درب الإصلاح , كلمّا تراجعنا خطوتين إلى الوراء ووقعنا في فخّ القبيلة والفئة والشريحة والإثنية. هذه حقيقة ثابتة ينبغي التعامل معها بمسؤولية وحكمة وبأعصاب باردة. لا خوف منها ولا تشنّج ولا توتر ولا قلق. إنها ظاهرة اجتماعية قائمة, لا تخصّنا عن غيرنا , بل هي أقرب لأن تكون مرتبطة بالإنسان ككيان محافظ ومتعدد الأبعاد.

إلا أنها على مستوى الأمة والوطن حالة مرضيّة تنمّ عن ضعف في المواطنة, وتشويه في الهويّة, ونقص في إدارة التنوّع الثقافي والتعدّد القبلي والقومي, وتقف عقبة في وجه بناء الدولة, أو على الأصح في وجه إصلاح ما أفسده الاستعمار.

ما قبل الاستعمار ...انسجام مع الذات.

في الظروف العادية, لا يعتبر التعدّد الثقافي أو القومي مشكلة في حدّ ذاته بل يمكن أن يكون مصدر إثراء وقوّة. لكن إشكاليتّه برزت عندما تمّ تسييسه من طرف المستعمر. فقبل الاستعمار, كانت الأوضاع في أرضنا تسير بصورة طبيعية, حيث تعايشت الكيانات الإثنية والقبلية المختلفة في انسجام ووئام وسادت فيها "إمارات" اختلطت فيها الأعراق واللغات والثقافات, قوامها الإسلام واللغة العربية والمصالح الأمنية والمعيشية المشتركة لمختلف السكان .

وهكذا كانت إمارة "اترارزه" مرتبطة بحلف دائم مع "الوالو", وإمارة "لبراكنة" مع "التورو" و "إمامية" الفوتا (أولاد السّيد مع آل مام لي وآل سيْدي كان-وأولاد نغماش مع آل سيْدي وان- وإجيجبه مع معظم قبيلة هاليبة") وفي غورغول, كانت أولاد أعل بن عبد الله ولمتونه وليتامه في تحالف قوى مع جماعات "بوصيابه" وقبائل "إفلاّن" من لعكيلات إلى "الواد لخظر". وفي لعصابه وكيدماغة, أهل سيدي محمود وإدوعيش (اشراتيت) والشرفة كانوا مرتبطين بتحالف وعهود مع "اكصور كنكاره" من امبود إلى وادي "كراكور",,,وهناك من التحالفات والعهود مما لست أعلمه في هذه المناطق وغيرها. هذا طبعا بالإضافة إلى المدارس والمشارب الصوفية والمحاظر الدينية المشتركة والانخراط الواسع لقبائل التكرور والفلاّن في جيش "المرابطين" وتعبئة أطراف كبيرة من قبائل العرب تحت لواء الحاج عمر الفوتي دعما له ومحبة في الدين وفي المقاومة.

وفي تلك الفترة, لم تكن تفصل بيننا حواجز ولا حدود فيما بيننا ولا فيما بيننا وبين غيرنا في الفضاءات المجاورة بل كان يجمعنا حيز مكاني واحد , عبارة عن إقليم عشبي بالنسبة للمجموعات الرعويّة أو إقليم مملوك ملكيّة عرفيّة بالنسبة للمجموعات الزراعية. ومن الغريب أن مجالنا الحيوي والحيز المكاني الذي يجمعنا كان أوسع بكثير ممّا تتيحه اليوم حدود الدولة . فمثلا كانت الأقاليم العشبيّة تمتد إلى حيث يمكن أن تصل قطعان الحيوان بلا حدود...وكانت الأرض لمن أحياها... أيضا بلا حدود .



ولو تركنا وشأننا , لسرنا بشكل طبيعي إلى بناء دولة مركزية جامعة –عبر المنافسة والصراع وربّما الحروب بين الإمارات- تكون نتاجا أصيلا للتطور التاريخي للمجتمع, تتكوّن في أحشائه , وتولد من رحمه, وتعبّر حقًا عن هوّيته وثقافته. وممّا لا شكّ فيه أن هذه الدولة لو أنها تأسست لكانت بالضرورة دولة إسلامية ولغتها العربية لما لها من تفوقّ ثقافي يسمو على اللغات الأخرى الخاصة بكل مجموعة إثنيّة.

ولكن وقع الانكسار المتمثل في الغزو الخارجي لأرضنا, وتوقف بسببه التطور الطبيعي الداخلي للمجتمع. بل تغيّر مسار تاريخنا وانحرف عندما أسس المستعمر دولة أجنبية, غريبة علينا فكريّا وثقافيا وأخلاقيا وزرعها بالقوّة في جسم مجتمعنا ونحن لها رافضون. وحصل ما يشبه الانفصام بين المؤسسة الحاكمة وبنية المجتمع الذي احتوته الدولة المصنوعة. ومنذ ذلك التاريخ , والموريتانيون يبطنون للدولة العداء ويتعاملون معها وكأنّها جسم غريب (دولة النصارى) على قاعدة "كف الضرّر وجلب المنفعة".

دولة الاستعمار... تشويهٌ للواقع و طمسٌ للهوية

لقد أسس المستعمر "دولة موريتانيا" ضمن حدود سياسية وإداريّة مصطنعة قطّعت أوصال المجتمعات والثقافات واللغات , في إطار إستراتيجيته العامة لرسم الحدود على طول خط التماس الأفقي الممتد بين النهرين : من السنغال إلى النيل, أي من موريتانيا إلى السودان مرورًا بمالي والنيجر واتشاد, مخلّفا في كل هذه البلدان أزمة بناء دولة متماسكة الأطراف ومنسجمة الجنوب والشمال. ولذلك أضحت أزمة الهويّة واحدة من أكبر القضايا التي تواجه المشروع الوطني للدولة في القارة عموما وفي هذا الشريط خصوصا, حيث لازالت كلّ دولة فيه تعاني أزمة التكامل القومي, وتبحث عن خيوط الوحدة وعناصر نسيجها وضمان توازنها واستقرارها .

في عموم المنطقة المعروفة اليوم بدوّل "الساحل" (؟) والتي أسمّيها "دوّل الشريط الرابط بين النهرين" فقد جاء الاستعمار من جهة الجنوب وجعل من الجنوب مركز الدولة التاريخي في كل قطر منها باستثناء السودان التي جاءها الإنجليز من جهة الشمال وهو ما عزّز موقع الشمال السوداني مقارنة مع باقي دوّل الشريط. أما في موريتانيا ومالي والنيجر واتشاد, فإن الجنوب والوسط الجنوبي , دخلا مخيّلة المستعمر الفرنسي انتقائيا لاعتبارات مختلفة, منها : التقرّي, والكثافة السكانية, وحفظ النظام , والسلم والأمن, والتنظيم الأهلي, والنشاط الزراعي, والارتباط العضوي بمجموعة مستعمرات غرب إفريقيا...

وهكذا, شاءت الأقدار أن تكون ضفة النهر والمناطق المحاذية لها مركزا وقلبًا نابضًا لبناء الدولة بالمعنى السياسي والموقع الجغرافي والاستراتيجي , وتكوّن فيها ومنها الجيل الأول زنوجا وعربا من المساعدين الإداريين للجهاز الاستعماري , في غياب شبه تام أو تغييب لأغلبيّة السكان "الرّحل". وفي السياق ذاته , وضمن الجهود الرامية إلى تشتيت الكيانات الثقافية الموجودة قبل الاستعمار والمتماسكة بفعل الدّين الإسلامي واللغة العربية, جاء المستعمر بلغته وفرضها قهرًا ليزيح العربيّة التي كانت هي اللغة المكتوبة الوحيدة المشتركة للسكان. وبدأ في زرع الشقاق والنفاق , وفي تدمير الوحدة وطمس الهوية وتسييس التعددية الثقافية والإثنيّة عملا بالنهج المعروف : "فرّق تسد". ولن أتعرّض هنا –عمْدًا – إلى تفاصيل ما قام به من تفكيك للوحدة وزرٍع لبذور الفتنة. مثلا, لن أذكر سعْيه الهدّام إلى بناء مجتمعين منفصلين داخل المجتمع الواحد,ونظامين مختلفين لإدارة البلد الواحد : إدارة عسكرية في الشمال ومدنيّة في الجنوب, ولن أذكر سعيه للتفرقة عندما شرّع عدم المساواة بين العرب والزنوج أمام الضرائب والخدمة العسكرية. والأدهى من ذلك والأمر أنه ألغى "الدّراعة" من الزّي الرّسمي للبلد في مرحلة معينّة حيث كان يفرض قميصا أبيض وسروالا أسود, قبل أن يتراجع و يسمح بالدّراعة شريطة أن تترافق مع "الفوقيّة" في الملبس ؟

وهذا ما يذكرّني بما قاله صموئيل هنتنغتون في كتابه الشهير "صراع الحضارات" عن تركيا التي وصفها "بالدولة الممزّقة" التي يحاول قادتها جعلها جزءا من الغرب رغم أن تاريخها وثقافتها وتقاليدها ليست بالغربيّة.

دولة الاستقلال ...وضبابيّة الموقف

وبعد عقود, ذهب المستعمر,,, وخلّف وراءه قنابل موقوتة. وما كان الرئيس المختار ولد دادّاه رحمه الله –رغم وطنيته وشجاعته وإخلاصه وعقله- يستطيع فعل الشيء الكثير, وقد أورثه الاستعمار دُّويْلة ناقصة السيادة والوجود , لا قوام لها بذاتها , بل هي مجرّد حديقة خلفيّة بائسة لمجموعة غرب إفريقيا (AOF) , لا صلة لها بالمجتمع الموريتاني. عاصمتها في السنغال , وكذا الميناء, والمطار, والبريد, والخزينة, والهاتف, والعملة النقدية , ومصالح التعليم والمنح والامتحانات, والصحة, والأشغال العامة, والمياه والغابات , والجمارك, إلخ... كل المصالح الإدارية الحيويّة كانت مشتركة , ومقرّها في السنغال ولم ينتهي فك الإرتباط (نظريا) إلاّ في العام 1963 تقريبا. وهو ما حمل الرئيس المختار على القول بأن "موريتانيا لم تعد مستعمرة فرنسية ولم تعد دائرة سنغالية". أما عن الكادر البشري, فكانت النخبة المؤهلة اقتصاديا وسياسيا لخوض مرحلة ما بعد الاستقلال في الحقيقة إفراز لتأثيرات الاستعمار بمكوّناته وأبعاده الثقافية والفكرية والإدارية والتعليمية . وبالتالي فإنّها, ونظرا لظروف نشأتها وتكوينها في أحضان المستعمر وارتباط بعض مصالحها ببعض مصالحه, ونظرا إلى ميزان القوى السائد آنذاك والذي لا يقيم أي وزن للعربية والعروبة في بلد مولودٌ إفريقيا ومدعومٌ فرنسيا ومرفوضٌ عربيا وعاصمته "منقولة" للتوّ من "اندر... Saint-Louis.

فإنها –أعني النخبة- لم تكن قادرة على دفع الصرّاع من أجل هوية وطنية رشيدة إلى مدى يذكر في إطار دولة ولدت من رحم السلطة الفرنسيّة , ومن ثمّ عاجزة عجزا وراثيا أو جينيّا (génétique) عن بلورة سياسة ثقافية مستقيمة , مهما كان إخلاص رجالها. ومن هذا المنظور يكون الرئيس المختار قد أفلح عندما أعلن عن رؤيته الشهيرة : "موريتانيا : همزة وصل بين العالمين العربي والإفريقي" لأنها, ونظرا للظروف القائمة آنذاك, كانت رؤية تقدميّة وإصلاحيّة باعتبارها أوّل خطوة نحو العروبة والعرب, رغم كونها رؤية غامضة وضعيفة إذ تضع البلد في موقع متردد ومتذبذب "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء". واستمر الحال على ما هو عليه من ضبابية وغموض صعودًا وهبوطًا, مدًّا وجزرًا, تقدّمًا وتراجُعًا, مبدئية وبراغماتيّة, اعتدالاً وتطرُّفًا. واستمر بعض "أهل السياسة" حركات وأفراد –جيل بعد جيل – معارضين وحكام في توظيف التعدّد الثقافي والإثني واستغلاله كلّما أرادوا من خلاله كسب نقاط رخيصة أو تحقيق مصالح خاصّة. وتفاقمت الأزمة المرتبطة بتحديد الهوية مع منتصف الستينات, عندما استيقظت غالبية السكان من العرب والزنوج ليأخذوا حقهم في اللغة وفي التوظيف واصطدموا بجهاز الدولة "الموروث" عن الاستثمار, والمناقض بطبيعته وهويته وماهيته للعروبة والتعريب. وكانت الشعارات المطالبة بالتعريب مثل : "نحن عرب" و "نعم للتعريب" تغطيّ الجدران وتغصّ بها المناشير المحظورة تحت جنح الليل. وهنا, أعود وأكرّر بأنه لا مطعن أبدا في وطنيّة غالبية رجال الاستقلال وطموحاتهم التحرريّة وعلى رأسهم الرئيس المختار,,, ولكن السياسة هي السياسة...لقد كانت ومازالت وستبقى فنّ الممكن, محكومة بظروف الزمان والمكان وموازين القوي...لا محلّ فيها للعواطف والخيال.


إشكالية اللغات وتجليّات الأزمة :

ظل البلد يدور في فراغ , يراوح مكانه, لا يتقدم إلاّ ليعود أدراجه,,,من سياسات تعليمية إلى أخرى, ومن إصلاح إلى فساد إلى إصلاح, ومن أحداث مدرسية وطلابّية إلى أحداث في الشارع, ومن مناوشات ومشادات في القمّة إلى توترات في ثكنات الجيش , إلخ... بين دعاة التعريب (عربا وزنوجا) والمناهضين له (زنوجا وعربا). والأزمة هنا لا علاقة لها بالعرق أو الجهة أو الإثنيّة أو عدم قبول الآخر , بل هي مرتبطة بالهوّة العميقة والتناقض التاريخي القائم بين النظام السياسي والتعليمي من جهة وبين مكوّنات المجتمع ومصالحها الاقتصادية والثقافية . كما أنها تعكس فشل النخبة في إصلاح ما أفسده المستعمر, وعجزها عن دمج وصهر مكوّنات الشعب في بوتقة دولة قومية واحدة ونظام تربوي وتوظيفي يوفر الضمانة الفعلية لوحدة وطنيّة مستدامة. ولهذه الأسباب ظل الشعب مضللا عن حقيقة ما يعانيه وعن جوهر الخلاف وأطراف النزاع, وظلّ محاصرا في سيّاق جدليّات زائفة واستعمارية في الأصل , مثل: عربي أوزنجي, إفريقي أوعربي, فرنسية أوعربيّة , تعريب أوتفرنس, أبيض أوأسود, كبلة أوشرك ,,, وفي السنوات الأخيرة أضاف بعضهم : بيظان وحراطين !!! وتبعا لهذه الثنائيات جاؤوا بمفاهيم أقل ما يقال عنها أنها تنفخ في نار الفتنة ورفعوا شعارات تلاحق إيقاع العصر وتنسجم مع " الموضة" مثل "التهميش" و"الإقصاء", و"الاضطهاد الثقافي" , إلخ... حسبنا الله ونعم الوكيل...

لا أعتقد أن موريتانيّا واحدًا لديه مثقال ذرّة من الوطنية تسرى في عروقه لا يتألم بالليل وبالنهار على ما يسمع ويرى من تمزيق للأواصر وتعميق للتناقضات , ومن هجوم جارح على ما يمثل ثوابت في الإدراك الموريتاني, ومن طعن في منظومة القّيم والمبادئ التي بها قوام المجتمع والبلد. ولكن الأمر عادي في سياق مجرى التاريخ الذي أشرت إليه آنفا , وينبغي التعامل معه بهدوء وصبر وانفتاح . ذلك أن مسألة الهويّة, والتعددية الثقافية , والانتماء القبلي والفئوي ...كلها مسائل حسّاسة جدّا, وعندما تفرض نفسها على المشهد السياسي, فإنها تستوجب الدراسة والنقاش والحسم. لا مهرب منها ولا خلاص إلاّ بالتصدّي لها بروح سمحة تقبل الحوار والمصارحة, وبحكمة واعتدال وتجرّد علمي بعيدا عن الانفعال والعاطفة واللاّعقلانية. فالخطر كل الخطر يكمن في تجاهلها وعدم المصارحة بشأنها. والخير كل الخير في معالجتها بالحوار البنّاء لنزع سمومها وتفريغ شحنتها وتخليصها من إشكالاتها الإقصائية والحادّة وإدخال مفاهيم التسامح والعدالة في جوهرها.




وهذه حقيقة ندركها جيّدا عندما نستحضر ما آلت إليه أوضاع البلد من تأزّم في نهاية الثمانينات لمّا انقطعت سبل الحوار وتغلبت لغة العنف والعنف المضاد على لغة العقل على المستويين الرّسمي والأهلي. أمّا اليوم ونحن نجني ثمار المصالحة ونتذوّق طعم الألفة ونعيد بناء الثقة, فإنّي لا أجامل عندما أقول إن لدينا فرصة ثمينة في ظلّ رئاسة السيد/ محمد ولد عبد العزيز لما هو عليه من قوّة في الشخصيّة وإقدام والتزام بهيبة الدولة وقدرة على الحسم,,, لأن نخطوا خطوة جوهرية في هذا الملف قبل نهاية مأمورّيته الحاليّة.

آراء وأسئلة للنقاش...

ومن أجل ذلك , فإن النخبة مدعّوة لأن تسمو فوق الواقع المشوّه وتؤسس لواقع جديد وسلوك حضاري رفيع يتجاوز الانتماء الضيّق بخطاب وطني جامع ومنهج قومي شامل لتكوين أمّة موريتانية واحدة وموحّدة تضع حدّا للجدل القائم, فتتشكل هويّة جامعة يتفق الجميع , وبإقناع كامل, على توصيفها وتسميتها , حتى تجد كل مكوّنات شعبنا العزيز مكانتها في الخطاب القومي والإعلام الوطني ويتأصل داخلها الإحساس بأنها جزء من هذه الهويّة, وأنها جزء من الشخصية الموريتانية, وأنها تساهم في تشكيل الطابع القومي والثقافة العامّة للبلد. وهكذا تتحول الهويّة من جبريّة إلى اختيارية ومن صلبة إلى مرنة. هل لا يستطيع المواطن الموريتاني أن يجمع في ذاته وعقله وهمّه بين العروبة والإفريقية, وبين الأبيض والأسود , وبين العربية واللغات الوطنيّة الأخرى, وبين العربية واللغات الأجنبية وخاصّة اللغة الفرنسية التي لها ماضي في البلد والتي هي لغة إقليمية تربطنا بالجوار؟ وهل سيمنعه الجمع بين هذا وذاك من أن يعيش عروبته كاملة غير منقوصة إن كان عربيّا أو يعيش زنجيّته كاملة غير منقوصة إن كان زنجيّا ؟ وما المانع من أن يكون لكلّ واحد منّا هويتّه الخاصّة وأن يكون للوطن الذي يجمعنا هويته العامة, تعبيرًا عن جمعنا واجتماعنا ؟ وهل في الأرض أو في السماء هوية جامعة وروابط أقوى وأعظم من الهويّة الإسلاميّة التي تجمعنا معزّزة بوحدة المذهب , ووحدة الأرض ووحدة المصالح ووحدة المصير ؟ ألا ترون أن واقعنا ولسان حالنا يقول إن لكل فرد منّا هوّيات وانتماءات متعددة من دين وجنس وثقافة ولغة وأسرة وفاخذيّة وقبيلة وقرية وجهة ومنطقة ووطن وجوار , إلخ... ؟ ألا يعتبر حصر المواطن الموريتاني على هوية واحدة اختزالا له ودافعا إلى الانغلاق والتعصب ؟ وهذا لا يعني عندي الاعتراض على أن لكل ّ واحد منّا هويّة واحدة أساسية ولكنه اعتراض على أن تكون له هويّة وحيدة طاردة لغيرها.




وفي هذا المعنى جاء دستور البلاد الحالي مؤكّدا على أن الشعب الموريتاني شعب مسلم وعربي وإفريقي ولم يبقى لنا سوى العمل على ترجمة هذه الهوية الجامعة على أرض الواقع, عبر انصهار كلّ مكوّنات الشعب في مجموعة وطنيّة واحدة تعترف بالتنوع وتحترم التعدّد, ولكنها تضم الجميع جنبا إلى جنب دون استعلاء أو استلاب.

وسعيا إلى ذلك علينا أن نتفق على نظام تعليمي فعّال ومرن يكون محتويا لنا جميعا, مساويا بيننا ومتخلصا من رواسب الإقصاء وطرد الآخر. ومن هنا, فإن الرجوع إلى تاريخ الدولة والظروف التي اكتنفت تأسيسها في أحضان مجموعة غرب إفريقيا الفرنسية (AOF) يؤكد أن اللغة الفرنسية –شئنا أم أبينا- صارت عبر الزمان وتشبث بعض النخّب بها حقيقة مرّة من حقائق البلد , على الأقل من باب الأمر الواقع وعلى المدى المنظور , حيث لا يمكن القفز على حقبة تاريخية كاملة مهما كانت قائمة على الظلم والعدوان, والقضاء عليها هكذا بجرّة قلم إرضاءً للعاطفة والوجدان. هذا لمن أراد أن يتعامل بجدّية وصدق مع الواقع كما هو, وليس كما يتصوّره أو يريده...

وبهذا الخصوص, علينا أن نعلم أنّه مهما بلغ بنا الشوق والحنين إلى الوطن العربي, ومهما بلغ تعلقنا بالتّاريخ والجذور, وانسلاخنا من موقعنا الجغرافي, ومهما تخيّلنا العيش في "القدس" , و "بغداد", و "دبي", و "عرفات" , و "دمشق", و "الرياض" , و "تل الزعتر" , و "الفلوجة", و"الدار البيضاء" فإننا لن نستطيع الذهاب بعيدًا عن "اندرْ" و "دكار" و "اللوكة" و "بكّلْ", و "بانجولْ", و "خايْ" و "النوّاره" و "بمكو" و "بدجاه", إلخ...

ولكن بالمقابل على الرأي الآخر أن يعي جيّدا أن موريتانيا اليوم لم تعد ذلك الكيان الهزيل التابع للأجنبي والمعزول عن الوطن الأم لأغلبية سكّانه "الرّحل". ولم يعد ثقل الدولة ومركزها الأساسي في جنوبها ووسطها الجنوبي , بل تحوّل تدريجيّا نحو عمق البلد منذ أن بدأنا نأخذ بأسباب الاستقلال (وكان البعض يسمّيه "الانفصال") والتحرر السياسي (مراجعة العلاقات مع فرنسا, ودخول جامعة الدول العربية), والاقتصادي (تأميم "ميفرما", وصك عملة وطنية), والثقافي (بداية التعريب, وإنشاء بكلوريا وطنية, ونواة جامعة, ومعهد لتطوير اللغات الوطنية...), والاستراتيجي (بناء الميناء, والمطار, وطريق الأمل, والبريد, إلخ...) وفي ظل الواقع الجديد , يستحيل عقلا إنكار أن اللغة العربية –أبى من أبى- أصبحت بحكم التطورات الداخلية والدولية منذ الاستقلال إلى الآن هي اللغة الأولى والرسميّة للمجتمع والدولة. وهو ما يكفله دستور البلاد.




وبخصوص اللغات الوطنية الأخرى, فهناك من يطالب بترسيمها وتدريسها سبيلا إلى إلغاء الفرنسية وتأكيدا للهوية. إلاّ أن هذا الرأي لا يقبله المنطق ويرفضه الواقع. إذا ما نظرنا إلى القارة الإفريقية من حولنا , نجد أنه باستثناء اللغة السواحيلية في شرق ووسط إفريقيا, ثم الأهرية في أثيوبيا, والتغرينيّة في أريتيريا, والعربية في شمال إفريقيا "لا تعتمد أي دولة إفريقية لغتها المحليّة كلغة رسميّة. وطالما أن لغاتنا الوطنية "البولارية والسونينكية والولفية" -رغم احتكاكها وتداخلها مع العربية منذ القدم ومع الفرنسية منذ عقود- لم ترقى إلى مستوى الترسيم والتدريس في أي دولة إفريقية تتواجد فيها , فلماذا تكون موريتانيا –على وجه الخصوص- مطالبة بالنهوض بها وكتابتها وتدريسها وترسيمها ؟ أعتقد أنه رأي مجحف بالبلد وغير منصف لمجموعاتنا الزنجيّة على الأقل في الوقت الحالي, لأن هذه اللغات ولأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية غير قادرة على المنافسة والعبور بأهلها إلى شاطئ النماء عبر أمواج العولمة المتلاطمة.

خلاصة القول , إن أقصى ما يمكن تصورّه نظريّا في موضوع اللغات , هو ما جاء به دستور البلاد الذي هو محل إجماع وتقدير من قبل الموريتانيين. فرئيس الحزب الحاكم وزعيم المعارضة الديمقراطية قد ذكّرا به وطالبا باحترامه قولاً وفعلاً, وكذا الأحزاب الأخرى وقادة الرأي وأصحاب الشأن. ولم نسمع عن أي جهة سياسية معتبرة في البلد رفضها لما جاء به الدستور. أما على الصعيد العملي فيمكن الاقتباس مّما توصّل إليه الإخوة في السودان الشقيقة , وهو : تحديد اللغة العربية كلغة قوميّة رسميّة, وتشريع اللغة الأجنبية كلغة مستخدمة إلى جانب العربية في الأداء الحكومي, مع إشارات تعطى المستويات الأدنى من الإدارة حق اعتماد واستخدام اللغات المحليّة. ولكن إخوتنا في السودان لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من ترتيبات متفق عليها إلاّ بعد أن أيقنُوا بأن "المسكوت عنه هو ما يفرقهم" كما قالوا, فرفضوا عندئذ السّكوت وبدؤوا المناقشة والحوار بصراحة وهدوء.

والله ولي التوفيق, وهو المستعان


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!