التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:19:31 غرينتش


تاريخ الإضافة : 26.07.2010 15:34:38

منسقية العمل القومي الإسلامي في موريتانيا بين التكتيكي والاستراتجي..

محمد الكوري ولد العربي- إطار في حزب الصواب

محمد الكوري ولد العربي- إطار في حزب الصواب

لم تخل ساحة قطرنا ، منذ عشرين سنة، من طرح سياسي، من جانب القوميين، يطالب بمراجعة أساليب العمل في الخطابين الإسلامي والقومي، بهدف استكشاف مساحة المشترك المتسعة بينهما، والتغلب على "آفة التخندق الفكري المتفشية في الحياة الثقافية" على الصعيد القومي عموما ، والصعيد القطري خصوصا؛ حيث العوائق النفسية والأحكام المسبقة والمهاترات هي عملة التداول في حقل الإعلام، بين الخطابين.
ولم تفلح تلك الأصوات التي طالبت بضرورة التقارب بين القوى القومية والإسلامية أن تنقل هذه الرغبة من حيز الترغيب الواعظ إلى دائرة الوعي الإيجابي لدى قواعد القوتين للضغط باتجاه خطوات التنفيذ.. ثم إن الواقع السياسي- وبخاصة المتربعين على قمته، مثل الحكومات والنخب العاملة معها، وأيضا القوى المدعومة من الجهات الغربية- لم يكن في صالح هذا التقارب؛ إن لم نقل ، بشيء من الحذر، إن الحكومات المتعاقبة والقوى المضادة إديولوجيا عملت ما بوسعها لزرع الأشواك والألغام في مساحة شاسعة مما هو مشترك بين الخطابين إلى درجة التدابر الكلي( القوميون يرفضون الإسلام السياسي لأنه تبسيط مخل وتسطيح ، والإسلاميون ينفون الطرح القومي العروبي كونه تمرد على الله ومبدأ الحكمية له) ، مع أن المساحة المشتركة بينهما هي بسعة الإسلام والعروبة، وهما صنوان متلازمان تلازم الروح والجسد ، والنور والمصباح ، تلازم جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم، تلازم محمد النبي المرسل للثقلين، ومحمد المبعوث في أمة العرب ،المصطفى من أنبل الأصلاب من رجالها وأطهر الأرحام في نسائها؛ أمة هي أكمل الأمم أخلاقا .. وأقربها إلى الفطرة..
ولم يكن هذا التلازم يطرح إشكالا في صدر الإسلام ، قبل أن يتسلل الفكر الشعوبي إلى بنية نظام الدولة في الإسلام!
إذن، هذا الموضوع لا يمكن فصله في تطوراته عن تطور الأوضاع الدولية ؛ فالمآسي التي حدثت ، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما لحق المسلمين عامة والعرب خاصة جراءها من عذابات بينت أن العدو لا يضع فاصلا ، في استهدافه، بين العرب والإسلام؛ فالعرب عنده هم الإسلام، والإسلام هو العرب.. إن رؤيته للتلازم بين الإسلام-الدين ، وللعرب –الحاضنة الأم لا غبش فيها!!
إن واقع الأمة اليوم هوما له الفضل في ارتجاج أسوار الدوغمائية "التمييزية" ، بين الإسلام والعرب، لدى شرائح واسعة من المنتمين للخطابين القومي والإسلامي؛ بحيث تزايدت الأصوات والكتابات الداعية إلى تحالف مقدس يذيب هذه الأسوار الوهمية ، ويفعل الحركة التاريخية للقوى القومية بالمعنى الشامل ، الذي يضم قوى الأمة بشتى عناوينها، على أساس ثابت واحد هو درأ الخطر الرهيب الذي يتهددها، ولا يستثني منها مفردة واحدة..
المخاض.. والولادة!
تفاعلت ،إذن، الدعوات لعمل قومي إسلامي مشترك في الساحة الموريتانية – وهناك تأسي بالمؤتمر القومي الإسلامي في المشرق- فأثمرت لقاءات قادت في النهاية إلى مخاض دام أكثر من سنة ، وإلى ولادة طبيعية لمولود جديد في موريتانيا ، أطلق عليه المؤسسون " منسقية العمل القومي الإسلامي في موريتانيا" .. فهل نحن، يا ترى، إزاء كيان سياسي يمتلك مقومات الحياة والديمومة في مناخ سياسي، بقطرنا، متقلب، ورأي شعبي مأزوم ومحبط؟!..ليس السؤال ،هنا، من قبيل التشكيك أو الريب ؛ إنما هو شك منهجي ، علمي ، موضوعي على مثال شك ديكارت ، الذي قصد منه تحصيل يقين يقوم على أسس مكينة لا تنسفها شكوك الريبيين ،بمعنى أنه" لا ينبغي أن نعتقد في صدق قضية ما، ما لم يثبت لدينا أنها كذلك، أي ما لم تثبت لدينا كحقيقة واضحة ومتميزة..." والمنهج الديكارتي أيضا" يلزمنا بالتدرج في البحث عن الحقائق، أي من أكثرها بساطة إلى أكثرها تعقدا"
على أية حال، فإن منسقية العمل القومي الإسلامي في موريتانيا ولدت ولادة طبيعية ، لا قيصرية فيها، و لا اختناق لدى عملية الولادة من شأنه أن يعطل وظائف بعض أجهزتها؛ إلا أنها اليوم بين لحظتين زمنيتين سياسيتين فارقتين؛ لحظة إثبات الذات ؛ وهذه اللحظة تسمى في الاصطلاح السياسي بشروط التأسيس و ما يكتنفها من صعوبات. وهناك لحظة زمنية أخرى هي لحظة إثبات النموذج ونجاعته، ضمن نماذج أخرى، وهذا مكمن الاختبار الصعب. في اللحظة الأولى ، ينظر الفرقاء إلى هذا الكيان الجديد بنظر شزر أو لنقل بشيء من "التحقير" ؛ ومن عادة الخصوم في هذه المرحلة التظاهر بعدم الاهتمام ، والدفع بالرأي العام نحو التجاهل التام للمولود الجديد ( تجاهل في وسائل الإعلام ، تجاهل في المناسبات ...) حتى لا يجد الشروط المناسبة لنموه ؛ فالفرقاء ، في هذا المستوى، يكتفون بحبس الأكسجين والنسغ عن النبتة الوليدة كي تموت من تلقاء نفسها.. وهنا مشاريع لها طابع التكتل ماتت في مهدها لأسباب من هذا القبيل.
أما في اللحظة الزمنية الثانية – لحظة إثبات النموذج- فإن الموقف يتحول إلى صراع مفتوح ، يجري فيه ، من قبل الخصوم، استخدام "المباح" و"المحرم" ، وعندها يجتمع جمع المتخاصمين( ليبراليين، يساريين، إسلاميين، قوميين مناوئين) على اختلاف مشاربهم ومصالحهم لتصفية الحساب دفعة واحدة مع الكيان غير المرغوب! فيشيع القال والقيل بغرض التفتيت الداخلي أولا، وينتهي المطاف بالمخاتلات، و التشويه والتشنيع والشيطنة، وقد يصل الأمر إلى ترويع صاحب الحكم أو السلطة بالتهويل من حجم الخطر الذي يمثله النموذج الجديد ، فيتصرف تبعا لتغيير قناعته؛ خصوصا إذا تسلل الطابور الخامس إلى موقع صناعة القرار ، سواء في التكتل الجديد أو في هرم السلطة.. وقد يأخذ الصراع ،ختلا آخر، فيصور المشروع بأكثر من حجمه الحقيقي وقدرته على الفعل بأسلوب ناعم، على قاعدة تسمين الخروف قبل ذبحه!
التكتيكي .. والاستراتجي في المشروع الجديد..
لقد تأسست منسقية العمل القومي الإسلامي في موريتانيا على خلفيتين اثنتين ، خلفية تكتيكية وخلفية استراتجية؛ فالتكتيك يكمن في أن القوى السياسية المؤلفة لهذه المنسقية تشعر بالتهميش ، سواء منها ما هو في الأغلبية الحاكمة، أو ما هو في تخوم المعارضة، أو ما هو منها على مسافة واحدة بين المعارضة والأغلبية، مثل حزب الصواب. وهنا تكون المنسقية وفرت ملاذا لمكوناتها يمكنها من إبراز فاعليتها السياسية والإعلامية خالصة للرأي العام،بعيدا عن "مصهري" الأغلبية والمعارضة،الذي كثيرا ما أعمته أضواء الدعاية للسلطة أو للأحجام الكبيرة في المعارضة عن دور وفاعلية قوى سياسية موجودة هنا وهناك؛ ولقد تحقق عمل مفيد بالنسبة لمنسقية العمل القومي الإسلامي على صعيد التميز، برغم قرب تأسيسها؛ فالأنشطة الجماهرية (المهرجانات) والثقافية (الندوات)، التي نظمتها أثبتت قدرة حشدية وطاقة تعبوية ، ونفاذا للخطاب فاجأ النظام والمعارضة، سواء بسواء.. وشكلت أرضية سياسية جديدة في الساحة الوطنية بمقدورها استقطاب مزيد من النخب والقواعد الشعبية ، التي ملت التجاذب السلبي المزمن بين النظام والمعارضة، منذ نشوء التعددية السياسية ، في نظام ولد الطايع، وحيث تاريخ هذا التجاذب يعيد نفسه، فيما يبدو، مع نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز. وهناك عنصر آخر ضمن التكتيك وهو إمكانية أن تلعب هذه المنسقية دور المسهل للحوار بين القوتين المتصارعتين ، وتجسر الهوة السحيقة بينهما، بالنظر إلى موقفها غير المتشنج داخل الساحة السياسية. ولن يضير منسقية العمل القومي الإسلامي ، على صعيد التكتيك، ما قد يصدر من مواقف سلبية أو متشنجة اتجاهها؛ لأن أي موقف منتقص منها أو من أهليتها سيكون برهانا إضافيا على وجودها ، وعامل حث لحركتها.
الاستراتجي في المشروع الجديد..!
في موريتانيا، اليوم، يمكن تصنيف خمس قوى متصارعة في الساحة السياسية: القوة الرئيسة الأولى هي السلطة والنخب العاملة فيها ، والمجتمع العشائري ، أو ما يسمى القوى التقليدية التي لا تنفك عن عرى السلطة، مهما كانت، والقوة الثانية هي تجمعات ليبرالية تتفق في المنبع وتختلف في المصب، أي تجمعها سياسة السوق، ويفرقها جني المكاسب، وتنتظم في هذه القوى في أحزاب سياسية تتشابه برامجها حد التطابق ، وتحظى بدعم معنوي منظور ، ودعم مادي غير منظور من قوى غربية ، ويطفو هذا الدعم ، على السطح، في الاستحقاقات الانتخابية ، وفي محطات التأزم العرقي والسياسي والاجتماعي ، الذي ينتاب البلاد من فترة لأخرى. والقوة الثالثة هي بقايا أصحاب الطرح الماركسي –اللينيني ،الذين ارتجت قناعتهم الفكرية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ؛ فأصبحوا أقرب إلى طروحات الديموقراطيين – الاجتماعيين في أوروبا .. وهؤلاء يمثلون نخبة متمرسة بالعمل السياسي ، منبثة في أوصال الدولة وغضاريفها ، وداخل شرايينها وأوعيتها التاجية؛ وهذا هو سر قوتهم وغزارة معلوماتهم عن الدولة والسلطة ، الأمر الذي جعل أي نظام حكم يفرد لهم وضعا خاصا؛ وإن كانت هذه النخبة تعاني، بشكل حاد ، من شيخوخة الكوادر وجفاف الخطاب وانكفائه، مما أصبح يهدد المستقبل السياسي لهذه الجماعة، برغم ما لها من صلات خارج الحدود ، في إفريقيا الغربية وبعض قوى اليسار في دول المغرب العربي وآمريكا اللاتينية... أما القوى الرابعة فهي الإسلاميون ، وهؤلاء ينقسمون إلى "ثلاث وسبعين فرقة" كلها "ناجية" ؛ فهناك الإخوان المسلمون، والدعاة ، والتبليغيون، والسلفيون،والجهاديون، والمتصوفة... وتفترق كل فرقة إلى ملل ونحل.
القوى القومية ، وهؤلاء منشطرون إلى ناصريين وبعثيين، وداخل كل فسطاط مجموعات وأنوية..
في هذا الخضم وبين هذه التضاريس ، جاء ميلاد منسقية العمل القومي الإسلامي ، ميلادا استراتجيا يروم أن يدفع ، على الأقل، بهاتين القوتين (القوميين والإسلاميين) إلى الوعي بضرورة التحرك عن الخنادق المتقابلة- بين كل فصيل في ما بينه من جهة، وبين القوتين من جهة أخرى ( تجميع الناصريين، تجميع البعثيين، تجميع الإسلاميين، وتجميع المجاميع)- التي استنزفت ، عبثيا، طاقات كبيرة من الجانبين، لو قدر لها أن تصرف في وجهتها الصحيحة ، لكان قطرنا قد تجاوز الكثير من المزالق التي ما زالت تسبب له مزيد التوزع والتفكك، خصوصا على صعيد إثبات الشخصية الحضارية لهذا الشعب ، وهويته القومية التي ينازعه فيها التيار التغريبي. فالدور المنوط بهذه المنسقية دور ثقيل هو خلق فسحة أمل ونقطة ضوء في نهاية النفق لهذا الشتات المأزوم!
إن منسقية العمل القومي الإسلامي تشكل على المستوى النظري كتلة مضيئة ، ترنو إليها أبصار كثيرة ، وتأوي إليها أفئدة الناس،في وسط تكوم من الخطابات الفاقدة للطمأنينة الفكرية والاديولوجية ؛ وهي بهذا الامتياز بوسعها أن تكون حاملة لواء الدفاع عن الخيارات الكبرى، في التغيير، للشعب الموريتاني ، وأن تكون الأداة في تكوين رأي عام يستوعب ويدافع عن الخطاب القومي الإسلامي في وجه دعاة التغريب والمسخ الثقافي والحضاري؛ وبذلك تكتسي صفة التاريخية!.. إن القيمة النظرية لهذا الانجاز، وما يمكن أن تمنحه من توظيف اديولوجي مزدوج لوحدة الخطاب القومي الإسلامي، في شعب مسلم بالمطلق ومتشبع بروح القومية العربية، لا تقدر أن تحجب حجم المعاناة المطلوبة لترجمة هذه القيمة إلى قيمة عملية ، أي إلى تجربة حية تنجح في تغيير قناعات المنتسبين للخطابين القومي والإسلامي، ليس في إمكانية التعايش والاشتراك في تجربة سياسية لمدة معينة فحسب ، كما يشكك المشككون، وإنما أيضا في استمرار هذه التجربة ونجاعتها ، بالنسبة للجميع،على مستوى النتائج، بخروجها ، أولا، عن المألوف من رتابة العمل السياسي في البلاد الذي مله الجميع، وبإنتاج نخبة بديلة ملتزمة بمصير وطنها وأمتها ، وتراهن ،حصريا مع روح منفتحة، على وحدة البعدين القومي والإسلامي في خطابها؛ وحدة تلغي هذا التركيب المفتعل وتفضي إلى حصائد مشرفة، على أرضية قارة لا تربكها الزعازع المتوقعة، ولا تتشرنق داخل صدفتها الخاصة.
مهددات هذا العمل..!
مرة أخرى نستعين بالشك الديكارتي الذي هو نقطة الانطلاق لبلوغ اليقين ( قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) وعليه فشكنا هو شك مؤقت : هل منسقية العمل القومي الإسلامي واعية بثقل المسؤولية الاستراتجية الملقاة على عاتقها ، التي، في حال نجاحها، ستجلب، لا ريب فيه، قوى أخرى تقلص الآن زاوية النظر نحو هذا العمل الاستراتجي ، لأسباب خصامية تاريخية، وهل قادتها هم بحجم قضيتهم ، وأعني بالقادة مصفوفة الكفاءات العلمية والسياسية والتنظيمية التي تعج بها أحزاب هذه المنسقية؟ هل يأخذون دورهم في التبشير الإعلامي بهذا العمل وأهمية دعمه ؟ هل يصوغون مفردات خطابه ويبسطونها للعامة كيما تنحاز لهذا المشروع...؟
أيا يكن الأمر، ثمة عاملان يهددان هذا العمل الإستراتجي:
العامل الأول هو العاطفة الجامحة التي تنتج التسرع عادة ، والتسرع ينتج الارتجال، والارتجال يولد الارتباك ، والارتباك يقود للفوضى ، والفوضى تؤذن بانفراط النظام؛ وهذا هو ما حصل في تجربة قومية كبرى بامتياز، هي الجمهورية العربية المتحدة، وأصبحت نتائجها سيفا مسلطا للتخويف من تجارب الوحدة!
العامل الثاني هو التركيز على نتائج التكتيك ، وكثيرا ما جنحت القيادات إلى تجميع خيوط التكتيك فألهتها عن آفاق المسقبل وصياغة خطابه.
ويبقى الأمر مرهون بصدق النية وقوة الإرادة ، وطول النفس وحسن التدبير، وعقلية العمل الجماعي، وفق رؤية سياسية متدرجة، عقلانية ومؤسسة تطمئن الشركاء في الوطن ، وتستنكف عن الاستفزاز، تلك هي أسباب نجاح المشروع.. إنه مشروع جدير بالجدية ، ولكل مشروع بداية ، ولكل بداية دهشة.. والدهشة هي التقاء الأمل والقلق، وافتراقهما!




Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!