التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:20:37 غرينتش


تاريخ الإضافة : 22.04.2008 14:32:37

تفاديا للعار

بقلم: محمد يحظيه ولد ابريد الليل



 I- لحمة الإخفاق

قبل سنة من الآن أسفرت العملية الانتخابية التي نفذها المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية عن تعيين رئيس للجمهورية. واليوم ينعقد الإجماع العزيز لدى السياسيين
الموريتانيين على أن موريتانيا يلفها ضباب سميك ذو طبيعة مجهولة غير مسبوقة، مع أن العناية أدركت الناس كافة، ومن ثم حظي الجميع بالتبصر، وهو أمر لندرته بمثابة الاستثناء بيد أنه، حتى مع وجود أفكار جلية، فإن الكلمة تظل عصية ولا نعني الكلمة المطابقة، بل الكلمة المناسبة.. والواقع أننا لا نجهل درجة كراهية الموريتانيين لتسمية الأشياء بأسمائها، أي تلك الطريقة الذهنية أو التقليد العضال في التعبير الذي استرعى انتباه المستعمرين الفرنسيين الأوائل في مطلع القرن المنصرم، وترتبت عليه التباسات وعدم تفاهم، ووصم بموجبه الفرنسيون الموريتانيين بصفات غير حميدة، وليس المقام مناسبا هنا لنتحدث، في المقابل، عن انطباع الموريتانيين بخصوص أول احتكاك لهم ببيض ما وراء البحار.
وربما هناك رادع آخر عن الكلام الصريح مراعاة للخرافة : إذ أن التلفظ بغير المرغوب فيه يجعله مرجح، إن لم يكن مؤكد الوقوع. وإذن لا تمكن مقاربة الواقع إلا كما يتردد المجوسي ويدور حول النار المقدسة.
ولكن عندما يسفر الخطر، وتفصح الكارثة عن نفسها، تسقط موانع الكلام ، كما ينهار السد تحت ضغط الفيضان فتتحرر الأمواج الحبيسة عاتية مدمرة، بأضعاف عنفوانها الأصلي.
ذلك ما يفصح عنه الشارع وما تفيض به الصحف بصراحة قاسية، عبر عناوينها الكبيرة، ودون أن يشعر أي كان بأدنى قشعريرة!
الواقع أنه عندما ينشب الحريق، ومن باب أولى، عندما ينتشر لا يبقى للمرء إلا أن يصرخ.
إن الطبقة المثقفة الجديدة- وبفهم ثاقب- قد استخلصت بسرعة قياسية، أن لا شيء يرجى من النظام الجديد الملتحف بثوب مستعار. وهكذا أعرب الخليل ولد مامون مطلع يونيو 2007 عبر جريدة القدس العربي اللندنية عن خشيته من أن يخيم الركود على موريتانيا حتى ظهور المسيح. كما أكد محمد فال ولد أحمدو في جريدة الأخبار بتاريخ 18مايو 2007، أن "موريتانيا لم تخرج من الزوبعة بعد". أما أحمد محمود ولد العتيق في صحيفة البديل الثالث 27 سبتمبر 2007 فيصف الوضع بأنه "لا يطاق" كذلك يترحم أوفى ولد أوفى في الأخبار 16 مايو 2007 على "الحجاج وعدالته". ويندد في مقال آخر ب"الجرعات المسكنة البالغة الضرر التي تحقن بها شرايين البلد" وبمرارة أليمة يقول الحسن ولد اشريقي "إن البلد سُلم لِـشَيْخِيَّةِِ سلفية ودروشة خنوعة.
بؤر الدخان المتصاعد تسوغ افتراض نار ما.. إلا أنه بدلا من الانحياز السريع، أو بالحد الأدنى، المتدرج البطيء عن المسار الخطأ، تصور الراقص الرديء أن تصفيق الاستهزاء دليل رضى وإعجاب، فضاعف حماسته للاسترسال.
لقد طافت البلاد مظاهرات الجياع واستُهدف السياح الأجانب، ثم إحدى ثكنات الجيش، وأخير قلب العاصمة.
سبحة من المآسي خلفت وراءها قتلى وجرحى، وخلفت لدينا انطباعا بأن المسؤولين يرونها وقعت في استراليا.
طالما أن الضحايا أناس عاديون، فليس من شأن انعدام الأمن المخيم على الساحة أن يقلق الحكام.
لكن الصحافة وجدت نفسها مرغمة على أن تغمس أقلامها في الجرح النازف منددة بالتدهور المتسارع لحال البلد.
أسبوعية الوئام الوطني الصادرة في 13 يناير 2008 وضعت مانشيت " موريتانيا على طريق الدمار والخراب" وآخر يتساءل عما إذا كانت "المرحلة الحالية نهاية الدولة الموريتانية"
والقلم 26 فبراير 2008 تنشر مقالا بعنوان مخيف: "ألا تسير الأحوال نحو حرب أهلية في موريتانيا" وفي عدد 19 فبراير 2008 تنقل بدون أي احتراس ــ لمعرفتها بإدماننا على الهزل التافه ــ "إن معظم الخطباء المجتمعين في حزب الرئيس- الجديد - يحنون إلى عهد وأسلوب ولد الطايع". وتتساءل الحرية عدد 18 فبراير 2008 سؤالا يستحيل أن يخطر على بال أحد قبل عام "هل أصبحت عودة ولد الطائع مطلبا شعبيا؟"، وتكتب البديل الثالث 22 فبراير 2008 تحت عنوان: "الحنين إلى ولد الطائع".
وهناك صحف أخرى لا تزال في حالة من عدم تصديق الحواس تبحث يائسة.. متوسلة بصورة مثيرة للشفقة عن معجزة خارقة.
كيف وصلت الأمور إلى هذه الحال؟
يبدو أن من الفضول للوهلة الأولى، إعادة عرض شريط الأحداث الذي شاهده الجميع، لولا الكلمة الشهيرة لـ ويتجنستين(Wittgenstein): "إن إضافة معلومة جديدة لا يحل المشكلات، بل إعادة ترتيب ما عرفنا سابقا هو الذي يحل المشكلات".
يبدو أن القارب الذي نبحر فيه وصل بنا إلى لحظة الحقيقة الحرجة حيث بلغ الدجل السياسي حده الأقصى.. لحظة خطرة، لحظة ارتطام تيار الفيضان المنحدر من الأعالي بأمواج المحيط الهائج الفاغرة أفواهها على الهاوية، مفترق طرق هو في نفس الوقت نقطة اللقاء المميت:
أزمة بنيوية قديمة تفاعلت مع أخرى صنعناها منذ عام، والزورق يتقاذف بتصادم الأمواج في كل الاتجاهات.
الواقع أننا انطلقنا انطلاقة جيدة لنكون على موعد مع الوضعية الخطرة التي نعيشها اليوم، لأننا لم نقدر المرحلة السابقة بشكل صحيح وحصيف.
معظم الفاعلين السياسيين، وبالخصوص من كانوا في موقع قوة، يعتقدون أن استبدال الأشخاص وبأي طريقة، كان كافيا لنجد أنفسنا في وضع طبيعي، أو أفضل من السابق.
إن الفترة الانتقالية كانت عبارة عن عرس، والحملات الانتخابية كانت أعيادا غوغائية، وكنا نعتقد أن الفترة التي ستبدأ بعد مارس 2007 ستكون ذهبية، عهد استقامة وعدالة، عهد حرية وسلام، عهد انسجام ورخاء.
لم يكن المهم ما قد نقوله أو نفعله في المرحلة الانتقالية، بل المهم أن نصل بسلام إلى مارس، وبعد مارس نرى السماء تمطر حليبا والغزال ينام في حضن أسد حنون، وسنجد ودون أن نبحث عن ذلك ولكن بمجرد التمني، قادة طيبين أذكياء أوفياء مستقيمين قد نحبهم كما كان أهل دمشق يحبون عمر بن عبد العزيز.
وبالتالي لا تهم أقوالنا وأفعالنا على أساس أن غدا سيزيح شهر مارس الستار عن السعادة وقرن الوفرة.
والزمن اللاحق في حياتنا سيكون من الجبل بمثابة قمته.
طبعا في ربيع البهجة ليس للعقل مجال.
وأولئك الذين تجاسروا- على استحياء ولم يكونوا بمنأى عن العقاب- تجاسروا على توجيه سؤال حول خطورة منح سلطات مفرطة لرجل واحد خاصة وأنه مجهول، هؤلاء نظر إليهم باستغراب بوصفهم مانعين أزليين للوئام، أو ببساطة كأناس يميلون دائما إلى المفارقة أو مخلوقين للتنغيص.
ألم يكن من الأفضل تشكيل حكومة سياسية في الفترة الانتقالية؟ إن سؤالا من هذا النوع يعتبر بدعة الأزمان العصرية، ولا يمكن أن يصدر إلا من رأس ساحر.
وما دامت الأشياء على درجة عالية من البساطة، فلماذا البحث عن التعقيدات؟
ومن المؤهل لمعرفة الطريق الأفضل أكثر من أولئك الذين أطاحوا بمعاوية؟.
ألم تكن المعارضة ــ ولم يعد لها من تعارض ــ قد باركت المجلس العسكري، أين إذن المشكلة؟
إن الحوار الأساسي أغلق بابه، إذ لا حاجة إليه لأننا في وئام.ومجرد الحديث عن تناقض الإجماع مع الديمقراطية، والمبدأ الرئيسي المسير للديمقراطية هو التباين، إن ذلك الحديث يبدو كأنه جنون جديد، بل أيديولوجيا جديدة ومن المعروف منذ 47 سنة أن الإيديولوجيا ــ وهي مجرد نظرة منسجمة للسياسة ليس منبعها ولا هدفها مصلحة شخصية ــ مرفوضة من قبل ذهنيات من يمارسون السياسة دون سابق تصور.
إن الممارسة الدقيقة والملزمة للسياسة تتسبب بحق في الصداع والصلع وقد تشعل الرأس شيبا قبل الأوان.
لقد رفعنا عارضة أمانينا عالية، ووضعنا كل المقدمات المغلوطة، وبذلك جمعنا منذ البداية كل عوامل خيبة الأمل.
إن لحمة الإخفاق هي، من جهة، إعراض واستقالة البعض من المشاركة بشكل جدي في النقاش والصراع المتعلقين في الصميم بمستقبل ومصير المجتمع كافة، ومن جهة أخرى، التصميم الإرادي أو اللا إرادي للفاعلين من أجل تهميش من يتقززون من المشاركة في المعمعة العبثية الدنيئة لكي ينفردوا بالصدارة.
أما الذين قد تكون لهم أراء موضوعية، من غير طموح شخصي للصعود، فهم أقل من تم الإصغاء إليهم، وأما أصحاب الحظ الأوفر في حيازة ما هو مفيد في فترة الزيغ والارتباك، ولا يزلون يحتفظون بذرة من العقل في فترة الهلع العام ويتمسكون ببقية أخلاق في عهد انهيار القيم،هؤلاء هم أول المنسيين.
وعندما انطلق الجميع في هرج ومرج بحثا عن مرشحين يستحقون مقاعد أول برلمان في فترة شديدة الدقة والاهتزاز تم إقصاء الشخصيات الوطنية التي كان يمكن للبلد أن يعول عليها، والتي بوسعها عند الاقتضاء أن تسمو على التقسيمات الضيقة والمصالح الأنانية، وهي شخصيات تتمتع بسلطة معنوية تخولها في الحالات الاستثنائية أن ترفض التنازل عن مصير البلد، تلك الشخصيات تم الاعتراض عليها وإقصاؤها بعناية، وتم التصدي لمن ترشح منها.
وبلغ اللا معقول قمته عندما لزم العثور على مرشح لموريتانيا الأصيلة لرئاسة الجمهورية.
وإذا كان إسماعيل ولد أعمر ومحمذن ولد باباه، من فصيلتيهما، قد لمعا بغيابهما من القائمة ولم يكونا محظوظين من قبل صانعي الرؤساء، وهما اللذان عرفا على الدوام بشجاعتهما في الإعراب عن أرائهما، كل حسب طريقته، وهما اللذان لا تلاحقهما أية شائعة مشينة، فمعنى ذاك أن البحث عن رئيس لم ينطلق من نية مستنيرة ولا ذات مصداقية.
فضلا عن ذلك لم ير أي منهما أن يدعم المرشح الرئاسي الذي يعرفانه أكثر من غيرهما.
يقول ديكول "إذا لم يكن المتميزون معكم فلن تحصلوا على القاطرة".
يقينا أن أحمد ولد سيدي بابا الذي يعرف الرجل بقدر ما يعرفه الاثنان قد قدم له دعمه، لكن ما يزال عليه أن يبرر اختياره، وليس عن طريق براهين أثناء نزاع متلفز مع مقدم يستعجله وقت الإشهار، بل المطلوب هو تبرير مقنع بالنسبة لقناعاته وضميره أمام التاريخ وأمام الشعب المسكين المحشور في مأزق لا مخرج له منه.
إن هذا الرجاء لا يمكن أن يُوجه بطبيعة الحال للذين يميلون مع الريح حيث مالت، ولا إلى أولئك الذين ينظرون إلى أي فكرة على أنها دعوة للسجال ليس إلا، فالحال أدهى وأمر من تعاطي سلوكيات من ذلك القبيل، إن صرامة الحساب إنما تعكس درجة الثقة، والثقة ليست رهينة للتعايش معا في خلية النحل السياسية الواحدة.
لقد ورد الحديث عن رموز وضعها التاريخ في الصدارة منذ خمس وأربعين سنة، ولكن ليس عدلا من الناحية الأخلاقية أن نحاسبهم نفس الحساب لأن التموقع والالتزام الأخيرين لكل من محمذن وإسماعيل لم تترتب عليهما آثار ضارة، أما كون هذا التموقع والالتزام مؤسسين فذلك موضوع آخر.
وفي فترة بالغة الدقة، فإن الذين كان بوسعهم أن يستوعبوا ويقدروا لغزنا السياسي تقاعسوا عنه حياء إن صح التعبير، وأما الذين التبس عليهم الشفق بالفجر، نظرا لصعوبة الإحاطة بالآفاق، فقد تحركوا بشكل عشوائي، وذلك بالذات هو ما أضاعنا.
الطبقة السياسية تائهة لا تعلم أين تسير، ولا ما ذا تصنع، شأنها في ذلك شأن الإنسان في قدره الذي قال عنه زولا: "إنه يذهب ويجيء في ليل ذي ظلام حالك".
بالنسبة لها كل الدروب تتشابه وتتقاطع، وجميعها ماكرة وغادرة، وكل الآثار هي آثار تائهين، ومن المستحيل تدشين طريق جديد، لأن الكل يصرخ ويرى أن خيارا جديدا مستحيل أو خطير أو مشين، والشعار العام الموصى به أنه ينبغي الالتزام بالدروب المطروقة المجربة التي لم تقدم سوى الأحزان المرة والمعاناة المرهقة. وفي هذا يتشابه الجميع وينسخ بعضهم عن بعض، وعلى كل واحد أن يفعل مثل الآخرين حتى لا يختل الانسجام العام، وكي لا تخرق القيم السياسية، بمعنى أن يدور الجميع في حلقة مفرغة.
والمفارقة أنه كلما كان الوضع خطيرا ومستفزا ومقلقا، كلما كنا امتثاليين أكثر، وابتعدنا عن الجرأة والمبادرة، كما لو كانت تقودنا قوة شيطانية مستبدة، تهمس في آذان الكل خطابا موحدا يتعذر سماعه تماما، لكننا مكرهون على الالتزام به التزاما أعمى في نطاق العجز والخطأ.
بطبيعة الحال هناك شعوب عرفت في حياتها لحظات غير منتظرة من التيه، مع أنه في تلك الحالات يلزم سبر القلب ليتبين المرء هل كانت تلك الحالات يستحقها من تنزل به.
ما العمل عندما لا تشير البوصلة إلى الشمال؟. أغلاط وأخطاء!.
إذا كان الليل مدلهما على رأس جبل سفوحه وعرة ومزروعة بالمخاطر، فإن تسلقه انتحار جماعي.. فجبران خليل جبران يقول لنا:"إن النجوم لا تومض إلا في ظلام الليل،" فأين النجوم في الظلام الذي يلفنا؟.. وأين الرجل الذي هو بين الرجال قمر بين النجوم؟.
إن فرنسا التي دُرِّسَ لنا تاريخها قد عرفت هي الأخرى واحدة من تلك الحالات المذهلة، فطبقتها السياسية قد تاهت في الخمسينات، والرجال الأذكياء الشجعان الوطنيون المثقفون الذين أسسوا الجبهة الشعبية عام 1936، والمقاومة عام 1940، والتحرير عام 1944 – 1945، وأعادوا البناء بعد الحرب، هؤلاء الرجال وجدوا أنفسهم بغتة في الظلام لا يعرفون ولا يعرف غيرهم كيف!.
خلاصة الأمر أنهم وقعوا جميعهم في شراك، قاضيا بعضهم على الآخر بالعجز المطلق عن التقدم قيد أنملة.
ولكن لإنصافهم، ففي أثناء تعثرهم للخروج من المأزق، نعترف أنهم احتفظوا رغم كل شيء بقدر من التبصر، بحيث لم يختاروا عام 1958 هنري كي بدلا من الجنرال ديكول، ولو لم يفعلوا ذلك لكانت المصيبة الكبرى.
وفي جوارنا، فإن الجزائر وقعت في الفخ في التسعينات، وهي أمور تقع.
إن طريقة الوثبة من الكبوة هي التي تميز النخبة الأصيلة والحيوية عن أخرى منحلة وخائرة، وعندما كان ضروريا العثور على رجل قادر على مجابهة ظروف الجزائر المأساوية، اتجه البحث نحو قلب الجذر الرئيسي للوطنية الجزائرية.. إلى رجل صلب عوده السياسي ألا وهو عبد العزيز بوتفليقه. فالمثل الحساني يقول "النْكِيبْ ألا من بل الكِيط"، فكون صحته بدت هشة لا ينقص من قيمة الذين اختاروه ولا من خصاله هو، ولا يمكن لأحد أن ينسى أنه عند تخرجه من الثانوية، وبالكاد من سن المراهقة، اختار عبد العزيز بوتفليقه تحرير بلده منخرطا في المقاومة وهو ابن ثماني عشرة سنة، وعندما بلغ العشرين كان يقود مناضلين من أعمار الخمسين عاما، وأصبح بعد ذلك من قادة جيش التحرير الوطني.
لا نعرف لماذا وكيف تبرز فجأة حالات التسمم العام وتحتاج كامل الجسم الاجتماعي ابتداء من النخبة المفترض أنها يقظة وواعية.
لا شك أن لذلك أسبابا مختلفة ومتنوعة، وأن لكل حالة منها خصوصيتها وأسبابها العامة والعميقة وأصولها المباشرة والعوامل التي لعبت دورا في استفحالها وأن أكثر التعقيدات خطورة هي غياب العلاج في الوقت المناسب.
يمكن التذكير بنموذجين كلاسيكيين غير متعارضين من الأزمات:
هناك مجتمع تتفاعل فيه بصمت عوامل تنافر ذاتية، تنخر في توازناته بشكل متزايد سري وماكر. وفي لحظة معينة من تطور هذه الحالة المرضية، تقفز فجأة إلى العلن ممسكة بتلابيب الوضع القائم، ومطالبة في الحين بإعادة ترتيبه بما يناسب شروط الوضع الجديد. ولسنا مأذونين لنقول إن تلك كانت حالة الجزائر.
الحالة الثانية هي أساسا نتيجة عوامل خارجية، وتستهدف كالأخرى- وبوقاحة الآمرين- اعتبار الوضع الجديد.
يصعب علينا أن لا نعتقد أن إشعاع مبادئ التحرر الوطني في العالم في مطلع الخمسينات، وإعادة ترتيب القوى العظمى التي اختزلت في اثنتين يجمعهما العداء للاستعمار القديم.. يصعب علينا أن لا نعتقد أن هذين العاملين كان دورهما حاسما في أزمة فرنسا التي كانت متأخرة ومثقلة بإمبراطورية استعمارية متضخمة.
أما وجعنا نحن فلا نشك أنه من طبيعة أخرى:
فضلا عن التشوه الوراثي، وله التأثير الأكبر، فإن العوامل الخارجية فعلت فعلها بنسبة لا يستهان بها. وفي نطاق تفاعلية ذات طبيعة سيميائية معقدة ما بين الذاتي والخارجي.
لعبت العوامل الخارجية على الأقل دور المنشط، أو الصاعق لإنتاج التسمم و الاضطراب والترنح.
في وضعية تلازم الفوضى الاجتماعية والقلق السياسي فإن كل العوامل السلبية تتضافر في سباق ضار، من أجل تضخيم وتسريع وتيرة الانحلال.. فمن سيتعجب إذا نتجت عن هذا كله عاهات شاذة.


ـ نهاية حقبة                                             II    

أمام انهيار مبرمَج وخطر محدق.. أي علاج؟
ليست العجائز والأطفال من سيتولون مهمة البحث عن هذا العلاج. هذا ما يمكننا إدراكه من الآن، بل يمكننا أن نتجوَّز فنضيف ـ دون كبير خطر بمُجانبة الصواب ـ إن سائقي الجرَّارات والرعاة سينفرون إذا ما دُعوا إلى مختبرات البحث لاستكشاف هذا "العلاج المعجزة"، موقنين، كغيرهم من الناس البسطاء، أن تلك المسؤولية تقع على كواهل النخب المتعلِّمة والمفترض أنها واعية، تلك النخب التي لن يكون مفهوما تقاعسُها عن مهمتها التاريخية (إن جاز الوصف). كما سيكون من العار أن تتفكك الدولة الموريتانية على مرأى ومسمع منا ونحن لاهون في دوامة التعليق والمقارنة بين ما يحصل من "استقبالات روتينية وتنقلات كرنفالية" على حد قول حبيب الله ولد أحمد في جريدة الفجر/ 10 مارس 2008.
صحيح أن الدولة قد فُرضت علينا ـ أولَ ما فُرضت ـ من الخارج، وقد أضفت "غُرْبَوِية" المصدر (إذا جاز التعبير) شيئا من القدحية على هذا المفهوم وألبسته لباس الكراهة عند المواطن، الذي مازال محتفظا في مِخْياله بذكريات الدولة الاستعمارية وممارساتها المَقيتة: التسخير المُجْحِف والأعمال الشاقة...، فتراه يتعاطى مع الدولة كما يتعاطى أحدهم مع عدوه: يخونه وينتزع منه ما تيسر من منافع ويغتصب ما أمكن من خيرات، دون أن يحافظ يوما على مصالحها أو ينتصب لها مواطنا نموذجيا ومدافعا متطوعا.
إن الصحراء الكبرى الغربية، عبر ألف سنة من التاريخ، لم تعرف يوما تلك الدولة التي تخلِّف بعد أُفول سلطانها مشاعرَ الانتماء والارتباط في ذاكرة مواطنيها الجمعية.
ليست الدولة نتاجا لتطور طبيعي جوهري أو لحتمية داخلية أو حاجات موضوعية، وهل للدولة أن تنبعث وتستمر دون ذلك الفائض الذي يخلقه الاقتصاد بعد إشباع الحاجات الأولية للحياة العادية؟
جرت العادة والتقليد بالاستغناء عن الدولة حيث انتظمت الحياة الجمعية على المستوى السياسي في الإطار المشاكس لمجموعات قبلية، وإماراتية ذات هيكلية هزيلة.
كانت الحياة الثقافية هياكليا محكومة بنحو آخر في إطار طبيعي واسع يتجاوز أطر القبيلة والامارة، ولا يعترف بالتقوقع الذاتي، والتمركز حول الخصوصية.
ظل التشرذم القبلي والتجزئات الجهوية، البادية للعيان، تخفي وراءها عاطفة جمعية عميقة وراسخة، تنتمي إلى منظومة كبرى واحدة. ولا نعرف مَن أصَّل تلك الوحدة الوجدانية اللافتة، ومتى وكيف تأسس ذلك الانسجام المشهود؟ إذ من الصعب تصوره خلال قرون قليلة وعلى وعلى ذلك المجال الشديد الاتساع، وفي ظل غياب دولة مركزية قوية، اللهم إلا إذا كان أحد أمرين: الأول أن يكون المؤرخون ـ وهم غير ثرثارين عن هذه الحقبة البعيدة ـ قد أهملوا حتى الآن إحدى حلقات ذلك المسلسل التاريخي. والثاني أن يكون مجتمع الصحراء الكبرى الغربية كان منسجما ثقافيا قبل ألف سنة. ذلك أن المرابطين كانوا لمعة برق خاطفة محدودة زمنيا، أما ظهور بني حسان الصاعق والمتأخر نسبيا، فقد كان باعثه طموح سياسي محض مستند إلى السيف، بدون زاد مكتبي، مما يصعب توشيح أي من الحركتين دورا حضاريا تمدينيا بهذه الكثافة. كما يحلوا للبعض افتراض ذلك لهذه الملحمة أو تلك.
ألم يكن ثمة دور لعبه "الأربعة والأربعون أميرا من البيض تعاقبوا على حكم كومبي صالح" ممن تكلم عنهم المؤرخ كورنفين Cornevin؟ ثم ما هو الدور الذي لعبه الأمراء المتعاقبون على حكم أوداغوست؟.
من المعروف أن كومبي صالح تحريف فرنسي لـ (قبة صالح) وأوداغوست هي تحريف (تاغوصت) مؤنث (أكوص) وفصاحتها القوس.
في تلك العصور البعيدة، كانت الإرادة وعزة النفس وبواعث نبيلة أخرى ــ اكتسبنا مناعة ضدها الآن ــ كافية لتحفيز الرجال. وبمعزل عن حب النجاح كمكافأة بذاتها يهيم في طلبها الرجال، يبقى نداء الواجب، ولانسجام مع الضمير وإملاءاتهما الأشد إلحاحا، أكثر نبلا، إذ لا يشوبهما الطمع ولو في النجاح، ولا الخيلاء بعد النجاح.
لبَّت ذلك النداءَ النقي الطبقةُ القائدة في المجال الموريتاني، يومَ فجأها اقتحام المستعمر، وكان البلد وقتَها يرزح تحت وطأة فقر مدقع. وما إن انتصف القرن التاسع عشر حتى بدأت هواجس ونيات الحاكم الفرنسي في السنغال، الجنرال فيدرب Faidherbe واضحة: "اقتلاع إقليم "الوالو" من إمارة اترارزه، وحماية السكان المزارعين على الضفة اليسرى للنهر ضد البيظان". لقد بدا هذا الجنرال توسعيا متغطرسا، فهبَّ الشيخ سيديَّ الكبير واقفا في وجهه، مشكلا بذلك رمزا وقلبا لرفض احتلال مرتقب منظور.
عندما يصعد الفيل نتوءا صخريا فإنما ليزداد عظمة كما يقول المثل البوركينابي.
ثقافة الرجل الواسعة فتحت عينيه أكثر من رجالات عصره، فحاول تأسيس جبهة للمقاومة بجمعه الأمراء الذين تسنت لهم فرصة التعبئة في أجل معقول (أي التموقع غربَ رأس آكرراي) ولكن هيهات، من يستطيع وقتها أن ينظر بعيدا؟ لقد كان ذلك الطلَب أكبر من هؤلاء القادة، ومن تلك العقليات، ومن ظروف ذلك الزمان.
كانت دائما معاينة الخطر ـ في مجتمعنا ـ ضرورية كي تحدُث التعبئة وينهض الرجال، فغياب التوقعات من سمات المجتمع البدوي، حتى إذا وقع المحذور حينئذ تكون الوَثْبَة ويتقد الحماس، فيتحول الخاملون من الرجال إلى ثوار بواسل فتاكين لا يلقون للموت بالا.
هكذا طلع علينا القرن العشرون سائقا أمامه نُذُرَ الشؤم وأحداث الحزن: كابولاني ومجندوه. إنه حقا لنعيب الغراب وقت الصباح، أربعة وثلاثون عاما من القتال (1900 ـ 1934)، من السمارة إلى فصَّالة، ومن السَّطَّارة إلى واد الدّره، ومن انواذيبو إلى تيمبوكتو. من الشيخ ماء العينين إلى سيدي ولد هنون، ومن ولد محمد لحبيب إلى ولد الكيحل. كانت بحق هَبَّةَ شعب ونهضةَ قتال. كلٌّ يتحمل مسؤوليته ويؤدي واجبه، فُرادى وجماعات، مَثنى وثُلاثَ ورُباع.
كانت الخطوة الأولى على عتبة المقاومة في اترارزه، وفي معمعتها تميزت قامتا الأخوين ابني سيدي (سيدي، وأحمد المعروف بولد الدَّيدْ)، وقد أنجزت اترارزه دورها في المقاومة برغم الظرفية الصعبة وغير المناسبة، حيث كانت الإمارة تعيش صراعا داخليا واضطرابا وتشتتا، فقدمت للأجيال اللاحقة عددا كبيرا من الشهداء أمثال البطل المختار أمُّو.
أما أهالي لبراكنه الذين كانوا ينزفون في القرن السابق بسسب الصراعات الداخلية، فإن أوضاعهم كانت نظريا أفضل، فالأمير أحمدو ولد سيدي اعلي كان محل اتفاق، إلا أن هذا الأمير المسن تلقى فتوى من قاضي الإمارة ينصحه فيها بعدم القتال مراعاة لعامل العمر، ويوصيه بالهجرة حيث هاجر إلى واد نون، غير أن ابنَه المقاتلَ المغوار ولد عساس قاد جموع المقاتلين سنوات عديدة قبل أن يسقط شهيدا.
بسبب ذلك أصدر المستعمر قرارا بمصادرة الأراضي الزراعية للأمير، وقرارا فريدا من نوعه بحل الإمارة، لكن السكان اعتبروا أن شيئا لم يحدث، لأن من حل الإدارة غير الذي أسسها.
القوة المركزية، المخيفة وقتَها والتي كانت ترهب الفرنسيين، هي قوة إدوعيش. أميرهم، بكار ولد أسويد احمد، الذي عاش القرن التاسع عشر بأكمله وزيادة، كان يجمع في عقله وقلبه حكمة المتعلمين ورحمة الأتقياء وشراسة الصقور.
فوجئ بكار في حِلَّّته واستشهد عن عمر يناهز المائة وعشر سنوات، رافعا بعمره المديد راية مجد الشهداء المقاومين.
أما أبناؤه، وعلى رأسهم الابن الأكبر عثمان، فقد تابعوا القتال. ورفعت بناته الشابات سقف مهورهن عاليا بأن لا تتزوجن إلا لمن يأتى بفرنسي حيا أو ميتًا.
كان بكار رمزا لجميع البيظان وتعامل معه الفرنسيون على ذلك الأساس، فأسسوا قاعدتهم العسكرية في تجكجة على أنقاض حديقة نخيله.

أما الأمير الشاب سيد احمد ولد أحمد عيدَّه، الشاعر المجيد والرجل المستقيم، صاحب الشجاعة النادرة والإرادة الفولاذية، فقد كان حارسا صلبا لقلعة آدرار الصخرية. ولكن لم تعد هناك قلعة حصينة بعد تدخل سلاح المدفعية لأول مرة لدعم كتائب مشاة المستعمرين.
انطلقت عدة حملات من آدرار نحو الجنوب، من أشهرها تلك التي قادها سيدي ولد مولاي الزين وقضت على كبولاني في تجكجه.
ومن شرق البلاد البعيد كانت قوافل التموين بالسلاح والمؤن دائبة الزحف تمخر عباب الزوابع نحو الغرب والجنوب.
وبانقشاع غبار معارك آدرار، كانت المقاومة من الشمال الأقصى تدشن انطلاقتها العزوم، وكانت الأطول بين مثيلاتها إلى حد أن الأطفال المولودين في دخان المدافع أخذوا مواقع أبائهم الشهداء رجالا.
من الجليِّ أن النخب السياسية في الأعوام الأخيرة لم تُفِد من هذه الدروس الغنية بالمثل العليا، وقوة الإرادة، والتضحية وتحدي الصعاب.
الهزيمة احتمال وارد في حق الجميع عبر التاريخ، فأشرف العرب الحسين بن علي(رضي الله عنهما) هزم في كربلاء، وعبقري الحرب نابليون هزم في أشهر المعارك (واترلو)، ولكن الذي لا يمكن قبوله ولا معنى له هو أن نموت دون مقاومة.
لا مجال للمقارنة بين ما هو مطلوب منا الآن وما كان مطلوبا من الأجداد، فلسنا مطالبين بحمل السلاح، والاستشهاد، وإنما بعدم التقاعس وبالمشاركة في إخراج مشروع وطني وصيغة مشرفة مترفعة، تمكن من إنقاذ البلد قبل فوات الأوان. ويمكن للحل أن يخرج عن المعتاد، كما يمكنه أن يكون في متناول اليد. صحيح أن الحقيقة لا توجد بالضرورة في قعر بئر، لكنها قليلا ما تُنال بالعزلة والانفراد، وأقلَّ من ذلك أن تنال بالتخندق.
إننا في وضع دقيق، كاللبن على النار، تنبغي مراقبته باستمرار، وقد جاء في الحكمة الشعبية أن الحمولة التي عليك أن ترفعها إذا سقطت، ينبغي أن تصحح وضعها إذا مالت.
عندما كانت الفرصة مواتية أيام الفترة الانتقالية للانكباب على مصير البلد بأسلوب أكثر انفتاحا، خضنا المرحلة بعقلية الماضي والحسابات الشخصية والفئوية الضيقة.
الرجال الذين كان بوسعهم تخطي ذلك المستوى تراجعوا، ليتقدم بالمقابل من استدعتهم سذاجة أو أنانية، فما لبث أن تبين أنه لا شيء مثمرا سينتج من تلك المساومات. أما الطيبون فقد شدوا على وجوههم اللثام واستكانوا. وأما العامة فق هرعت إلى ملاجئها المعهودة في الأيام النحسات: الكهوف القبلية والجهوية، فرارا من الحيرة، والتماسا للطمأنينة.
لقد تبين أنه ليس من بين هؤلاء هواري بومدين الذي كان يمقت الجهوية، فهو الذي اختار اسما حركيا من الغرب الجزائري، كيْلا يكون محسوبا على الشرق، وبعد الاستقلال لم يغير اسمه تجنبا لإيقاظ شيطان الجهوية. يحكى أن زائرا أجنبيا أثنى بحضوره على جمال مدينته فلم يوله اهتماما، فاستغرب الزائر قائلا: سيدي الرئيس ألستَ من مواليد غَلْمَا؟ فأجابه غاضبا: لم أعد أعرف، أنا مولود حيث حاربت. ولما تحتم عليه الانتماء لإحدى الولايات الجزائرية، قرر أن يكون وهرانيا حيث بدأ القتال بعيدا عن مسقط رأسه.
في هذا الجو المفعم بالإحباط يصعب استشراف أي بارقة إيجابية، تحيي التفاؤل وتوقظ الأمل.
وكما قال محمد المختار ولد محمد فال في جريدة النهار 4 يونيو 2007 إننا لسنا في بداية عهد جديد، وإنما نحن في نهاية حقبة.

III- جزاء سنمّار

إذا لم يوجد مشروع يتوفر على المقومات التي تجعله قادرا على استقطاب الناس، وفي غياب أفق يستطيع أن يثير حماس الشباب ويفرض نفسه على أكثر النخب تشددا، فذلك لأن القنوات القديمة لم تزل قائمة.

وضمن هذه الظروف تم حسم الانتخاب الرئاسي سلفا، ولكن ذلك لم يجر بالطريقة التي قد تتبادر إلى الذهن أي الطريقة السطحية التي يرويها البعض باعتبار هذه الانتخابات حسمت بقرار من السلطة السابقة أو من الجيش، مع أن هذا مهم، غير أن أهميته تتأتى من كونه أمرا لا مناص منه.

فالصورة الظاهرة التي تبدو للبعض مقنعة ببساطتها، تخفي وراءها عوامل قد تكون أهم، وأكثر حسما، ويتعلق الأمر بالعوامل السياسية والأخلاقية التي ينبغي لمن لا يريد البقاء على سطح مسرح الأشباح أن ينفذ إليها. نحن هنا في غسق اكلوزوفيتش العجيب حيث: "صورة الفأس أو الرمح عمود خشبي لكن المعنى في الشفرة والسنان"، فعلى رجل السياسة أن يكون قادرا على التقاط النأمة الحادثة في الحراك السياسي لحظة ولادتها.
كان في المستطاع فك رموز الوقائع مسبقا وبشكل كامل، وهي كانت تشير إلى أن "موريتانيا العميقة" ــ يستخدم هذا المصطلح السهل في غياب الأفضل ــ هي وحدها المؤهلة للحكم في مرحلة بالغة الحساسية تمر بها البلاد منذ زمن بعيد، لأن الخيوط المنفوشة التي يلعب عليها خصومها ليست شيئا مقارنة بعقَدها المُحْصَدَة. فلكي تتمكن قوة أخرى ـ غير موريتانيا العميقة ـ من استلام الحكم، لا بد من تمحيص سياسة جديدة، كما لا بد أن تهدأ أعصاب البلد، والحال أن التهييج على أشده

صحيح أنه عند اقتراب الاستحقاقات، وفي المناسبات الانتخابية، يمكن أن تتشرذم هذه القوى التقليدية بصورة سطحية ـ إذ لا مناص من وجود تناقضات ثانوية ـ كما يمكن أن يتعدد مترشحوها في الشوط الأول، ولكنها لا تلبث أن تتلاقى من جديد وتتجمع خلال الشوط الثاني، لأنها تخشى على نفسها وعلى البلد. ويمكن أن تنشق بعض شرائحها الهامشية وتسير في اتجاهات أخرى لأسباب ذاتية، بيد أن هذا لا يغير شيئا في جوهر الواقع، أي في الاتجاه العام الذي يندرج ضمن السياق الطبيعي للوقائع. ولا ينبغي الاعتقاد بأن هذه القوى تعي، بالضرورة، دورها، وتدرك المهمة التي تلقي بها المرحلة التاريخية على عاتقها، لأنها ليست هي "ضمير" البلد، فمقر ذلك الضمير- لا محالة- هو النخبة، وليس ثمة ما يمنع جزءا من هذه النخبة من التماهي في بعض الأوقات الحاسمة مع "موريتانيا العميقة"، ويمنحها "البركة والتزكية"، وبدون ذلك تبقى عارية، مجتثة، فاقدة المعنى.

طبيعي أن بعض زعمائها وحاملي راياتها قد يخطئون. كما يمكن أن تخطئ هي نفسها لدى اختيار زعيم أو مترشح، وليست هي المرة الأولى التي يضع فيها طائر بيضته في عش آخر، لكن الشيء الذي لا يمكن أبدا أن تخطئ إزاءه هو السياسة المتبعة.

وكما يمكن أن تخسر جزءا من هوامشها، تستطيع هي ـ كما رأينا ـ أن تنتزع من خصومها بعض الأطراف.

وعلى ذكر هذه القوى المنافسة، فلا بد من إلقاء نظرة تقييمية عليها.

لا مناص من اجتراح المعجزة، لنجمع بين اللباقة والإنصاف، والسؤال المنطقي هو التالي: هل يستطيع تكتل القوى الديمقراطية في شكله الحالي وبعقليته الراهنة أن يحكم ؟ وبعبارة أخرى هل يمكن الوصول مباشرة إلى "الميمون التلي" انطلاقا من "تيد املين" ؟ هذا هو السؤال الذي لا تمكن الإجابة عليه دون مخاطرة !

إن المسافة ليست طويلة، والعادة أن الكثبان الرملية يمكن تـنكبها والالتفاف حولها عبر "لكطوعة" كما تسمى في المنطقة، لكن هناك ممرات لا يمكن عبورها إلا لمن كان على دراية صحيحة بالأرض وبجهود مضنية شاقة فوق طاقة التحمل.

لقد اقترب خندق تكتل القوى الديمقراطية من خندق "موريتانيا العميقة" خلال المرحلة الانتقالية، لدرجة تبادل الأدوات والأواني معها عبر هذا الخندق. فقد تغيرت حالة العداء كثيرا، وهدأت الجبهة وأضحى في الإمكان مد جسور التواصل مؤقتا.

وقد ساعد غياب معاوية على إزالة التوتر، وسهل تسويق المساعي الحميدة.

كانت البرامج المكتوبة متقاربة جدا، كما هو الحال مع معظم الأحزاب الأخرى. ولما كان العمل في هذه البلاد لا يجري على أساس ما هو مكتوب ومدون، فإن التقارب يظل نظريا وعديم الفائدة، وبالتالي محكوما بالفشل، لأن هناك فرقا بين المكتوب والواقع. المهم هو هذه الحقيقة الضمنية المسكوت عنها والتي تشكل معضلة لبعض الناس الذين يتقاربون مع التكتل أحيانا لحد مشاركته بعضا من مواقفه، ويبتعدون عنه تحت تأثير همسات خافتة لدرجة مناوأته.

والواقع أن رؤية الناس لموريتانيا لا تتم بنفس الطريقة، حيث ينظر البعض إليها بالتلسكوب، في حين ينظر إليها البعض الآخر بالميكروسكوب، وأن هملايا نفسية تقف حاجزا بين تكتل القوى الديمقراطية وبعض المجموعات المتنافرة ذات الطبيعة المختلفة والتي يوحدها خيط خفي، فهناك كلمة سر يمكن أن تتلخص في أن المراجعة والتجديد الذي يمكن من نشوء ثقة متبادلة لم يتم بعد.

وتحتفظ هذه المجموعات بقدرة كبيرة على التأثير وعلى إلحاق الضرر، تفوق وزنها الحقيقي على الصعيد الوطني.

ولا يبدو أن تكتل القوى الديمقراطية يعير أهمية لهذا الثقل الثانوي في بحثه المستميت عن ناخبين يتبخرون باستمرار فيما يشبه محاولة "ملئ حوض دنايد المثقوب" في المثيولوجيا الإغريقية، في حين أن مشكله ـ بالإضافة إلى السجل التنظيمي الذي لا بد من العناية به إن أراد الاستمرار في معارضة طويلة النفس ـ هو مشكل نفسي واستراتيجي، إذ المؤكد أن الانسداد المتكرر لم يهبط من السماء. فبعض الناس الموضوعيين الذين يعرفون بشكل جيد رئيس التكتل أحمد ولد داداه يؤكدون بإصرار ـ يدعو إلى التساؤل عن عدم التحاقهم به ـ أن الصورة التي يرسمها له خصومه لا تتطابق، إلا من بعيد، مع حقيقته.

لقد تم حسم الشوط النهائي من الانتخاب الرئاسية ـ كما هو متوقع على هذه الخلفية ـ بين القوتين الرئيسيتين، فأصبحت القوى الثانوية مرغمة على أن تلعب دور المكمل، وبالتالي أن تسير مكرهة على الطريق الضيق الوعر، بين الانتهازية والفرص المشروعة، إلا أن الجميع بدا في نهاية الشوط الثاني منهزما، فلا أحد بدا منتصرا، ولا حتى من وضعت صناديق الاقتراع اسمه في الصدارة.

لقد جرى التصويت، ولكن شيئا لم يتغير: فلا مشكلة واحدة وجدت حلا، ولا انتعش أمل، ولا انفتح أفق، إنما خيبة أمل تعم الجميع، وكأنما كان الناس في حلم جميل فاستيقظوا. لكن الناس لم يكونوا نياما ..كل هذا الضجيج والصخب والإثارة دون جدوى! من الذي كان يراد خداعه ؟ هل هم الأجانب ؟ إن ذلك لم يكن ضروريا ولا مفيدا، ولم يكن الأمر يستحق كل هذه المسرحية، خاصة وأننا جميعا مثلنا فيها أدوارا. يحكى أن "أهل بوكيْ" في قديم الزمان كانوا يبطحون خيامهم أرضا لكي يلعبوا بركائزها.
الهزل تجاوز الحد.
لا يمكن فهم هذا السلوك الغريب إلا بالرجوع إلى عادة قديمة نابعة من أعماق المجتمع، تظهر من حين لآخر في الأوقات الصعبة عند ما تكون هناك خشية من تفاقم العنف وانتشاره مفادها: أن يتم تقدير الوضعية إجمالا بشكل مسبق، ويُستنتج أن ما هو مناسب ومفيد غير ممكن دون خسائر، ثم يتوج القَدَر (المسؤول) بتاج الفضيلة في احتفال علني، وفي الليل يتخافت من توجوه مستعيذين مما فعلوا في الظهيرة.
أما رجل الشارع، الذي لا يستطيع الوصول إلى هذه الأفكار الدقيقة ولا أن يتقبلها، فقد توصل إلى الخلاصة التي في متناول العقل العادي وهي : أن الرئيس المنتخب ليس هو الحقيقي، وإنما هو مجرد مستخلف بسيط، وأن الرئيس الحقيقي سيطل بقامته فيما بعد.

في ضوء هذه الفرضية، لا يملك المرء إلا أن يتذكر أحد الطقوس التي كانت رائجة في الشرق القديم والتي استخدمها، ببساطة، الملك الآشوري اسّرْحَدُّون، في القرن السابع قبل الميلاد، بعد أن استخدمها آخرون بالتأكيد.

فقد شهدت مدينة نينوى سنة 671 ق.م. خسوفين كليين للقمر؛ وهو ما يعني بالنسبة للبابليين ـ وقد بسط الملك الأشوري وقتها نفوذه عليهم ـ إصابة الملك بمرض قاتل. ولتفادي هذه الكارثة، تم اللجوء إلى حيلة لمغالطة الآلهة، تمثلت في تعيين موظف ملكي مكان الملك من أجل أن يتلقى المخاطر فداء للملك. وقد حكم هذا المستخلف مائة يوم تحول خلالها "اسّرْحَدّون" فلاحا، بمقتضى النصوص الرسمية. وبانقضاء المائة يوم مات المستخلف وزوجته ـ لا ينبغي الاعتقاد بأنهما ماتا بشكل طبيعي ـ وأقيمت لهما مراسيم دفن ملكية. ثم استعاد الملك سلطانه بموجب رسالة من كاهن مردوخ الأعظم، تقول: "بعد أن تم أداء الطقوس، فليطمئن قلب الملك".

وأيا كانت حالة الأمور، فإن من يعيَن رئيسا يصبح رئيسا. وهكذا فقد أصبح لموريتانيا رئيس جديد.

لقد أعطت السلطة المنبثقة عن انتخابات مارس، الانطباع بأنها لم تفكر أبدا في تشكيل حكومة، إلا أنها في النهاية شمرت عن ساعديها لتشكيل هذه الحكومة، وهو ما تطلب وقتا طويلا بالنسبة لبلد كانت كل أعماله معطلة. عدة أيام ولكنها بدت للناس قرنا، كأن هذه السلطة أرادت أن تعفي نفسها من هذا الإجراء الشكلي، أو أن هذا الأمر لم يكن ضمن أولوياتها، في حين أنه يشكل الحالة المستعجلة الأولى.

وقد جاءت ثمرة ها الاعتكاف التأملي الأول تحمل اسم الحكومة التكنوقراطية، وهو مجرد تفاؤل أو أمنية، كما يطلق أحدهم "طويل العمر" على وليد من باب الرجاء والتمني، أو اسم "يغنيه"، تفاؤلا له بالثراء، فلا علاقة للواقع بذلك، إذ ما كل حكومة غير سياسية تتحول تلقائيا إلى حكومة تكنوقراطية. ويبقى من البديهي أن نوعية الحكومة هي التي ينتج عنها التفاضل بين الدول.
إن حكومة التكنوقراط، حسب المتعارف عليه، هي التي يختار كل وزير فيها بمعيار الكفاءة المبرهن عليها وغير المشكوك فيها، بغض النظر عن انتماء الوزير ورأيه السياسي. وعندما تكون الحكومة مطلوبة بهذه المواصفات، فإنما لكي تتبع سياسة صارمة شديدة الفعالية، محصنة ضد ضغوط وابتزاز الجماعات السياسية، ومن أجل أن يكون لها هدف وحيد: خدمة المصلحة العامة.

إن أحدا لم يفهم هذه اللافتة التكنوقراطية، على افتراض أنها تخفي حقيقة. كيف نفهم أن بلدا بكامله يغرق، لشهور عديدة، في انتخابات عامة ورئاسية من أجل تقاسم الرأي وتحديد الفريق أو الفرق المؤهلة للحكم، ثم لا تكون لهذا الاقتراع أية فائدة ؟. إذا لم يوضع في الحسبان أي اعتبار لنتائج الانتخابات ومدلولها وروحها، فأين الشرعية ؟ وبأي حق يسمح المرء لنفسه باتخاذ قرارات تتعلق بحياة ومستقبل الناس ؟ أم أن الانتخابات باتت مَسْخرة تمكن من الوصول إلى السلطة ويجري نسيان الإكراهات التي تفرضها ؟

إذا كان المواطنون قد ناضلوا طيلة سنوات عديدة، كل على طريقته وفي ظروف غير ملائمة، وقدموا تضحيات عديدة ومتنوعة، فإن ذلك لم يكن من أجل أن يروا ، كائنا من كان، يستولي على الدولة ويتجاهل هذه الديمقراطية نصا وروحا.

أكثر من ذلك، فإن على الرئيس المنتخب في نظام ديمقراطي أن يحيط نفسه أولا برجال السياسة الذين رعوا ترشحه بصورة علنية وجمعوا، الأصوات من أجل أن يتصدر القائمة في الشوط الأول، وينتخب في الشوط الثاني.هذا أقل ما تمليه قواعد اللياقة.
يأتي بعد ذلك أولئك الذين قدموا الدعم والمساندة في الشوط الثاني فقط. إن ميزان القوى قد يمنحهم مناصب سامية وذلك ما حصل، وحسب الأصول، ولا أحد يعترض عليه. لكن أن يصل الأمر إلى حد إقصاء جميع من مكنوك من أن تكون حاضرا، فهذا سلوك يخرج عن مقاييس السياسة وعن كل القواعد الأخلاقية، لا بالنسبة للمجتمع المحلي فحسب، وإنما بالنسبة لجميع المجتمعات البشرية المعروفة. ويبدو أنه، من أجل تجريم مواقف أصحاب الأغلبية، وتقويض معنوياتهم، يجري التلويح بماضيهم وممارساتهم في ظل أنظمة أخرى، لكن هذا هو الباطل بعينه، فإذا كان هؤلاء يتمتعون بحقوقهم المدنية والسياسية التي لم يسحبها منهم أي حكم قضائي. وإذا لم يكن هناك أي قانون يحرمهم من هذه الحقوق ، فأي نوع من الحرمان أو المنع المؤصل يمكن أن يطالهم ؟ إذا لم يكن شيء من ذلك كله، فإن ما يتعرض له هؤلاء اسمه التعسف والظلم، وهما أبشع من أن يتحملهما الإنسان.
ليس شرطا أن يتخندق المرء سياسيا، أو يشترك في التصورات مع المظلومين، ليندد بالظلم الواقع عليهم، إن ذلك يبدوا أكثر نبلا مما لو كان واحدا منهم.
وإذا كان لدى الديمقراطية مبادئ تسمو على الأنظمة الأخرى، فإن هذه المبادئ هي: الحرية والعدالة؛ فمبدأ الحرية يمنح المواطن حق الاختيار يوم الاقتراع، بينما يعطي مبدأ العدالة حق ممارسة الحكم، بشكل فوري، لمن يحصلون على الأغلبية.
ولما كان هؤلاء الزعماء قد تصرفوا دون روية ولا حكمة، فقد استحقوا أن ينطبق عليهم، بمعنى من المعاني، ما قاله لورانس العرب:" بعد الانتصار ظهرت واحدة بعد أخرى ساعات خيبة الأمل، ومن ثم خيم الليل الدامس عندما اكتشف الرجال المستميتون في التضحية أن آمالهم قد خانتهم".

وفي كل الأحوال، لا يمكن أن ينازَع هؤلاء الزعماء في أنهم حصلوا على جزاء سنمار. وهاكم ما يعنيه هذا الجزاء في الأصل، ولكم أن تحكموا بأنفسكم: طلب أحد ملوك اللخميين، وهو ملك الحيرة النعمان الثاني، من مهندس معماري مشهور يدعى سنمار ، أن يبني له قصرا لا نظير له في المنطقة، مقابل جزاء غير مسبوق. وبدافع من الطمع في نيل الجائزة واستدرارا لكرم الملك، انطلق سنمار في تشييد القصر الفريد . وعند انتهاء العمل، زار النعمان القصر، وسلم بأنه وحيد نسجه، وأنه يتطابق مع الصورة التي رسمها في مخيلته. وتوقع سنمار أن يعود ومعه حمولة عدة جمال ذهبا، ولكن بدلا من ذلك دفع اللخمي هذا المهندس الماهر من فوق سطح هذا القصر حتى لا يبني مثله لأحد. ومنذ ذلك الوقت نشأ المثل العربي "جزاء سنمار" للدلالة على أعلى درجات الجحود ونكران الجميل.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!