التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:04:22 غرينتش


تاريخ الإضافة : 11.05.2008 12:42:31

"الأخبار" تنشر فقرات من ندوة "الزراعة في موريتانيا.. العوائق والمحفزات"

محمد عبد الرحمن ولد الزين رئيس مركز الأرقم

محمد عبد الرحمن ولد الزين رئيس مركز الأرقم

احتضن فندق الخاطر مساء الخميس 08/05/08 ندوة تحت عنوان "الزراعة في موريتانيا العوائق والمحفزات" منظمة من طرف مركز الأرقم للإعلام والدراسات الاستراتيجية، وقد شهدت الندوة حضورا مكثفا من قبل وزراء سابقين للتنمية الريفية، ومختصين، وباحثين في المجال الزراعي، ومراقبين، ومهتمين بمجالات الزراعة والتنمية والبيئة.

دارت الندوة على خمسة محاور أساسية، وبعدها فتحت المداخلات أمام الحضور.
¬1- الزراعة في موريتانيا الواقع والآفاق
• تقديم: المصطفى ولد مولود.. وزير سابق للتنمية الريفية
- إشراف الحسين ولد محنض
2برنامج التدخل الخاص
• تقديم مولاي العربي ولد مولاي امحمد مدير شركة "سونمكس"
- إشراف : محمد عالي ولد عبادي
3- تجارب الاستثمار الزراعي.. كيف نحيي الأمل من جديد؟
• تقديم الشبيه ولد الشيخ ماء العينين
- إشراف محمد سالم ولد الخليفة
4- كيف نخلق مجتمعا إنتاجيا
• تقديم: إسلمُ ولد عبد القادر
5- علاقة الاقتصاد بالأمن الغذائي
• تقديم: الدكتور محمد محمود ولد اماه
- إشراف: الزميل محمد عبد الله بليل.
وتواصلت الندوة إلى ساعة متأخرة من الليل.
،وقد افتتح الندوة رئيس مؤسسة دار الأرقم للإعلام والدراسات الاستراتيجية المدير الناشر ليومية "السفير" محمد عبد الرحمن ولد الزوين هذا نصها نتبه ببعض المداخلات الأخرى التي عرضت خلال الندوة :

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
السادة المدعوون،
ضيوفنا الكرام،
إنه لمن دواعي السرور والاعتزاز أن نتشرف في مركز الأرقم للإعلام والدراسات الإستراتيجية بحضور هذا العدد المتميز من الشخصيات الوطنية وقادة الرأي من نخب موريتانيا، لإثراء هذه الندوة الثانية التي ينظمها المركز تحت عنوان "الزراعة في موريتانيا: العوائق والمحفزات".
أيها الحضور الكريم؛
يتزامن تنظيم ندوتنا هذه مع انطلاق الحملة الزراعية التي أشرف عليها رئيس الجمهورية قبل يومين؛ والتي يتطلع كل الموريتانيين إلى أن تحقق الأهداف المرسومة لها، من أجل توفير الغذاء للمواطنين، وتحقيق الاكتفاء الذاتي ضمانا لتدعيم الاستقلال وحماية السيادة الوطنية للجمهورية الإسلامية الموريتانية.. فدولة لا تنتج غذاء مواطنيها -على الأقل- تظل رهينة للآخرين؛ وبالتالي مهزوزة السيادة وفاقدة الاستقلالية القرار والخيار..
ونحن واثقون كل الثقة أن العروض والمداخلات والنقاشات التي ستثري ندوتنا هذه، ستشكل أرضية خصبة ومناخا ملائما من شأنه تمكين صانعي القرار الوطني من استجلاء كافة جوانب هذا القطاع الحيوي والمحوري في أية نهضة تنموية اقتصادية واجتماعية يراد لها النجاح في بلادنا.. كما ستشكل –دون شك- تشخيصا مكتملا لواقع الزراعة في موريتانيا، واستشرافا لآفاقها المستقبلية بإذن الله..
وإذ أتوجه بخالص الشكر والامتنان إلى كل من تجاوبوا مع دعوتنا وتجشموا عناء الحضور بيننا في هذا المنتدى الذي نأمل أن يتكرر في مناسبات أخرى، ويشمل مواضيع أخرى تهم مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في بلادنا؛
لا يفوتني أن أجدد الشكر لكل القائمين على فندق الخاطر إدارة وعمالا، على ما عهدناه منهم من استعداد دائم وحرص على ضمان الدقة في التنظيم، وعلى الراحة الكاملة لضيوفهم وضيوفنا..
أشكركم جميعا وأتمنى لكم التوفيق و النجاح
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




مداخلة سيدي ولد المعيوف رئيس اتحاد المنتجين الرزاعيين الموريتانيين

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم؛
أود في البداية أن أشكر –باسمي الخاص وباسم اتحاد المنتجين الزراعيين الموريتانيين- مركز الأرقم للإعلام والدراسات الاستراتيجية على ندوته الثانية التي نعيش فعاليتها الآن؛ والتي هي بعنوان "الزراعة في موريتانيا: العوائق والمحفزات".
إن مثل هذه الندوات تبعث الأمل من جديد وتدعونا للمزيد من الاهتمام بالشأن العام؛ إذ هي منبر مفتوح للمثقفين وأصحاب الاختصاص للبحث في العوائق واستشراف المستقبل.
وإن اختيار موضوع هذه الندوة يحمل الكثير من الأبعاد الاقتصادية المهمة، فالزراعة هي العمود الفقري للاقتصاد العالمي، وأي بلد يتغذى من وراء الحدود هو -في الواقع- بلد ضعيف لا يملك مقومات البقاء، وإذا كانت السلطات العمومية قد أدركت هذه الحقيقة وقررت تسخير الإمكانيات العمومية لإصلاح هذا القطاع الحيوي، فإن دور رجال الميدان (المزارعين) هو تحديد العوائق والبحث مع الشركاء عن أنجع الحلول وأسرعها. ولا أراني مبالغا إذ قلت إن أخطر عائق يشل الزراعة هو تسييسها وتغييب المزارع؛ وهاتان الحقيقتان المرتان لا ينكرهما إلا مكابر.
يضاف لذلك عدم اعتماد مخطط زراعي يضع في الحسبان ضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي وامتلاك احتياط أمن غذائي؛ كما أن من العوائق الكبرى عدم وجود هيئات تتولى -بصفة منتظمة- المسائل المتعلقة بالبذور والأسمدة ومضادات الأعشاب.
ويلاحظ –كذلك- النقص الحاد على مستوى الآليات؛ سواء أتعلق الأمر بالاستصلاح أم الحصاد.. ذلك إذا علمنا –مثلا- أن إقامة بنى تحتية لحل مشكل البذور لا تتطلب أكثر من 100 مليون أوقية، وأن إقامة 3 مراكز لإنتاج البذور على الضفة كفيل بحل المشكل على المدى البعيد.
ورغم هذه العوائق التي هي جزء من كل، فقد شمر بعض الرجال الوطنيين عن سواعد الجد وباشروا زراعة الأرز واستطاعوا –رغم محدودية الإمكانات وغياب أي دعم- أن ينتجوا محصولا زراعيا لا يستهان به آنذاك؛ فضلا عما نتج جراء ذلك من امتصاص بطالة اليد العاملة، كما ساهموا في تطوير التنمية الحيوانية من خلال ما يترتب عن زراعة الأرز وتقشيره من أعلاف.
ولنا مع الزراعة تاريخ طويل.. حيث مارس أجدادنا الزراعة بنوعيها -البعلية والفيضية- حينما لم يكن غير ذلك ممكنا؛ وقد تم إنشاء مزرعة "امبوريه" في الستينات، وكانت أول مدرسة تعلمنا منها زراعة الأرز؛ وأكثر من ذلك فتحت عيوننا على الكنز الأهم في هذا المجال؛ وهو مياه النهر.. وتلا ذلك إنشاء شركة "صونادير" لتقوم بمهمة تطوير الزراعة في البلد، ولاحقا تم إصدار القوانين المهمة في هذا الشأنٍ.
وقد عرفت البلاد ثورة زراعية منذ عام 1987 إثر تطبيق القوانين العقارية وتوزيع الأراضي، وفتح المجال أمام المستثمرين الوطنيين؛ وذلك من خلال خطة كان هدفها الوصول إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي ضمن الاستراتيجية التي أوصلتنا إلى إنتاج 80 ألف طن عام 1998.. حينها حصلت المفاجأة الكبرى عندما فرضوا العزوف عن زراعة الأرز لكونه مكلفا وإبداله بالتنويع الزراعي؛ تلك السياسة التي تراجع بعدها الإنتاج ليصل إلى 10.000 طن سنة 2003 وقد اتضح فيما بعد أن ذلك كان نتيجة لتدخل البنك الدولي.
والمؤسف أن مشروع "آفطوط الساحلي" لم يقدر له أن يساهم بما فيه الكفاية في تطوير الزراعة؛ نظرا لكونه ولد ميتا زراعيا بضخه عبر أنابيب بدل الانسياب الحر، كي نتمكن من زراعة ضفتيه وتشرب القرى بتكاليف أقل؛ فقد كان بإمكانه إعطاء الأكثر ليلعب دورا اقتصاديا واجتماعيا مهما؛ ولن أطوي ملف العوائق قبل التنبيه على أن المزارع يجد نفسه في ورطة كبرى بعد الحصاد؛ إذ يجد محصوله بين سندان الحاجة ومطرقة غياب هيئة مسؤولة عن تسويق منتجاته؛ كما أنه لا توجد في هذا البلد مقومة اقتصادية تمكن المراهنة عليها سوى الزراعة؛ فالعالم اليوم في سباق محموم لكسب استثمارات في الزراعة في أي بقعة من الأرض؛ فلنستثمر ما دمنا أهل أرض خصبة ومياه متدفقة.. ولعل من أهم المحفزات في هذا القطاع أن يباشر السيد رئيس الجمهورية افتتاح الحملة الزراعية 2008 – 2009 ويعطي تعليماته للمعنيين في القطاع بتسخير كل الإمكانيات المادية والبشرية، لتكون هذه الحملة حملة نوعية؛ وذلك ما نرجو أن يكون.
ولن أنهي هذه المداخلة –التي يشفع لها صدق نية أصحابها من جهة واستعدادهم للتعاون مع من يهتم بالشأن العام ويؤمن بضرورة الحوار من جهة ثانية- قبل أن أؤكد على ضرورة تشكيل لجنة لمتابعة سير الحملة ومخصصاتها على غرار لجنة متابعة برنامج التدخل الخاص.
وفي الأخير أشكر مركز الأرقم للإعلام والدراسات الاستراتيجية على هذه المبادرة الطيبة، والشكر موصول لكل الذين ساهموا في إثراء النقاش وقدموا آراء أفادت الحضور وستفيد القارئ، من خلال نشرات المركز.. وأشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.







المدير الناشر ليومية الأمل الجديد: الحسين ولد محنض

المدير الناشر ليومية الأمل الجديد: الحسين ولد محنض

مدخل

بقلم: الحسين ولد محنض

حتى الثمانينات كانت الزراعة في موريتانيا محدودة، تقتصر على الزراعة القروية وزراعة ما خلف السدود وما تحت الواحات، إضافة إلى المزارع النموذجية التي أقامتها الدولة في "امبوريه" وكيهيدي وبوكي وفم لكليته.
وفي الثمانينات أصدرت الدولة أول قانون للإصلاح العقاري يضع يد الدولة على الأراضي، ويسمح لها بتوزيعها على المستثمرين الخصوصيين، وقامت بإطلاق حملة زراعية كبرى ارتكزت أساسا على زراعة الأرز. وقد أنفقت في هذه الحملة -التي دامت عدة سنوات وأدت إلى استصلاح 40 ألف هكتار- مئات المليارات من الأوقية، وقادت إلى إفلاس ثلاثة بنوك وطنية، ثم فشلت في النهاية، فلماذا؟
هل فشلت بسبب وضع نفسي كما قال تقرير لوزير التنمية الريفية سنة 1996؟ أم فشلت بسبب انعدام ما يعرف بالمزايا النسبية لزراعة الأرز في موريتانيا؛ حيث لم يتمكن الأرز الموريتاني من منافسة الأرز المستورد إذ كلف إنتاج كيلو غرام الأرز سنة 1995 كيلو غراما من الأسمدة؟ أم فشلت بسبب سياسة القرض الزراعي التي خلقت طبقة زراعية أرستقراطية؟
إن الحملة الزراعية التي أعلن عنها اليوم تجيء في ظرف تتميز بفساد الأراضي الزراعية؛ حيث لم يبق من الأربعين ألف هكتار التي استصلحت في الثمانينات سوى عشرة آلاف هكتار، وبتلاشي عدد كبير من البنية التحتية الصناعية والخدماتية للزراعة؛ بما يجعل زراعة 26 ألف هكتار المعلن عنها في هذه الحملة قبل نهاية الموسم في يوليو المقبل أمرا عسيرا، بل مستحيلا..
أما تركيز الحملة على الأرز في المرتبة الأولى دون دراسة حجم التكاليف والمردودية المنوطة بهذه الزراعة، ومقارنتها بزراعة المنتجات الأخرى، فقد تتولد عنه مضاعفات ونتائج خطيرة في المستقبل لأن الأزمة الغذائية الحالية لا تتحمل الأخطاء في الاستراتيجيات الكبرى للشعوب؛ فالبدائل ستكون محدودة في المستقبل المنظور.
وهناك معضلة أخرى تتعلق بالري من مياه النهر التي يتسع المتوفر منها حاليا في السدود للأراضي الزراعية للدول الثلاث، ومن يسبق لهذه المياه يصبح له الحق المكتسب فيها.
الزراعة في موريتانيا واقع وآفاق يحتاجان إلى دراسة مستفيضة نتركها للخبير المهندس الوزير المصطفى ولد مولود.





 الزير السابق: المصطفى ولد مولود متحدثا أثناء الندوة

الزير السابق: المصطفى ولد مولود متحدثا أثناء الندوة

مداخلة الوزير السابق المصطفي ولد مولود

I- مراحل تطور الزراعة في موريتانيا:
مرت الزراعة في موريتانيا بالمراحل التالية:

1- المرحلة الأولى:

الزراعة في موريتانيا في فترة ما قبل الجفاف (1974)، وهذه الزراعة كانت أساسا زراعة مطرية، أو زراعة فيضية في ما يعرف بشمامه، أو في ما وراء السدود الكبرى القليلة جدا على المستوى الوطني آنذاك. وطبعا كان الإنتاج محدودا في تلك الفترة بالنسبة لهذا الشكل من الزراعة، لأنه يتراوح بين 500 كلغ وطن في أفضل الأحوال بالنسبة للهكتار الواحد.
وكان هذا الإنتاج بالرغم من تواضعه يلبي أغلب حاجيات السكان، نظرا لأن معظم السكان في تلك الفترة كانوا بدوا يعيشون أساسا على المشتقات الحيوانية، كما أن المدن في ذلك العهد لم تكن بمثل الكثافة السكانية الحالية؛ وكانت تستورد أساسا الأرز، فالقمح لم يكن مستهلكا بالشكل الذي نعرفه الآن؛ حيث كان يزرع بصورة محدودة في المدن الواحاتية التي كانت تمارس فيها زراعة القمح المعروف بقمح "أشيلال".

2- المرحلة الثانية:
بدأت مع سنوات الجفاف الذي ضرب البلاد في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وكان جفافا قويا أتى على الأخضر واليابس، وأدى إلى نزوح مئات الآلاف من المواطنين إلى المدن والقرى. وخلال هذه المرحلة انهارت الزراعية المطرية والزراعة الفيضية في البلاد، وبدأ القائمون على الأمر آنذاك في التفكير في الحلول. وكان من بين تلك الحلول طبعا التحكم في مياه النهر، بإنشاء سدي جاما ومننتالي على المستوى الإقليمي؛ وعلى المستوى المحلي تشييد السدود، كسد فم لكليته، وإنشاء مزارع نموذجية كمزرعة "امبوريه" ومزرعة كيهيدي، ومزرعة بوغي، والمزارع القروية في كيدي ماغه، والبراكنه، والترارزه..
وقد بلغ التشجيع على الزراعة ذروته في منتصف الثمانينيات، ولأن زراعة الأرز نالت النصيب الأوفر من التشجيع فقد وصلت في هذه الفترة المساحة المزروعة إلى حوالي 35 ألف هكتار، وقارب الإنتاج آنذاك 100 ألف طن من الأرز الخام.

3- المرحلة الثالثة:
وتميزت هذه المرحلة باعتماد برامج التقويم الهيكلي المقترحة من قبل البنك الدولي، فتخلت الدولة بصورة شبه كاملة عن الدعم المباشر لإنتاج الزراعة، وبدأ تدهور هذا النشاط. وكان هذا التدهور ملحوظا بصفة خاصة على مستوى زراعة الخصوصيين ذات الطابع التجاري، حيث جاء تخلي الدولة عن دعم هذا القطاع في وقت كانت فيه أسعار الأرز على المستوى العالمي متدنية جدا مقارنة مع تكاليف إنتاج الأرز على المستوى الموريتاني خصوصا، وفي إفريقيا عموما، في حين أن مهنة الزراعة ما تزال جديدة على البلاد ولم تتجذر بعد، فساهمت كل هذه العوامل بصفة حاسمة في التراجع الكبير الذي أصاب الزراعة المروية وبنيتها التحتية في موريتانيا.

II- واقع الزراعة الحالي في موريتانيا
ونجم عن كل هذه التراكمات واقع جديد تجلى في عزوف كبير عن القطاع من قبل المزارعين، بسبب الخسارات المتتالية التي أصابتها خلال السنوات الأخيرة، مما أدى إلى خسارة البنية التحتية التي فقدت الصيانة لاسيما وأن ما يتعلق من هذه البنية التحتية بالقطاع الخاص لم يقم به أصلا وفق المعايير الفنية اللازمة، كما أدى إلى هجرة اليد العاملة في مجال الزراعة؛ لاسيما أن زراعة الأرز تتطلب يدا عاملة فنية تتمتع بالكفاءة، وقد نزحت هذه اليد العاملة إلى المدن بحثا عن أعمال أخرى، وأدى إلى تلف الآليات التي كانت تقوم باستصلاح الأراضي أو تحولها إلى مجالات أخرى بحيث لم يعد يوجد الآن ما يكفي من الآليات الضرورية لترميم المزارع القائمة وتوسيعها.
وأدت هذه الأوضاع كذلك إلى تراجع الصناعات المتعلقة بالأرز (كمصانع التقشير)، والخدمات المرتبطة بالزراعة المروية بصفة عامة كالخدمات المالية المتجلية في القرض الزراعي، والخدمات المرتبطة بالإنتاج كتوفير الأسمدة، ومكافحة الآفات الضارة، وكالبذور، والمدخولات الزراعية. كل هذه الخدمات كانت قد شهدت في الفترة السابقة نموا سريعا، ثم شهدت نكسة كبيرة.
وأدت هذه الانتكاسة إلى أن حوالي 40 ألف هكتار التي كانت مستصلحة من قبل لم يبق منها في حالةٍ تُمَكّن من استغلالها في الحملة الحالية إلا أقل من 10 آلاف هكتار، بينما لم يعد يوجد ما يكفي -حسب المعطيات المتوفرة حاليا- من الآليات مثل: الجرارت، والحصادات الآلية، والجرافات، ومعدات استصلاح الأرض، وشق القنوات، لضمان تحقيق الأهداف المعلنة، وهي زراعة 25 ألف هكتار هذه السنة، في الوقت المناسب على الأقل.
إضافة إلى ذلك يجب التساؤل: هل يمكن استيراد حوالي 2500 طن من البذور المحسنة الضرورية لهذه الحملة في الوقت المناسب أي ما قبل 15 يونيو، وكذلك مواد مكافحة الآفات الزراعية وغيرها من المدخلات؟ وهل يتسع هذا الوقت لضمان الحصول على بذور محسنة تزيد في الإنتاج وتحافظ على التربة من الأوبئة؟ خاصة أن السنغال البلد الذي كنا نستورد منه البذور، يقوم هو الآخر الآن بحملة زراعية شاملة لاستغلال أكثر من 100 ألف هكتار، ولا يمكن التعويل إذن على الحصول على البذور منه.

III- آفاق الزراعة في موريتانيا:
يمكن أن نصنف الزراعة الموريتانية حاليا وفق التقسيم التالي:

1- الزراعة التقليدية ذات المردودية المحدودة (ما بين 500 إلى طن) للهكتار:
وهي مردودية تقتصر فقط على تلبية حاجيات المزارعين وعائلاتهم.. هذه الزراعة مهمة نظرا لطابعها الاجتماعي والسياسي، ويجب أن تتكفل الدولة بدعمها الدائم، لكن يجب أن يكون مفهوما أن دور هذه الزراعة في تلبية حاجيات السوق وتحقيق الاكتفاء الذاتي محدود جدا، ومن غير الممكن التعويل عليها.
2- الزراعة القروية المروية على ضفة النهر وعلى مستوى المزارع النموذجية التابعة لصونادير (كمزارع كيهيدي وبوكي وفم لكليته وغيرها):
وهذه الزراعة نظرا لحجم المساحة المخصصة لكل مزارع (ما بين نصف هكتار إلى هكتار) فإن إنتاجها هي الأخرى، حتى لو لم يستهلك منه المزارع وعائلته شيئا، يظل محدود التأثير فيما يتعلق بتلبية حاجيات السوق الداخلي.

3- الزراعة المروية الخصوصية ذات الطابع التجاري:
إذا ما نظرنا إلى العالم نجد أن الدول التي توفر الغذاء للعالم اليوم هي تلك الدول التي فتحت الباب ودعمت وشجعت الزراعة على المساحات الواسعة من أجل تلبية حاجيات السوق الداخلي والتصدير إن أمكن، وما زالت هذه الدول على الرغم من العولمة ومحاولة تطبيق اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة تدعم مباشرة زراعتها كما هو شأن الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، واستراليا، والبرازيل وتيلاندا، والصين.
إن وصول القمح المدعوم من أوروبا إلى موريتانيا بصورة مجانية أو شبه مجانية قد قتلت الأمل في قيام أي زراعة تنافسية لمادة القمح، بل ولغيرها من الحبوب، لأن الحبوب الأخرى لا تستطيع أن تنافس القمح. وهذا وضع أدى إلى تغيير العادات الاستهلاكية للموريتانيين بحيث أصبح القمح ومشتقاته يمثل الغذاء اليومي الرئيسي للسكان، بينما قضى وصول القمح المجاني إلى موريتانيا في إطار سياسة دعم الدول المانحة لمزارعيها على تنافسية الإنتاج المحلي.
لقد استثمرت الدولة إلى حد الآن في قطاع الزراعة القروية، والمزارع النموذجية في "امبوريه" وفم لكليته، وكيهيدي، وبوكي، واركيز والمزارع القروية التي تشرف عليها الشركة الوطنية للزراعة (صونادير) حوالي 160 مليار أوقية، بينما لم تستثمر الدولة حتى الآن في دعم القطاع الخاص أكثر من 15 مليار من الأوقية، في حين كان القطاع الخاص خلال سنوات الذروة ينتج 75% من إجمالي إنتاج الزراعة المروية بينما لم ينتج القطاع القروي إلا حوالي 25 إلى 30% .
وما دام هدف موريتانيا الرئيسي اليوم هو ضمان الاكتفاء الذاتي من الأرز والقمح المادتين الاستهلاكيتين الرئيسيتين الآن في البلاد، فلا مناص من وضع سياسة واضحة المعالم، والأهداف، والوسائل لدعم القطاع الكفيل بالإنتاج على نطاق واسع، وهو قطاع الزراعة الخصوصية ذات الطابع التجاري.
ويدعم هذا التوجه الوضع الغذائي العالمي الحالي الذي يتسم بأزمة غذائية شاملة من غير المتوقع الخروج منها في الأفق المنظور، وذلك بسبب تحسن الظروف المعيشية في أكثر البلاد سكانا كالصين والهند وإندونيسيا، وزيادة طلب هذه الدول على المواد الغذائية، وكذلك بسبب انكماش المساحات المخصصة عالميا –أصلا- لزراعة المنتجات الغذائية، وتخصيص مساحات زراعية كبيرة منها لإنتاج الوقود الحيوي. وإفريقيا مقبلة لا محالة بسبب هذه الأوضاع على مجاعة إذا لم تغير سياساتها الزراعية.

IV- ارتباط الزراعة بالمياه:
يثير هدف الاكتفاء الذاتي من الزراعة جانبا ثانيا مهما يتمثل في كون حصة موريتانيا من مياه نهر السنغال، واستغلال هذه الحصة يجب أن يحتل الصدارة في أولويات البلاد، لأن الاتفاقيات تنص على أن مياه نهر السنغال مياه مشتركة بين الدول الثلاث، وينص قانون المياه المشتركة على أن منسوب تدفق المياه في محطة "بكل" هو 200 م³ في الثانية، وعلى أساس هذا التدفق حددت المساحات المروية للدول الثلاث بـ 375هكتار، وفق التقسيم التالي:
مالي: 10 آلاف هكتار
موريتانيا: 120 ألف هكتار
السنغال: 245 ألف هكتار.
ولكن نظرا للجفاف، ولتدني مستوى تهاطل الأمطار فإن هذا المنسوب لم يعد يصل إلا إلى ما بين 100 إلى 130 م³ في الثانية في معظم فترات السنة، مما يعني أن المياه لا تكفي للجميع والدولة التي لا تبادر باستصلاح أراضيها ستكون هي الخاسرة، بحكم الحق المكتسب الذي يحصل عليه من يسبق إلى استغلال هذه المياه، وفي ظل هذا الوضع أطلقت السنغال التي تملك الآن أكثر من مائة ألف هكتار مستصلح برنامجا طموحا بالتعاون مع شركة هندية لاستصلاح كامل الـ145 ألف هكتار التي تتوفر عليها، بينما يمثل أقصى طموحاتنا نحن اليوم استصلاح 25 ألف هكتار، مع أن السنغال إذا أنهت استصلاح أراضيها وحازت المياه قبلنا فإن المائة ألف هكتار المتبقية لنا ستصبح عديمة الجدوى بسبب انعدام الماء اللازم لريها في فترة الشتاء والصيف.
إن هذه المشكلة تثير مشكلة أخرى هي مشكلة آفطوط الساحلي، الذي هو أول مشروع مائي زراعي في موريتانيا، تمت دراسته في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في الأيام التي كانت فيها إدارة الأشغال العمومية الموريتانية في اندرتوت بسينلوي وذلك في إطار التحضير لبناء العاصمة الموريتانية في انواكشوط. وفي أول خطة خمسية لموريتانيا كان مشروع آفطوط يتصدر قائمة المشاريع ذات الأولوية بالنسبة للبلاد. وقد تم إدماج الجزء الأوفر من مشروع آفطوط الساحلي في نطاق مشروع سد جاما ونفذ هذا الجزء فعلا، وكان يتمثل في الممر المائي لآفطوط الساحلي و4 فتحات بقدرة 20 م³ في الثانية لكل واحدة منها، وحفر كيلو متر من القناة الرئيسية للمشروع.
وتقوم فكرة مشروع آفطوط الساحلي على ربط النهر بالمنخفض المؤدي إلى انواكشوط بواسطة حفر 17 كلم ليتدفق الماء بعد ذلك إلى انواكشوط نفس التدفق الذي حصل سنة 1952 فيما يعرف بسيل لكوارب. وبهذا المشروع كانت موريتانيا ستتوفر على نهر مائي عذب ورائع يضمن توفير انواكشوط بمياه الشرب بصورة كافية، ويخلق 15 ألف هكتار من الأراضي الزراعية الجديدة و36 ألف هكتار من المراعي، كما سيخلق هذا الوضع وجها سياحيا جذابا لموريتانيا.
لكن مع الأسف عدلت السلطات عن هذا المشروع في منتصف التسعينيات رغم أن التمويل متوفر، وتم استبداله بمشروع الأنابيب الحالي الذي يسمونه خطأ مشروع آفطوط الساحلي.
إن مشروع آفطوط الساحلي الذي تخلت عنه البلاد هو نفس المشروع الذي نفذته السنغال باتجاه گير، وهو الذي خططت السنغال لمده داخل العمق السنغالي مما يعني استنزاف مياه النهر، وهذا ما أثار زوبعة سياسية بين موريتانيا والسنغال في ما عرف في نهاية التسعينيات بمشروع الأحواض الناضبة.
إن الانتباه إلى هذه القضايا لا يقل أهمية عن قضية الزراعة نفسها لأن المسألتين مترابطتان.

أشكركم


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!