التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:14:44 غرينتش


تاريخ الإضافة : 08.03.2011 15:34:11

مستقبلنا: إلى أين ؟

الوزير السابق دحان ولد أحمد محمود

الوزير السابق دحان ولد أحمد محمود

تمثل الثورات المباركة التي شهدها العالم العربي بوتيرة متسارعة - كما لو كان العرب على موعد مع التاريخ لا يجوز لهم أن يخلفوه – منعطفا تاريخيا في مسار الأمة العربية مجتمعة، ونقطة فارقة في تاريخ كل دولة عربية على حدة؛ وقد حبس العالم الغربي أنفاسه بعد ثورة تونس العظيمة، ووضع مؤسساته البحثية في حالة استنفار قصوى لفهم أسباب هذا التحول التاريخي في العالم العربي، واكتشاف مؤشراته؛ بغية استشراف مستقبل كل دولة عربية على حدة؛ مما جعل الغرب يستخلص أن أغلب الدول العربية مرشحة لهذا التحول إن عاجلا أو آجلا.

والحقيقة أن هذه الثورات العربية المباركة - التي لا تقل شأنا في التاريخ البشري عن سقوط "الباستيل" و لا عن انهيار جدار برلين- لم تكن مفاجئة لمن يؤمن بخيرية الأمة الإسلامية وأن قلب هذه الأمة النابض هو الأمة العربية، ويرقب حركة الأمم والشعوب من حولنا، ويدرس سير التاريخ الإنساني منذ عصر الأنوار، والتاريخ العربي منذ بداية النهضة الحديثة، إلا أنها كانت مباغتة – في لحظة اندلاعها، والبلاد التي انطلقت منها- بشكل خلط أوراق حكام تونس ومصر وليبيا واليمن، وشل عقولهم عن التفكير السليم فصارت قراراتهم لإنقاذ أنظمتهم المتهاوية عونا للشباب الثائر عليهم، حيث قال عميدهم إنه سيدعو الملايين لتحرير بلده – من شعبه - شبرا شبرا ، وبيتا بيتا، ودارا دارا، وزنقة زنقة، وفردا فردا.


لقد كانت هذا الثورات نتيجة طبيعية لتضافر كثير من العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية إلى جانب سلسلة من إخفاقات النظام العربي الداخلية والخارجية والإهانات المتكررة للإنسان العربي، والفشل الذريع في التعامل مع الشباب وفهم مطالبهم المشروعة، إضافة إلى انتشار الفقر والظلم وانعدام الأمل وانسداد أفق الإصلاح والحياة الكريمة في وجه هؤلاء الشباب.

وما ساد الظلمُ أمةً من الأمم وعاث فيها المترفون فسادا، وهُمش المصلحون، وخفت صوت الناصحين، وكثر المنافقون والمتزلفون إلا حاق بها الخراب، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا قال تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } وما ذلك إلا بسبب الظلم الذي لا يمكن أن تستقيم عليه دولة أو ينتظم به عمران {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وغياب الإصلاح {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}

لقد أظهرت هذه الأحداث أن قوة الأجهزة الأمنية، وسطوة القوات المسلحة، والرفاه الاقتصادي، وارتفاع مؤشرات التنمية، ومتانة العلاقات الخارجية مع الغرب، لا يمكن أن توقف حركة التاريخ ولا رياح التغيير، أو تعصم من انفجار براكين غضب الجماهير العربية التي تحمل ميراث قرون من ظلم الأنظمة واستبدادها، وتهميش المواطن وتجويعه { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.

وقد كان من اللافت للنظر في حركة هؤلاء الشباب الأبطال أنهم لا يريدون استبدال حاكم بحاكم كما يحدث في الانقلابات العسكرية - التي كنا نسميها ثورة عندما كانت شعوبنا العربية لا تصنع الحدث بنفسها - بل يريدون استئصال جذور النظام السياسي المستبد بأكمله، وإحلال نظام ديمقراطي تعددي مكانه يضمن لهم تحقيق ما يصبون إليه من الحرية والديمقراطية والتنمية والعيش الكريم، ولم يكن حقدهم يتجه إلى شخص بعينه بل كان منصبا على نمط في الحكم والإدارة والتسيير وتوزيع الثروة، ولعل إصرار الشعب المصري على القضاء على جهاز أمن الدولة، وإلحاح الشعب التونسي على حل حزب التجمع الدستوري وجهاز أمن الدولة معا خير دليل على ذلك.

وبالنسبة إلى وطننا الحبيب موريتانيا فقد كتبت منذ أربع سنوات في مقال تم نشره على نطاق واسع أن هناك ثلاث أطروحات تستشرف مستقبل هذه البلاد:

- جماعة ترى مشفقة أننا نقف على حافة الهاوية، و أن بلدنا كان دائما و ما يزال على شفا جرف هار، تحدق به الأخطار من كل جانب. والأدهى والأمر أن ساستنا ومثقفينا ـ يقول هؤلاء ـ لا يعون الخطر المحدق، ولا يتصرفون بما يقتضيه وعيهم بذلك إن كان لهم نصيب من وعي؛

- طائفة تستشرف لنا مستقبلا ليس بتلك الدرجة من القتامة، ولكنه مستقبل لا سلطان لنا عليه؛


- فئة ثالثة تنظر إلى المستقبل بتفاؤل زائد.

وقد قلت ساعتها بأنه لا تعارض – في رأيي - بين هذه الأطروحات الثلاث، فكل منها ينبع من وعي ببعد من أبعاد المشهد العام للمرحلة التي نعيشها ولتلك التي نقف على أعتابها، أما اليوم - وقد اتضحت الصورة وانجلى ضمير الغيب عما كان القدر يخبؤه لنا وللأمة العربية – فإنني أرى أن على جميع الغيورين من أبناء موريتانيا العزيزة- وخاصة قادة الفكر والرأي وحملة القلم - أن يستنفروا طاقاتهم الفكرية، ويجندوا قدراتهم الإبداعية لاستشراف مستقبل وطننا الحبيب؛ حتى يأخذوا العبرة مما حدث في تونس ومصر وليبيا، ويحدث في اليمن والبحرين، كي نجنب دولتنا الفتية مخاطر هزات اجتماعية لا قبل لنا بها.


إنني على ثقة كاملة من أن الحكام في تلك الدول الشقيقة استغرقهم تسيير الشؤون الجارية، والتفكير في إدارة الصراعات اليومية عن استشراف مستقبل بلادهم، ووضع الحلول لما كان يمكن أن يحدث لها في أسوأ الاحتمالات، ولولا أنهم أخذتهم العزة بالإثم فمنعتهم من سماع صوت الحكمة والعقل، وصوت الشباب الذين يتطلعون إلى غد أفضل، ويطالبون بحقهم المشروع في الحرية والمساواة والعيش الكريم، وعدم جعل الثروة والسلطة دولة بين الأغنياء، لما وقفوا في وجه حركة التاريخ، سدا منيعا أمام رياح التغيير القادمة مع أمواج القرن الواحد والعشرين التي تكتسح النظم الفاسدة وتحطم العقليات البائدة؛ ولوجدوا لشعوبهم طريقا سلسا لتحول سلمي لا تزهق فيه أرواح المواطنين حماية لنظم فقدت مبررات بقائها، أو تدمر فيه مؤسسات الدولة ومرافقها العمومية انتقاما من نظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، و لوجدوا لأنفسهم مخرجا مشرفا بدل التمسك بالكرسي إلى آخر لحظة ثم فروا من قصورهم المنيعة خائفين لا يلوون على شيء، وتحولوا إلى شياطين يتبرأ منهم الصديق، ويتنكر لهم الحليف، ويتشفى بهم العدو، وتنشر أسرار حساباتهم البنكية في وسائل الإعلام الدولية.

إن استشراف مستقبل موريتانيا - على ضوء هذه الحركة التي يشهدها العالم العربي - يحتم علينا أن نتساءل عن إمكانية انتقال هذه الحركة الاحتجاجية إلى بلادنا ولو بنسبة ضئيلة أو بعد حين؛ حتى نجنب بلدنا الحبيب أي تحول مفاجئ يقع بدون تخطيط مسبق؛ لأن موريتانيا ليست تونس ولا مصر ولا ليبيا ولا اليمن، رغم ما بين شعبنا وبين شعوب تلك البلدان من نقاط مشتركة كبيرة؛ فالشعب الموريتاني حديث عهد بثقافة الدولة المركزية، وليس له تعلق برموز الدولة ومؤسساتها، ولا احترام للمرافق العامة، حتى يحافظ عليها في الاضطرابات، وبنيته الاجتماعية غير متماسكة نتيجة تمزق الانتماء الوطني بين الولاء للقبلية وللعرق، كما أن شدة التفاوت الطبقي الرهيب في بلادنا، وتاريخنا الطويل في "السيبة"، واستمرار الخلاف بين نخبنا السياسية والفكرية حول الثوابت الوطنية التي لا يجوز الاختلاف حولها، ووجود مسائل وطنية لم يتم حلها كل ذلك ينذر بخطر داهم إذا وضع مستقبل موريتانيا على المحك.

إن رياح التغيير التي هبت على الدول العربية تقتضي منا أن نحصن "دفاعاتنا"؛ لأن الحريق إذا شب في بيت جارك لا بد أن تستنشق دخانه إن لم يحرق ثيابك، وذلك لوجود مؤشرات غير مطمئنة على استقرار البلد
- ارتفاع أسعار المواد الأساسية
- انتشار البطالة في صفوف الشباب
- أن حوالي 60 % من مجموع سكان الشعب الموريتاني تقل أعمارهم عن 25 سنة
- زيادة الوعي بين الشباب الموريتاني بضرورة الإصلاح
- ارتفاع نسبة المواطنين الذين يتعاملون مع شبكات التواصل الاجتماعية حيث إن تصفح "فايسبوك" يحتل المرتبة الثانية وطنيا بعد "جوجل" متقدما على جميع المواقع الإخبارية الموريتانية
- استمرار تفكير النخبة السياسية وفق رؤى ضيقة وتصورات نمطية استنفدت أغراضها في القرن الماضي ولم تعد صالحة في القرن الواحد والعشرين ، وقد قال رئس علماء اليمن إن ما يقوم به الشباب العربي الآن يستحق براءة اختراع إذ لا يمكن إسقاطه على أي من النظريات السياسية القائمة.
- وجود فاعلين سياسيين واقتصاديين واجتماعيين غير راضين عن الوضع الراهن
- ضعف الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني
- تنامي تهديدات القاعدة لبلادنا
- وجود شريحة واسعة من الشباب الفقراء الذين يمكن تجنديهم لما لا يخدم الوطن
- كثرة الانقلابات العسكرية في بلدنا والتي كان آخرها انقلاب 6 أغشت 2008
- انسداد أفق الحوار بين الأغلبية وبين المعارضة.

وهذا ما قد يجعل اندلاع أي شرارة للتذمر على الواقع في بلادنا قد يأخذ منحى لا تحمد عقباه، وهو ما بدأت بوادره منذ أقدم أول شاب موريتاني على قتل نفسه حرقا في سابقة لم يتخيل موريتاني أنها يمكن أن تحدث على هذه الأرض مهما كانت الدوافع والمبررات.

إن أخشى ما نخشاه على موريتانيا إذا ما وصلتها رياح التغيير في يوم من الأيام، أو حاول بعض الناس استعجال لحظة التغيير قبل إبانها- وهي لا محالة واصلة - ولم نتهيأ لها - وقد ذكرت آنفا أن أجهزة الأمن، و كثرة المال، ومتانة العلاقة مع الغرب كل ذلك لا يقي منها - أن لا تكون كرياح الياسمين الطيبة المبشرة بغد مشرق، ولا كنسيم النيل الذي ينبع من حضارة تمتد جذورها عبر آلاف السنين، بل كالعواصف الهوجاء التي بدأت تهز ليبيا الحبيبة محولة هذا البلد العربي - الذي يعد أغنى بلد في إفريقيا ورابع أغنى بلد عربي - من قبلة للعمال والباحثين عن لقمة العيش الكريم إلى جحيم لا يطاق حيث قال أشقاها إما أن أحكم ليبيا أو أدمرها، أو أن تكون مثل الريح العقيم في الصومال التي ما تزال تعصف بهذا البلد منذ عقود ولا أحد يرى لها نهاية.

إننا نخشى إذا ما حدثت حركة احتجاج مفاجئة في بلدنا
- أن تمتد يد الفقراء والمعدمين – الذين لا يتورع كثير منهم عن أخذ أحذية المصلين في المساجد- إلى مؤسسات الدولة أو إلى المرافق العامة أو الممتلكات الخصوصية فتعيث فيها نهبا وفسادا.
- أن ينتهز تنظيم القاعدة - الذي ينتمي له عشرات من الشباب الموريتاني وربما المئات- الفرصة لتنفيذ أجندته الإرهابية في بلادنا.
- أن تكون ردة فعل رجال الأعمال (مع إيماننا بوطنية الكثير منهم) وآكلي المال العام، وهم كثر في بلادنا، أشد ضراوة مما حدث في بلاد أخرى..
وعليه فإني أدعو الغيورين على موريتانيا من المثقفين والشباب والمصلحين إلى نقاش بناء عبر الإنترنت لتدارس ما يمكن فعله قبل وصول رياح التغيير وبعد وصولها، ولقد جاءت أشراطها وبدأت بشائرها منذ 25 فبراير.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!