التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:20:22 غرينتش


تاريخ الإضافة : 06.06.2008 23:07:57

موريتانيا...ومتطلبات المرحلة الاقتصادية الراهنة

الهادي ولد أبوه*
[email protected]

إن هشاشة الاقتصاد الوطني بالتأكيد ليست وليدة المرحلة الجديدة بل هي نتاج تراكمات عديدة ومعقدة وحلها يتطلب أخذ كل شيء في الاعتبار حتى الأشياء الصغيرة، ولقد غلب علي الوطن طوفان الأماني الذي جاء من سحر "الديمقراطية" ، وأول خطوة في الطريق الصحيح هو الاعتراف بمرارة الواقع وتحدياته الجسام والخروج من مشهد الأوهام...والابتعاد عن الأكاذيب وإن كانت ترضي الجميع، ولن يتم ذلك إلا من خلال:
• إزاحة كل المعوقات التي تحول دون انبثاق الإمكانات الذاتية الكامنة داخل كياننا.
• توفير الترتيبات المؤسسية التي تساعد علي نمو هذه الإمكانات الإنسانية المنبثقة إلي أقصي حدودها
وعلي المستوي العملي، فالاقتصاد الوطني يحتاج إلى أساس متين، عموده الفقري قاعدة صناعية قوية، ونموذج التصنيع نموذجا متعلقا بتوفير بدائل الاستيراد الهادف إلى تطوير النموذج الاقتصادي بواسطة استثمارات موجهة عبر المراحل التالية:
- المرحلة الأولى : نحو القطاعات التي تتوفر على طلب داخلي، أي التي توفر السلع الاستهلاكية الواجب إشباعها وإن تطلب الأمر اللجوء إلى الاستيراد، فالاستثمار الصناعي يجب أن يكون موجها في مرحلته الأولى نحو هذه القطاعات.
- المرحلة الثانية: يجب في هذه المرحلة أن يوجه الاستثمار إلى توفير سلع التجهيز بسبب توسع الطلب الناتج عن نمو القطاع الأول، ويجب التحضير الجيد لتأسيس هذا القطاع من خلال تطوير قطاعات السلع الوسيطة ونصف المصنعة في هذه المرحلة من النموذج القائم على إحلال التصنيع كبديل للاستيراد.
أما المرحلة الثالثة: فيجب الانتقال إلي تأسيس قطاع السلع المنقولة للاستجابة لطلب المستثمرين.
وبهذه الكيفية ومن مرحلة إلى أخرى سنتمكن من تصنيع البلاد شيئا فشيئا مع الأخذ بعين الاعتبار ما يكفى من الحذر في التعامل مع التبعية الاقتصادية التي تطبع بلدان الجنوب.
وبما أن التبعية هي وضعية تفرضها الظرفية الراهنة، والتخلص منها ليس بالأمر اليسير، فالحل الأمثل هو محاولة تقليصها إلى أخفض ما يمكن، خصوصا إذا ما نظرنا إلى الأمر نظرة واقعية ترسخ في أذهاننا أنه من حق كل أحد البحث عن مصلحته لكن ليس على حساب الآخرين، وأن كل من يقدم خدمة لن يقدمها مجانا بل لها مقابل، وعلينا أن نستفيد منها وندفع مقابلها بشكل يضمن أن لا يكون مضرا لنا بأي حال من الأحوال.
و تعتبر النجاحات الاقتصادية لدول جنوب آسيا خلال العقود الأربعة الأخيرة رائدة ومثال يحتذي به، فاليابان مثلا أصبحت ثاني قوة اقتصادية، كما أن: كوريا الجنوبية، تايوان، هونغ كونغ وسنغافورة عرفت خلال العقود الثلاثة الأخيرة معدلات نمو سنوية قدرت بـ8%، أما ماليزيا وتايلاند والهند واندونيسيا فقد سجلت في الفترة ما بين 1960-1996، نسب نمو قدرت بـ7% ، وقلصت عدد الفقراء الذين يعيشون بدولار واحد في اليوم بمعدل 5 مرات، الصين و الفيتنام أصبحتا أمثلة جديدة لاقتصاد السوق، كما أن الهند تعرف قفزة حقيقية، ومنه هناك مفتاح أو نموذج آسيوي للتنمية الاقتصادية، وهذا النموذج يمكننا أن نستخلص منه الآتي:
o سياسات اقتصادية موجهة نحو التصدير، وليس نحو السوق الداخلية التى تتطور على أساس وتيرة نحو الصادرات.
o تدخل الدولة مهم في مجالات ومنها الاستثمارات مثلا، وليس الليبرالية والاعتماد على القطاع الخاص لوحده.
o مراقبة جادة للموارد ودعم الصادرات وليس التبادل الحر الذي سيؤثر علي الصناعات الوليدة والتي لا تملك مؤهلات تنافس بها منتجات الدول ذات الخبرة .
o مراقبة الاستثمارات الخارجية التي يسمح بها والأسواق المالية وليس الانفتاح التام والحرية في حركة رؤوس الأموال.
o جعل التربية والتكوين والصحة كأولويات في برنامج الحكومة.
o استعمال عادل للمساعدات الدولية التنموية الممنوحة، حيث استعملت بأولوية في إنجاز الهياكل القاعدية.
o تعاون جهوي قوي.
من جهة أخري فإن نجاح النموذج الآسيوي قام علي أساس شرطين أساسيين:
 أنظمة سياسية قوية ومستقرة.
 إدارة فعالة وكفاءة وهيكلة تقنية عالية.
النموذج الآسيوي دون أن يشكل نموذجا قابلا للنقل إلي كل البلدان الجنوبية، قد أعاد بعث النقاش حول التنمية الاقتصادية تحت شمس يوم جديد .
فهناك خطوات إيجابية انتهجت في تلك البلدان يجب النظر فيها ، وأن لا نغفل عن الخصوصية التي تميز تركيبة كل اقتصاد، لكي لا نقع في الخطأ الشائع والمنتهج من طرف المجموعة الدولية ، حيث تستخلص من تجارب سابقة أدوات وتفرضها تطبيقها علي دول نامية أخري تختلف عن الأولي من حيث التركيبة الاجتماعية والسكانية والثقافية...الخ، مما أوصل التنمية في تلك البلدان إلي طريق مسدود.
فنقطة البداية لصانع السياسة يجب أن تكون في تحديد أنواع المخاطر الممكنة المرتبطة بأي قرار اقتصادي وخصوصا التي تهدد الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي، وهذا يتضمن رصد وتحليل وتصنيف البيانات الكلية من حيث الخصائص وتترابط المخاطر التي يتعرض لها الاقتصاد الكلي والمالية العامة بعضها البعض بشكل وثيق فمن ناحية قد يساهم عدم الاستقرار الاقتصادي الكلي (التضخم واختلال التوازن في ميزان المدفوعات )في عدم الاستقرار المالي ، وقد يسهم عدم الاستقرار المالي(نظام مالي ضعيف)في عدم توازن الاقتصاد الكلي.
ومن أبرز ملامح اقتصادنا الوطني هي الاختلالات الجذرية التي تطبع مكوناته الكلية، وكذا الطبيعة الهشة لنظامنا المالي، وتبقي التنمية في بلادنا تحت رحمة صانع السياسة المحاصر بإملاءات المجموعة الدولية من جهة والمواطن اللاعقلاني في استهلاكه واستثماره.
مما يتطلب منا تحديد الأدوار في المرحلة الراهنة، و في نظري فالعبء الأكبر يقع علي الدولة ، فالمرحلة ليست مواتية لكي تتخلى الدولة عن دورها.
وهو ما يتطلب تركيز الجهد الأكبر علي:
 مكافحة الفقر من خلال الاحتواء والشمول الاجتماعي، وكذا السياسات الهادفة إلي إيجاد فرص العمل، كما ينبغي الوصول إلي أعماق المناطق الريفية نظرا لكون الفقر في موريتانيا ظاهرة ريفية وكذا ضخامة الكتلة السكانية في هذه المناطق.
 تحقيق الهدف التنموي الرامي للإقلال من الفقر يتطلب منهجية خاصة في تشخيص الأوضاع وكذا في صياغة السياسات، كما أن المنهج السليم هو استعمال التفضيل الاقتصادي الاجتماعي في اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية.
 انتهاج البرامج ذات البعد الاجتماعي يساعد البلدان في اتجاهها إلي تحقيق الهدفين الحاسمين اللذين يعزز كل منهما الآخر ألا وهما: النمو القابل للاستمرار، والإقلال من الفقر.
 التركيز على تنمية الكفاءة والقدرة المحلية لمعالجة إشكالية الربط بين السياسات الاقتصادية وأبعادها الاجتماعية، وكذلك بالتركيز علي بناء المؤسسات وتدريب الكوادر الفنية.
 تشجيع اللامركزية وتدعيم الممارسة والسياسات الديمقراطية وخاصة بالنسبة للمجتمعات المحلية والفئة المحرومة والفقيرة وتشجيع مشاركتهم في تحديد احتياجاتهم في وسائل تدبير هذه الاحتياجات وتحديد المعالم الرئيسية للمستقبل في مجتمعاتهم وحياتهم، وتحويلهم من قوى مستهلكة إلي قوى منتجة، وهذا التحول المستهدف سيمكن الاقتصاد من قفزة نوعية، لأن الأخطر على الاقتصاد الوطني هو العقلية اللااقتصادية، والتي يتمتع بها الفرد الموريتاني، أضف إلي ذلك الاتكالية الضاربة بجذورها في المجتمع.
 زرع الثقة بين أفراد المجتمع وبناء مجتمع مدني هي وسائل هامة لبناء الاقتصاد الطويل المدى.
 نحتاج إلى شبكة أمان اجتماعي تشمل الفقراء جميعا.
إن الأمر ليس مجرد برنامج ولكن إستراتيجية متكاملة علي مستوي الدولة تساعد علي الوصول إلي التنمية المنشودة.
وفي ظل الأجواء الراهنة (انفراج سياسي، أزمة اقتصادية، مساعدات دولية)
فمن المؤكد أنه هناك برامج حكومية من أجل الحد من الأزمة من جهة، ومن جهة أخري العمل علي استغلال المساعدات وسيترتب عن ذلك بالتأكيد انتهاج سياسات تجميعية والتي يجب أن تسترشد بهدف مكافحة الفقر كمنطلق أساسي ومن ثم لابد من العناية بالاعتبارات التوزيعية في اختيار عناصر حزم السياسات بما في ذلك سياسات التثبيت وحزم برامج التدخلات علي المستوي الجزئي للأسر والمجموعات السكانية، وبالتالي فصياغة تلك السياسات يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
أولا: أن يتم اختيار سياسات التثبيت الاقتصادي التجميعي التي من شأنها تحقيق الأهداف الاقتصادية التجميعية بأقل تكلفة للقطاعات السكانية، وفي مثل هذه الأحوال فإن المبادئ التي يجب مراعاتها في صياغة السياسات هي اختيار المدى الزمني القصير القابل للعلاج بالصدمة مع المدى الطويل المتوافق مع متطلبات التنمية، والنمط الزمني لتتابع تطبيق السياسات والفترات الزمنية المناسبة لإنعاش الاقتصاد من خلال سياسة مالية توسعية وسياسة نقدية أكثر مرونة.
ثانيا: أن يتم التأكد من أن السياسة المالية تقوم بحماية بنود الإنفاق العام التي تعني بالفقراء والتي يجب أن تدمج في بنود الإنفاق العام، لأنه لا يوجد لها أثر في حياة الفقراء، كما أن الخدمات العامة يجب أن يتم تقديمها بواسطة مؤسسات ذات كفاءة وشمولية (تشمل الجميع)
ثالثا: تأسيس وتعزيز شبكات الضمان الاجتماعي وتمكينها من تقديم خدمات التامين للفقراء بكفاءة واقتدار.
رابعا: تأسيس آليات التدخل بهدف الحفاظ على النسيج الاجتماعي، وبناء رأس المال المجتمعي
خامسا: تأسيس آليات لتوفير المعلومات المطلوبة لمتابعة وتنفيذ السياسات ومراقبة وقعها علي الفقراء
ونلاحظ أن هذه الاعتبارات ترتكز بشكل أكبر علي قناة الإنفاق الحكومي، واعتمادها بشكل مباشر أو غير مباشر على مؤسسات الضمان الاجتماعي، كما تعتبر برامج الأشغال العامة وبرامج التحويلات النقدية والعينية مكملة للارتكازين الأساسيين مما يعمق من مسؤولية الدولة في تطبيق وتنفيذ وتسيير هذه الإجراءات التي تجعل من الاقتصاد أكثر قدرة علي ضمان حياة كريمة للمواطنين، وكذا قوة للاقتصاد الوطني في نطاقه الإقليمي، واحتلال الرتبة الطبيعية لاقتصاد يتمتع بموارد طبيعية ليست بالشحيحة وبكتلة سكانية ليست بالضخمة.

* باحث ومحلل اقتصادي


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!