التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:12:38 غرينتش


تاريخ الإضافة : 03.08.2011 22:52:16

الحرب الخطأ... والعدو الخطأ

سعد بوه ولد الشيخ سيد محمد

سعد بوه ولد الشيخ سيد محمد

أدري أن كثيرين ممن سيقودهم الفضول إلى الإطلاع على هذه الأسطر سيشتمونني لا ريب وسيلعنون الأرض التي تقلني واليوم الذي فيه ولدت؛ وأدري كذالك أن أكثرهم رحمة ورأفة سيمنعني دثار الوطنية ويحرمني ظلال الهوية والانتماء، لكني بالرغم من ذلك كله مصر على إبداء وجهة النظر هذه؛ ليس فقط لأنها قناعة لا تتزحزح وإنما أيضا لأن كثيرين أمثالي يرونها ويحبس الخوف أنفاسهم وترتجف أجسادهم لمجرد إحساسهم الدفين بها فأحرى أن تسول لأي منهم نفسه أن يبوح بها أو يحدث نفسه ولو همسا.

وطبيعي أن العنوان الذي اخترته لهذه الأسطر يكشف وجهة النظر التي أتبنى والرأي الذي إليه أميل إذ لا يخفى أن الحرب التي قصدت وبالخطأ وصفت هي الحرب المعلنة من طرف النظام على تنظيم القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي، وأن العدو الذي أردت ومن العداء برأت هو ذلك التنظيم نفسه؛ فهل أغنى العنوان عن الخطاب طالما أن وجهة النظر علمت وأن الرأي عرف، إذن لكنت جديرا بالموقف الذي سيتخذه مني أولئك وقمينا بالحكم الذي سيطلقونه؛ إذ ما الفرق إذ ذاك بيني وبين أولئك الذين ألبسوا هذه الحرب منذ وهلتها الأولى لبوس القدسية حتى صار الحديث عنها بغير الثناء والمديح ضربا من الخوض في المحرم الممنوع.

غاية هذه الأسطر بالدرجة الأولى إذن هي الرفض الصريح لحملة التخويف والتخوين التي تخوضها أقلام مأجورة وأخرى متزلفة ضد كل رأي لا يسبح ويقدس باسم هذه الحرب باعتبار أن التخلف عن نصرة الجيش فيها ـ على حد زعمهم ـ هو بمثابة تول يوم الزحف ينال صاحبه من التأنيب والسخط ما تصتك منه المسامع ويشيب له الولدان. غايتنا إذن أن نضع هذه الحرب على طاولة البحث والنقاش وأن نجردها من ثوب القدسية الزائف ونعكس عليها أضواء المصلحة العامة باعتبارها وجهة نظر طرف وقرار نظام إن لم نقل قرار فرد ليس له من العصمة حظ ولا من القدسية نصيب.

هذه الحرب خطأ

قد لا يكون من المفيد في هذا المقام التعرض لذكر الوقائع التي حصلت حتى الآن والاعتداءات التي تعرض لها البلد بدءا بلمغيطي ومرورا بتورين والغلاوية وانواكشوط وصولا لمعارك الشمال المالي التي لا تزال رحاها تدور، ذالك أن بانوراما هذه الأحداث معلومة وما من شك أن الأرض والجيش الموريتانيين تعرضا في بعضها للعدوان وأن ضحايا سقطوا وجراحا نزفت ولا تزال، لكن توصيف ما جرى ويجري بحرب لا يبدو محل إجماع من طرف متحدثي الحزب الحاكم نفسه ناهيك عن الساحة السياسية الوطنية بصورة عامة؛ إذ في حين اعتبره أغلبهم حربا بما للكلمة من معنى؛ ذهب بعض آخر إلى اعتبار ما يجري مجرد مناوشات لا تمثل حربا بالمفهوم الحقيقي للكلمة فهل هناك عدم انسجام في موقف الحزب أو عدم تنسيق للمواقف في قضية أرادوا أن يرغمونا على الإيمان بها قسرا، أم أن الأمر لا يعدو كونه محاولة للتخلص من الحرج القانوني القائم بفعل أن الحرب تتطلب دستوريا موافقة البرلمان وهو ما لم يكن، فتفتقت عبقرية الحزب الحاكم عن فكرة اعتبارها حربا من نوع خاص جديرة بكل ما سوى المتطلبات الدستورية المنصوصة؟ هذا فيما يتعلق بالبيت الداخلي للحزب الحاكم، أما قوى المعارضة الوطنية فبالرغم من وقوعها تحت رهبة مقصلة الخروج عن رباط الوطنية الذي تمنحه جوقة السلطان لمن تشاء وتمنعه عمن تشاء مما سلبها الجرأة على التعبير عن مواقف صريحة، فقد ذهب بعض زعمائها إلى إعلان دعمه للجيش في حربه في حين أنها حرب النظام لا حرب القوات المسلحة الوطنية التي يجب أن نضع حدا فاصلا بينها وبين أي نظام يحكم حتى لا نحملها مسؤولية مظالمنا اتجاه أي نظام فنكرهها إذا نحن كرهناه، بينما ذهب أكثرهم جرأة إلى اعتبارها حربا بالوكالة دون أن يوضح أو أن يفصح ليصل الأمر بآخرين إلى اعتبارها مغامرة غير محسوبة، لكن الجميع ظل يتحدث عن طرفي الحرب بمواربة لا تخفى؛ فالحديث عن موريتانيا في مواجهة القاعدة حديث كاذب مغشوش إذ يبدو كما لو كان هنالك كيانان متمايزان في حين أن لفظ تنظيم القاعدة لا يحدد ولا يعرف بالدقة المطلوبة في هكذا ظروف العدو الذي نذهب إلى قتاله، وهنا يغفل الجميع أو يتغافل عن حقيقة أن أغلب ضحايا المعارك التي حصلت حتى الآن في شمال البلد ووسطه وشرقه هم موريتانيون بمنطق الجنسية التي يحملها كل طرف أي أن الضحايا هم في الغالب حملة جنسية واحدة، أبناء شعب واحد وهنا لاشك أن الحرب تفقد "جاذبيتها" ولا يكون للنصر فيها أي طعم، عد إلى لائحة قتلى الطرفين في كل المعارك السابقة وتأمل كيف تبدو لتعرف أننا نخوض في الوحل ويأكل بعضنا لحم أخيه وعليك أن تعذرني بعد ذلك إذا أنا رفضت الرقص معك على جثث القتلى وفوق دماء المكلومين.

لم يجرؤ أحد أبدا أن يصف كيف تلقت أسرتان جارتان في مقاطعة عرفات مثلا العزاء في قتيلين سقطا على طرفي جبهة القتال، ولم يسأل أحد أبدا عن شعور قبيلة واحدة دفنت في ليلة واحدة شابين من شبابها سقط كل واحد منهما برصاص الطرف الآخر في معركة واحدة، أي حرب مقدسة هذه التي تتحدثون عنها أيها السادة؟ وكيف تطمعون أن نغني معكم في مآتم فلذات الأكباد وأن نعلي قرع طبولكم على أنات الثكالى ونحيب الأرامل والأيتام؟ ستقولون هؤلاء ضالون مضلون خارجون عن الصف مفارقون للجماعة... ليكن، لكن أتعتقدون أن زعمكم هذا كفيل بالقضاء على روابط الدم وأواصر القربى؟ هل يجب أن نغني لحرب القاتل والمقتول فيها منا لمجرد أن أحد الطرفين ضل السبيل وحمل السلاح ضد بلده حسب ما تزعمون؟ إنكم مخطئون أيها السادة فيدك منك ولو كانت شلاء وأنفك منك ولو كان أجدع، والقائد الحق لا يكون قائدا للأسوياء الأقوياء فقط وإنما أيضا للضعفاء والمرضى وحتى الشذاذ يأخذ بأيديهم ويحنو عليهم ويحاول جاهدا أن يعيدهم إلى جادة الصواب. تلك هي مسؤوليته وذلك هو واجبه وإن حاد عنهما أخطأ وأساء. هذه إذن أيها السادة أتون فتنة لا ساحة حرب وهي فوق هذا وذاك مشوبة بأخطاء وعيوب كثيرة منها:

1ـ في التأصيل الشـــــرعي

يحاول سدنة النظام وأبواق دعايته تصوير هذه الحرب كما لو أنها غزوة من الغزوات تماما كما يفعل تنظيم القاعدة، وتلك مفارقة من مفارقات هذا الزمن الرديئ فهم يقعون في ذات الأخطاء التي يعيبونها على خصومهم؛ فالتعصب للدين تخلف والتعصب للوطن واجب، والالتزام الديني شبهة والتفسخ والانحلال حرية والأمثلة كثيرة لا تحصى، ولم يبخل علماء السلطان الذين تعودوا لي أعناق الآيات وتقديم الفتاوى الجاهزة عند الطلب بالشكل والمقاس المطلوبين، بتقديم الدعم، فالجنرال المنقلب والرئيس المنتخب هو أمير المؤمنين طاعته واجبة والخروج عليه كفر بواح، وبالرغم من أن كثيرين ممن سقطوا على أرض الوطن سقطوا أثناء دفاع مشروع عن النفس تقره كل الشرائع والديانات، فإن وحدة المعتقد الديني حرمت طرفي هذه الحرب من طمأنينة الحرب المقدسة التي يظفر المقاتل فيها بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، ولا يخفى مدى تأثير ذلك على نفسية المقاتل المسلم ونفسية ذويه عندما يأكل قلوبهم الخوف عليه وهو حي والحسرة عليه وقد صار إلى ما صار إليه، فالعقيدة القتالية للجندي المسلم تحتاج دون شك إلى اطمئنانه إلى عدالة قضيته ومطابقتها للمتطلبات الشرعية حتى يكون قتاله عبادة لا مجرد هدر للروح حتى يتوفر الأمان لآخرين، وهو ما لا نعتقد ـ على جهلنا ـ أن للطرفين فيه نصيب.

2ـ في الاستراتيجية السياسية

يشكل تنظيم القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي شوكة في خاصرة كل دول شبه المنطقة وتعتبره دول الغرب الرأسمالي عدوها الأول، لذا انقسمت دول شبه المنطقة إلى دول مكتوية بناره ودول ابراغماتية تستدر به عطاء الغربيين، وتبنت هذه الدول وتلك استراتيجيات مختلفة تراوحت بين المحاربة والمحاورة، وقد أظهر النظام الموريتاني بداية رغبة كاذبة في الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا للاكتواء بنار هذه الفتنة وكلف طائفة من العلماء الموالين والمعارضين بالدخول في حوار مع معتقلي هذا التنظيم وهو ما حصل بالفعل وخرج منه العلماء بتفاؤل لم يخفوه وأوصوا بتوصيات تعهد النظام بتنفيذها لكنه ما لبث أن نكص على عقبيه ودخل في حرب مفتوحة وشاملة مع هذا التنظيم دون تنسيق كاف مع الشركاء في المنطقة وقبل الحصول من الغرب على الدعم المطلوب حتى لا نقول الثمن المطلوب، بل إن النظام الموريتاني لم يحاول حتى الحصول على إجماع وطني يتبنى هذه الحرب؛ فدخلها بإرادة منفردة ولا يزال يخوضها بنفس الإرادة دون أن يبدي أي اهتمام بمواقف وآراء الأطراف السياسية الأخرى وهو ما أفقد هذه الحرب حجية الإجماع الوطني بعد أن فقدت قدسية التأصيل الشرعي.


3ـ في التكتيك العسكري

لم ير أغلب المراقبين والمهتمين بالشأن العسكري بمن فيهم قيادات عسكرية سابقة في تكتيك مباغتة تنظيم القاعدة في قواعده بجمهورية مالي رأيا حصيفا ولا موقفا حكيما، ذلك أنه إضافة لما فيه من مخاطرة بأرواح الجنود فهو يفقدهم رافدا آخر من روافد العقيدة القتالية هو رافد الدفاع عن الأرض والذود عن الحياض، فحين يقاتل الجندي بعيدا عن أرضه يحتاج إلى سبب مقنع يقنعه بالغاية التي لأجلها حمل نعشه على كتفه.


4 ـ في التغطية الإعلامية

عندما كانت قيادات من الجيش الوطني تعقد مؤتمرا صحفيا تتحدث فيه عن قتال وتعلن عن سقوط ضحايا؛ كانت وسائل الإعلام الوطنية تغني وترقص على طريقة القذافي؛ هذا فضلا عن أن المواطن الموريتاني ظل يتعرف على نتيجة أي معركة من تلك المعارك عن طريق وسائل إعلام أجنبية ليأتيه تصريح وزارة الدفاع بعد ذلك بساعات مقتضبا يخبر عن حادثة وينبأ عن ضحايا دون تحديد ليترك للأهالي أن يتعرفوا على ضحاياهم بوسائلهم الخاصة على وقع أغاني الإذاعة الصداحة وأنغام التلفيزيون الرديئة.


و العدو خطأ...

العدو الذي نقاتله ونريد أن نجند شعبنا ضده هو كما رأينا أقرب إلى الشبح، مجموعات شبابية يدفعها الغلو والتطرف العائدان لعوامل شتى إلى الخطأ في توصيف قضايا الأمة وتحديد أولوياتها، وكما يبدو جليا فإنه لا يمكن اعتبار هذا التنظيم عدوا بالمعنى الدلالي للكلمة، إنه نظير مخالف في الرأي وفي فهم الحقائق وتوصيفها؛ لكنه ليس عدوا نقيضا تنبني استراتيجيته على أنقاض كياننا الذاتي.

أليس من الغرابة بمكان أن يكون الفرنسي العدو والنقيض الأزلي ثقافة ومعتقدا حليفا اليوم، وضد من؟ ضد أبناء أقصى ما يمكن أن يقال عنهم أنهم وقعوا ضحية الغلو والتطرف فأساءوا من حيث أرادوا أن يحسنوا وأخطأوا من حيث ظنوا أنهم يصيبون؟

الأكيد أن إساءة من يحاول إصلاحهم بحد السيف وتصحيح خطئهم بهدر دمائهم أنكى وأشد وأبعد من أن تأتي بنتيجة.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!