التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:12:30 غرينتش


تاريخ الإضافة : 12.08.2011 16:33:50

العلامة حدمين ولد المختار في ذمة الله

الدكتور
محمد المختار ولد سيدي محمد
أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة نواكشوط

"يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي"
صدق الله العظيم

بقلوب خاشعة، وعيون تكاد تبيض من حزن المصاب، وصبر جميل، ويقين بالله لا يتزعزع، ودعت محاظربلدية أحسي الطين، ومن ورائها الوطن، واحدا من أبرز علمائها ومشايخها، كرس حياته للعطاء العلمي، والإصلاح الاجتماعي، فمثل بذلك رمزا وطنيا عاش كبيرا ومات كريما، وترك في ذاكرة الأجيال حبا صادقا ومهابة مشهودة ومكانة علية في قلوب الناس، فكان حقا علينا، صلة للرحم وحفظا للمودة والقربى واعترافا ببعض جميل الفقيد، وأمانة للتاريخ أن نعرف ببعض جوانب حياته الزاخرة بالمواقف المشرفة، وأن نخلده في سفر التاريخ بوصفه واحدا من أساطين المعرفة، وفارسا من فرسان الكلمة، ورجلا جمع كل معاني الفتوة، وزانها بالجود وتواضع العلماء،وأن نترحم على روحه الطيبة راجين العلي القدير أن يبدله أهلا خيرا من أهله، وأن يمن عليه بشآبيب الرحمات و يدخله من الجنة الغرفات إنه سميع مجيب الدعوات.


ـ مولده وبيئته ودراسته وصفاته:

ولد حدمين ولد المختار في ربيع سنة 1936 في ضواحي أبروده غير بعيد من حاضرة قصر السلام التاريخية التي أسست على التقوى من أول يوم، في بيت عز وعلم وصلاح بمرابع أهل المختار ولد المعيوف من أهل بومالك بالواجهة الغربية لقبيلة لقلال، أيام كانت تلك المرابع ملأ سمع الدنيا وبصرها عامرة بأهلها من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، ومن قاصرات الطرف العابدات الصالحات، وهي بيئة اجتماعية قال عنها سيد عبد الله ولد الحاج إبراهيم لما سئل عن البومالكيين: "إنهم رجال مؤمنون ونساء مؤمنات" وكان الأمير بكار ولد أسويد أحمد يعجب حين يرى العلامة محمد الأمين ولد أحمد زيدان الجكني، على علمه وورعه، يقدمهم للإمامة واصفا وردهم بأنه أحسن الأوراد فالقادم إليهم يرتوي لبنا مباحا ويصلي في الجماعة ويستمع إلى القرآن يرتل آناء الليل وأطراف النهار" ولا تكاد تجد فيهم فتى إلا وقد حفظ القرآن، وأحاط بالمتون المحظرية المألوفة،وهكذا فما كان لصاحبنا أن يكون استثناء من هذه القاعدة، فدرس القرآن حفظا ورسما وتجويدا، والسيرة النبوية، والفقه أصولا وفروعا، والنحو وحفظ المعلقات السبع،وزاد عليها من عيون الشعر الأموي والعباسي،ودرس شروح ابن كثير والطبري ومختصر خليل، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، والأخضري وابن عاشر وألفية ابن مالك، ولامية العرب وعروض الخليل بن أحمد، ومتون الأنساب ولسان العرب وغيرها، وأمضى سنين صباه وشبابه بين محاظر محمد ولد يعقوب(حنيان)، ومحمد ولد محمد الهادي، ومحمد فال ولد المختار، وسيد بكر ولد محمد دوله،ومحمد عبد الرحمن ولد عبدي، والبار ولد محمد المامي، ومحمد عبد الرحمن ولد سيد على، وحمود ولد متار، وسيد المختار ولد شعيب وغيرهم من علماء الرقيبة،وكان حريصا على اقتناء الكتب فجمع أكبر مكتبة شخصية في عموم المنطقة، كان فيها خير جليس للكتاب، وخير مؤنس للزائر يكرمك كأنك تعطيه الذي أنت طالبه، ويحدثك حديث العالم المتبحر في شتى صنوف المعرفة فكأنك في رحاب موسوعة للمعارف.

كان الفقيد عالما زاهدا يذكرك بالحسن البصري والجنيد البغدادي في صفاء الروح وحسن السريرة ورسوخ العقيدة، وشيخا متقنا للعلوم الشرعية متمسكا بالمذهب المالكي على علم وبصيرة بشتى المذاهب الأخرى، و كان لغويا مبينا ممسكا بجوامع الخطاب كأنه قس بن ساعدة أو زياد ابن أبيه، وشاعرا مفلقا مالكا لناصية القوافي دون تكسب ولا ابتذال دافع عن العشيرة وتغنى بمرابع الأحبة وبالدمن الدوارس وذكريات الزمن الجميل، وعارض أقرانه وطارحهم بعيون القصائد المرصعة بالبيان والبديع وجمال الصورة وكمال المعنى وجمال المبنى، وفوق هذا وذاك كان صنديدا يوم الكريهة تهابه الرجال وتنقاد له أعنة الخيل، وفارسا وراميا سديد الساعد لا يخطئ الهدف.

وأجمل من كل هذا أن الفقيد كان ورعا يخاف الله في السر والعلانية،صواما قواما لا تأخذه في الله لومة لائم، بارا بوالديه والأقربين، وبالعشيرة كلها، وقد كرس سنوات عمره متعلما ومعلما للقرآن مما يعطيه سبق الفضل ويرقى به ، بإذن الله، إلى مراتب خيار الأمة انطلاقا من الحديث الشريف "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"



ـ دوره الاجتماعي:

لم تكن المشاغل العلمية للرجل، رغم جسامتها، لتحجب عنه الأدوار التقليدية المنوطة به كرمز علمي، وشخصية عامة، وكان لعلاقاته الواسعة في مناكب البلاد الموريتانية، وصلاته الوثيقة بالنخبة العالمة، وأساطين السياسة، دور بارز في تهيئته لأبداء الرأي، وإسداء المشورة، في الأمور العامة والخاصة، ولم تكن العشيرة تتردد في الاستفادة من خبرته الاجتماعية والعلمية ، ثقة منها في قابليات الرجل، وسداد رأيه، وحسن سريرته، وصدق نياته.

وحين يتعلق الأمر بالتاريخ الخاص لمجموعته تدرك كم كان الرجل مثالا للمصلح المتنور،والشيخ المهاب، فلم يرض أن يظل حبيس التقاليد البائدة في عرف القوم، ولم يخرج يوما على القيم الأصيلة في مجتمعه، وحين كان ينزغ الشيطان بين بعض إخوته كان الفقيد يختار دور الحكم المأمون الناصح، ولا يرضى أن يتموضع في خصام، إلا نصحا لأخ أونصرة لمظلوم أو ردا لظالم، وقد عرف بحب الفقراء والمستضعفين، وكان منفقا على اليتامى والأرامل في العشيرة بلامن ولا مراءاة، كما اشتهر بحرصه الشديد على عيادة المرضى وهو شيخ قد بلغ من الكبر عتيا، فجزاه الله خيرا وتقبل منه.

لقد خسرنا بفقده أبا وشيخا جليلا، وعالما علما، وقامة سامقة في علوم الظاهر والباطن، وصنوف المعارف، وجميع معاني الفتوة والكرم والإباء، وإننا إذ نودعه اليوم، بصبر جميل على مصاب جليل، نردد قول الشاعر المفجوع:
وماكان عبد الله رزء لمعشر ولكنه بنيان قوم تهدما

فمهلا يا أهل "حدي " كونوا من الذين قال فيهم جل من قائل:" وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون" صدق الله العظيم
فلستم وحدكم أولى بالفقيد منا
وعزاؤنا فيه أنه ترك فينا علما نافعا وذكرا حسنا، وذرية طيبة مباركة تقاسمنا المصاب، وتحفظ لنا العهد و المودة ما بقينا.
رحم الله السلف وبارك في الخلف


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!