التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:12:51 غرينتش


تاريخ الإضافة : 13.08.2011 16:21:06

متاهة انتهاك المعايير

د. الشيخ أحمد الجيلاني

من المفيد التذكير بأن الرغبة في التغيير الاجتماعي والإصلاح والمساواة من تقاليد العلم الاجتماعي, سواء عبر تقديم البحوث لحل المشكلات أو عبر التوجيه المعرفي الاستناري التفاعلي, أو عبر المساهمة في تركيب صور الشعور بالهوية، أو عبر التوعية بضرورة تجنب النماذج غير المناسبة للتنمية المبنية على سوء فهم أو جهل بالتراث الثقافي الاجتماعي النفسي للمجتمعات، أو عبر إزالة الأقنعة عن كل ما يسهل تزييف الوعي بأي دلالة، دون أن يكون لها أصل مادي أو معنوي ترمز إليه، بمجرد الاعتماد على المشاهد (الكارنفالية) أو الأفعال الطقسية البيروقراطية الممسرحة لتسويق الأوهام، الأكثر ارتباطا بما هو انفعالي ذاتي، مما هو تقني ملموس، في متاهة أشبه ما تكون بأوهام التبتل في رحاب المعبد قبل إنشاء أساساته أصلا.

من المفيد أيضا التذكير بان لهذه المتاهة جذورا أعمق من المتناول هنا، الذي سيقتصر على استكشاف بدايتها مع محاولة تأسيس "دولة موريتانيا" مستقلة في مجتمع صحراوي مازال في طور "الإعاشة السائلة" دون مراعاة لمراحل الاستعداد، والترويج "لاستقلاله الذاتي" أو إدارته بوجوه أبناء جلدته، لتبدأ المتاهة بعبثية تسمية الإدارة الذاتية ب " الاستقلال الكامل" التي لم تكن أزيد من إعادة ترتيب نوعية العلاقة مع المستعمر، بتعبير (الجابري، مسالة الهوية، 1995)
وبتجاوز الجذور الحضارية و الديموغرافية والإثنية والبيئية .. لهذه المتاهة، فانه يمكن مقاربة بعض مداخلها على النحو التالي:


أولا ـ متاهة الدلالات الرمزية لاسم الهوية:


من المعروف بين الباحثين في مجالات الهوية، أن الاسم هو المحصلة الأولى لمكونات الهوية الذي تنتسب إليه كل الحيازات الفيزيقية والمعرفية والأخلاقية، كخبرة سيكولوجية فردية كانت أم جماعية، ومن ثم، فإن صك اسم مفارق لتصنيف هوية جماعية في طور ما قبل النزوع نحو التشكل على أي نحو رسمي، لا يمكن أن يكون سوى وسيلة لتشويه ذلك المسمى، ومحاصرته في عجزه عن فهم دلالة اسم هويته، ومن ثم عدم إمكانية التواصل معها وترابط الأفعال المنسوبة إليها، إذ لا يمكن الاتصال بالقوى الذاتية إلا عن طريق تجاوز "أزمة الهوية" أو الخلط و الغموض في رموزها، من حيث ما إذا كانت عربية أم افريقية أم رومانية أم مسلمة أم مسيحية، أم أنها شيء ما باسم شيء ما من أشباح وسرا بات المتاهات الصحراوية، التي لا تتوفر على متطلبات "ماهوية" تمكن من إمكانية الشعور بها والانتماء إليها، من قبيل: { التمتع بالكينونة المادية ـ التماسك المادي والرمزي ـ القابلية للاستمرار في المتصل الزمني ـ الاختلاف عن الآخر وعدم الاستلاب ـ القيمة الأدبية للسلوكيات والأنشطة ـ الاستقلال المادي والمعنوي عن الغير ـ الثقة في النفس وفي الثقافة و تاريخ خيارات الهوية واستحقاقاتها على معطيات موضوعية ـ الجهد الإرادي المركزي في استمرارية الوجود والمشاركة في بناء الحضارة الكونية} وغير ذلك من المميزات الحسية و الرمزية التي يدفع غيابها نحو مزيد من أعراض "تفكك الشخصية أو الهوية وعدم تكامل سماتها" بما يصاحبها من أعراض مظاهر الصراع، و الميل إلى الاعتماد على الغير، والتصدع والانحلال، والتردد والحيرة..الخ، (انظر، رشوان، علم الاجتماع النفسي، المجتمع والثقافة والشخصية،2005).

وتظهر ملاحظة العلامة ( لينتون) أهمية الاسم حتى لدى الجماعات البدائية، التي تقتصر صفة ( التوتمية) فيها على إطلاق أسماء بعض الحيوانات أو النباتات على نفسها، كما المجتمعات المعاصرة، مثل الفرق الرياضية والفنية والحركية ، التي لا تستخدم سوى أسماء { النمورـ الدببة ـ الأسود..} التي تزيد من قوتها وتحديد هويتها، على عكس أسماء الحيوانات التي لا تحظى بتلك الهيبة، مثل { الدجاج ـ الكلاب ـ الأبقار..} ( للمزيد، انظر، الجوهري، الانثروبولوجيا، أسس نظرية،1996 ) ليؤكد بذلك على أن اللغة أداة غير محايدة في تعبيرها عن المتخيل، حيث تضفي المعاني على المواضيع وتفهرسها حسب سياق المحادثات وأبنية الكلمات، نظرا لما تحتويه من موجهات أولية منهجية للذهن، فتصير الأسماء التي تخلعها على الحواس الهامة التي تستخدمها أو المواضيع التي تقدرها بطابع معين، يتناسب مع مستوى دلالة قيمتها.

ربما تبرز هذه الأهمية أكثر، حين تبيان أن الرموز المادية أو المعنوية التي يضفي عليها مستخدموها معنى معينا، هي المميز الأساسي بين الإنسان والحيوان، حيث تقتصر قدرة الأخير قي تعلمه لمعاني الأشياء، على أنها موجودة فقط على هذا النحو أو ذاك، مثل اعتبار العملات علامة أو رمز للطعام، يجري النضال من أجلها كما لو كانت طعاما ـ حسب ما توصلت إليه تجارب (وولف) الشهيرة على الرئيسيات من القردة ( نفس المرجع ).

مما يعني أن استخدام الرموز دون اهتمام بدلالتها، هي خاصية " تشريطية " حيوانية فقط،، حيث يتميز البشر بقدرة غير متناهية على توليد الرموز و إضفاء الدلالات عليها، لعبور الفجوة بين الخبرات المختلفة وتركيمها في صورة رموز لغوية، يلخص فيها الإنسان خبرته المختلفة بعد استبعاد المحاولات الفاشلة ونقلها إلى الآخرين في زمن أقصر بكثير من ذلك الذي كانوا سيحتاجونه لجمعها بشكل فردي، كما تمكنه من القدرة على التفكير في المشكلات المجردة التي لم تكن أو تعد ماثلة أمامه، ومقاربة الخبرات كتغذية استرجاعية لتصور حلول لها، بدلا من الارتكان إلى العجز عن التمييز بين سوء التنظيم و عدمية المصير، البعيدة عن آلية الحكمة الصينية، في أن "القرار السليم يأتي بعد الخبرة التي تأتي من القرار السيئ" انظر، الفقي، المفاتيح العشرة للنجاح،2008 ) .


ثانياـ متاهة مفهوم السلطة أو الحكومة:


تعتبر النظم العقائدية أو القومية الكبرى من أرقى وأعقد ما توصل إليه العقل البشري، نظرا لما تتيحه من ضبط وتكامل وقضاء على التوتر و إشباع للحاجات الإنسانية، وتقوم المحافظة على النظام الاجتماعي، كعملية لا تنتهي وليس من السهل إدراكها ـ كما يقول (جار فنكل) على مبدأ التسليم بوجودها في أفعالنا بالسليقة دونما انتباه إليها بالضرورة، مثل عملية التنفس أو وضع قدم أمام أخرى، أو على الانطباع والتوقع من أن الآخرين يحترمونها (الجوهري وآخرون، التغير الاجتماعي، 1982 ) وكلما تراجعت مثل هذه التوقعات كلما استحالت الحياة الاجتماعية الاقتصادية ..الخ إلى تحفز وتوتر من الاختراقات للمعايير والقواعد المنظمة لحدود التعاملات بين الناس، ولكن حين تصل إلى الحد الذي يصبح فيه الناس لا يتوقعون من الآخرين احترام النظام بأي شكل من الأشكال، تستحيل الحياة الاجتماعية إلى دوامة من الحشود المرعبة في مواجهة رعب أخرى.

ولكي يكون النظام الاجتماعي داعما للتوقعات بفاعلية، يتوجب عليه أن يأخذ طابعا بنيويا، تعتمد أجزاؤه تناسقيا مع بقية المكونات الأخرى، كما الظلال في الألوان، كما يحتاج هذا الاعتماد بدوره إلى وجود نموذج رمزي مجرد، ليشكل بنيته التحتية "اللاشعورية و اللاشخصية" لتربط بين عناصره، ( انظر، الجباري، الانثروبولوجيا،1988 ) كمتوسط قائم بين الأنظمة، لتسهيل التبادل والتواصل بين مكوناتها الممكنة، وهو الشرط الذي لم يتحقق في موريتانيا، حيث لعبت متاهة التباسات مفهوم السلطة بدلا من ذلك، دورا في القضاء على أحد المكونات الهامة لرأس المال الاجتماعي، المعروف "بشعاع الثقة" الذي يشير إلى دائرة ما يجمع بين الناس من معايير و توقعات تعاونية فعالة، تسهل عمليات انتقال المعلومات، والعمل الجماعي، مع التقليل من الشعور بالتعرض للاستغلال..، ( انظر،سميسلر، النظرية السوسيولوجية، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، 1994 ) حيث أن تصورها لم يقم على مبدأ "التعاقد الاجتماعي" كما الدول القومية النموذجية الأخرى، أي "مبدأ الإذعان مقابل صيانة الحقوق والكرامة الخ" المشهور في فلسفات رواد العقد الاجتماعي، الذي يقضي بان الحكومة مجرد أفراد من الشعب، موظفون عند الشعب أو المجتمع لجودة أدائهم، وإنما قام على مأسسة معايير لانتهاك أو اختراق معايير العقد الاجتماعي، ليس فقط في كون السلطة ظهرت فبل وجود الوعي بضرورتها، أو وجود إرادة جماعية ببناء المؤسسات الناطقة باسمها، وإنما لأنها قامت ـ بالإضافة للأسباب السابقة فحسب ـ "كإدارة للمستعمرة" على تكريس مصالح القائمين عليها من جهة، ومصدرا لفرص العمل والترقي الوظيفي من جهة ثانية، واستمرت مبررات وجودها محصورة في التسليم بأنها مادامت عاجزة عن إمكانية تحقيق أهداف المجتمع كتنظيم دولاتي، إلا أنها تظل مفتوحة أمام أفراده من حيث إمكانية الالتحاق بصفوفها واكتساب عضويتها، لإشباع نهم السلطة من جهة ثالثة ـ بما فيها تلك التي سماها الاستعمار، مثل "شيوخ أو جواسيس وجامعي ضرائب المستعمر" الذين أسس باسهم مجلس موازي لمجلس النواب ـ و من ثم إتاحة الفرصة لممارسة سلوكيات الحائزين على السلطة ـ دون مردود إنتاجي ـ في التمظهر بكل ما هو نادر، من {أنعام ـ مساكن ـ ونساء السلطة والمال..} كنموذج لتحقيق الذات، عبر تحديها لتلك القيمة المحورية من جهة رابعة، و خلق الوهم الاجتماعي بإمكانية تحقيقها و تحقيق كل ما هو غير مشبع عبر عضويتها، على أسس توهم الجميع بحيازتها، و حتمية استحقاق نيلها "بمشيئة ما" دائما، من جهة خامسة!.

وبما أن المعايير المؤسسة لذلك قائمة على مبدأ "القوة البدائية" القبلية الفئوية، المنتهكة لمبادئ القوة المدنية، " الكفاءة والمزايا الشخصية الموضوعية " فان غالبية الناس يتصورون أنهم على بعد خطوات أو أدني من تبوؤ مناصب رفيعة لتعويض ما فاتهم، باعتبار ذلك هو المقياس الأساسي للنجاح والذكاء، أكثر من أي تحصيل معرفي أو استقامة في الذمة والسلوك ..الخ، فيما يمكن اعتباره "سمة الشخصية الأساسية" أو المنوالية للمجتمع الصحراوي، أي انه نمط من الخصائص الشخصية، القائم على الأمزجة اللاشعورية، التي تتشكل بواسطة النظم الثقافية "الأولية" تبعا لطرقها في تدريب الأطفال وتنظيم الأسر بها، و بما أن هذه الأمزجة تستمر خلال الحياة، فإنها تنعكس على الآخرين وعلى المواقف والنظم الثقافية الثانوية أو الرسمية، مثل الفن والدين والحكومة ـ حسب ما استنتجه ( ابرام كاردينال) من دراسة ( رالف لينتون) على العلاقة بين ثقافة قبيلتي ( التنالا و الماركيز) وسماتها الشخصية الأساسية، (انظر، غامري، الثقافة والشخصية ،1985 ) والذي قد يفسر في حالة "الصحراويين" هذه، رفض أي تغيير في ممرات المتاهة التي يتهيأ لهم أنهم خبروها واقتربوا بشق الأنفس من مكنزها، قبل ممارستهم لحقهم المأمول في ممارسة "نموذج السفاهة" ذلك، ومن ثم أيضا الميل نحو العزوف عن خلق الأنماط التكيفية التي يتطلبها أي تغيير اجتماعي، في المتتالية الزمنية التي يظهر بها المجتمع الديناميكي ـ حسب تعبير (ماكيفر)ـ وتجمد الميكانيزمات الثقافية المسئولة عن إحداث التغير عند تناقض صارخ "تقبل تغير كل شيء في المجتمع/ دون أن يطال ذلك أي شيء في بنيته المهنية أو الفئوية .." وكأن التغير شيء قابل للاستهلاك آو نجاز خارج الناس، مثل أي سلعة أو دستور أو رموز أخرى، بمجرد إعادة تركيبها، طبقا لذهنية "مشاعية السطو" الصحراوية، القائمة على التسليم بحق الانتفاع الطوعي أو القسري بما هو متاح في البيئة الشحيحة، بصرف النظر عن دلالة ومداخل شرعيته، ومازال الاستئذان باستعمال الأدوات الشخصية أو الملكية الفكرية أو الحرمة المنزلية..تثير خنق أصحابها.

و قد ترجع تلك المتاهة إلى عدة ملابسات أخرى، من قبيل درجة الضبابية في الحدود بين الثقافة الشعبية والمعرفية، إلى الحد الذي يعجز فيه المتعلمون عن إمكانية مقايضة جزء من ثقافتهم الأولية "بالتخلي عنه" لصالح الثقافة المكتسبة، بما يسمح بظهور أنماط سلوكية فردية أو جماعية، تميز صفوة المتعلمين في أسلوب حياتهم ومفاهيمهم ومواقفهم وأذواقهم.. عن غيرهم، نظرا لأهمية ما هو "أولي" ـ كما سبقت الإشارة ـ وبين التعريفات القانونية الرسمية وأشكال العلاقات الشخصية، و بين السلطة واستغلال النفوذ، وبين العلاقات الرسمية والأولية التي يسودها منطق "كل ما يخضع لسلطتي لخدمة علاقاتي الشخصية، وللآخرين الالتجاء للقانون" وغير ذلك من أشكال وأنواع الاختراقات وتداخل الحدود بين المتناقضات التي تثير السخرية والتهكم أو البله أو اللامبالاة أو الغموض أو الذهول، حسب الموقع أو الزاوية التي يطل منها الرائي.
فمن المزايدات في البطولات و الفتوحات الإسلامية في إفريقيا، إلى مسخرة العدوى الإفريقية في أسماء الأشخاص والأماكن والأشياء، وعبادة الأشخاص أو أرواح أو قبور الأجداد، كما القبائل البدائية "الدنكا والنوير" ومن الحكم التعسفي العسكري، إلى الديكورات الصورية الديمقراطية، ومن التعددية الحزبية إلى الانقسامية القبلية، إلى الدعاية التجارية والشخصية، ومن مجتمع مازال يمر بمرحلة أو طور"الإعاشة" أي عاجزا عن إنتاج ما يكفي لإشباع الحد الأدنى من حاجاته، و يتناول غالبية أطعمته في شكلها الخام، نظرا لفقدانه المهارات اللازمة لمعالجتها، مثل ابتكار وسائل وأدوات إنتاج اشتقاقات "الحليب" أثناء فترة الوفرة، على شكل "جبنه أو قشطه.." لاستخدامها في فترات الندرة الطويلة، وخاصة إذا ما استحضرنا أن الفارق الأساسي بين أنماط تطور المجتمعات البشرية، من مرحلة الالتقاط إلى مرحلة جمع الطعام إلى مرحلة إنتاجه، يتمثل في "مدى التدخل الإرادي للإنسان وقدرته على بذل الجهد ألابتكاري على طعامه وحاجاته"، (انظر، الفوال، علم الاجتماع البدوي، 2002 )، فمن هذا المجتمع الذي هو في أمس الحاجة إلى كل ذرة من الطاقة الإنتاجية لعناصره، إلى ما ترفعه مؤسسة العمل الرسمية فيه، من شعار "إدارة الشغل" لتؤشر أن لا علاقة لها بالعمل المنتج، و إنما هي إدارة إتاحة الفرصة لاكتساب عضوية الحكومة، يرجع الامتنان فيها للمشرف على السمسرة الوظيفية، أكثر من اعتبارها عملية تنظيمية لانخراط كل القادرين على العمل للمساهمة في زيادة الإنتاج وإشباع الحاجات، بطريقة توفر أو تكفل للناس كرامتهم، بدلا من التفنن في أساليب "التسول" بالشعر والشعوذة وغير ذلك من الأساليب الرخيصة، التي تظهر الحكومة وكأنها مجرد "إدارة لمستعمرة من المتسولين" أو أنها شحاذة برتبة "دولة" أو بامتيازات رسمية، دون أن يعير أحد هؤلاء المتنافخين شرفا انتباهه، إلى فجيعة أن من تنوء يداها بالأساور والحلي دون أن يكون لها مصدر دخل معلوم، يعز عليها ذلك!.

وتظهر تلك الضبابية أيضا، في الخلط بين أداة الشؤون الدينية والشؤون الثقافية، وبين الشؤون الداخلية الأمنية والشؤون الإدارية، وكذلك بين شؤون التربية والتعليم، وشؤون التهذيب للبدائيين المتوحشين، التي تعكس استمرار منطق الإدارة الاستعمارية المتناقض في نظرتها لسكان المنطقة، من بدائيين متوحشين غير مهذبين، إلى أناس جديرين بتأسيس دولتهم وتشكيل أمتهم!

ويتجلى منطق اختراق المعايير أيضا، في تصور المفاهيم، بالنظر إلى الخلط بين مفهوم التنمية لأشمل، و اختصاره في أنشطة رعاية وتربية المواشي فقط، حتى في الأطروحات البحثية العالية، بما يؤشر على سيادة الضبابية في البنية الذهنية للمجتمع على مختلف مستوياته المدركة و غير المدركة، والذي يمكن تلمسه بجلاء في التصنيف التالي لاختراقات المعايير في الأسماء المعرفة للأشخاص:

1ـ أسماء الصيحات أو المقاطع الصوتية الأولية للأطفال مثل: {بابا ـ ماما ـ يما ـ يباـ تاتا ـ تيته ـ نينة ـ بيبه ـ ديده ـ ديدي ـ بيجه..} . التي تعكس مدى تدني تطور اللغة، إلى الحد الذي تضطر معه الجماعات ـ عادةـ إلى الاستعانة بالمقاطع الصوتية الطفولية المكررة، والحركات والإشارات لسد القصور أو النقص في الكلمات المطلوبة، خاصة فيما يتعلق بأسماء المجردات و المعاني والعمليات العقلية..الخ ( انظر،عبد الرحيم، الانثروبولوجيا ( ب، ت )

وبصرف النظر عن الاختلافات النظرية حول مصدر اللغة، وما إذا كانت قد تطورت من محاولة أعضاء الكلام محاكاة أعضاء الحركات الأخرى، مثل اعتبار "ماما" تقليدا لحركة الشفتين في مص الثدي، و"بابا" تجسيدا لحركة تركهما، أم أنها تطورت من الأصوات المنبعثة من البدن أثناء بذل المجهود العضلي في عمليات الإنشاء { اليوـ هي ـ هو..} وما إذا كان البدائيون هم الذين يتكلمون بالمقطع الواحد، فإن مالا يمكن عدم تمليه جيدا والحالة كهذا، هو الإجماع حول العلاقة الطردية بين ارتقاء وظائف اللغة والوظائف العقلية والحركية و المهارية الأخرى. (نفس المرجع).

2ـ أسماء التأوه والحسرة: { الباه ـ التاه ـ الناه ـ الفاه ـ الكاه ـ الداه ـ دداه..} إذ يبدو أن نبرة الحسرة لازمة أساسية للهجة ( الحسا نية ) حيث تنتهي غالبية مقاطعها بالتأسي والحسرة { آه ـ أيوه ـ أهوه ـ أهيه ..} و ضرب الكف على الأخرى، تعبيرا عن انفلات زمام الأمور وعدم السيطرة على المصيرـ حسب ما يمكن استخلاصه من لغة الجسد غير القابلة للتزوير والمزايدات ـ كما انه غالبا ما تبدأ الجمل ب "أ" للتنهد من ثقل الأعباء أو الشعور بالمرض والهزال، ومن ثم محاولة التأكد من تفتح مجاري الهواء في الجهاز الصوتي قبل التحدث، حتى في الكلمات التي لا توجد لها بداية بالألف { أواحد ـ أثلاثة ـ أخمسة ـ ألستة ... أعشرة ـ
انواكشوط ـ انواذيب ..}

3ـ أسماء التأتأة: { اته ـ انه ـ ابه ـ اده ـ دده ـ اجه ..} التي قد تكون لها مصادر غير بشرية، مثل زئير الضباع أو خوار الثيران أو أصوات الأحشاء البدنية..
4ـ أسماء الجمل الاسمية أو الفعلية أو الشيخوخة أو على سبيل الحكاية أو الدعوى: { خليه لنا ـ مربيه ربه ـ أبو عماته ـ يسلموا أخوالها أو أعمامها..} ومشتقات من " المحمدية و السيادة والشيخوخة .." حتى للمواليد الرضع.

5ـ أسماء المفاهيم القرابية التي تأخذ طابعا غريبا عند الانتساب إليها: {ولد أبوه ـ ولد جده ـ ولدعمه ـ ولد أمه ـ ولد خالته ـ ولد ابنه..} التي هي أقرب إلى التنابذ بالألقاب أو الأفعال الملتبسة في انتهاك قدسية الانتساب الأبوي، أو التمرير"اللاواعي" لتأسيس معايير الانفلات من التناقضات المعيارية "للتطهر الذاتي" عبر التواطؤ للتشهير بها وخرقها من خلال استحضار رواسب معتقدات "الطاقة الحيوية" الغابرة للأسلاف..خاصة ما يتعلق منها بملابسات معايير العلاقات بين الجنسين قبل و أثناء وبعد الزواج.

وقد تساعد الإشارة إلى ميل فئة "العرب" أو المستعربين إلى حصر أنفسهم في مرحلة "الولادة" كنوع من مظاهر "النكوص" في تفسير ذلك المنحنى الدلالي أو ما يقبع تحت سطحه، سواء في ميلهم إلى الاستمرار في مناداة ذويهم بأصواتهم الطفولية الأولى، أو بإبقاء صفة "ولد" كرابط أو وسيلة للانتساب العائلي الرسمي وغير الرسمي، بغض النظر عن المرحلة العمرية التي تفصلهم عن الولادة، التي تؤشر إلى استمرار رواسب المعتقدات الشعبية [..] المتعلقة بسلامة "المولود" رغم سيادة العقيدة الإسلامية بين صفوفهم !


ثالثاـ متاهة تعويض الشعور بالنقص:


لا يختلف احد على انه من السخف أن يحاول الصغار لعب دور الكبار بأكثر من الاستخدام المنزلي للدمى ومسدسات الأطفال، و بحسب المثل: فما يفيد الضفدع لو تصور نفسه ثورا؟ وبحسب التعلم "بالمحاولة والخطأ" من مكاسب "موريتانيا" من تجربتها المشهورة في محاولة خوض حرب "بالمسايرة" ضد أشقائها المقربين في الدم وأسلوب الحياة ( البوليساريو ) التي لم تجن منها غير انكشاف إفلاسها الإيديولوجي "الأدبي والأخلاقي" حين أتيح لها أن تنهب بطاطين وعلب حليب أطفال ذوي القربى، واعتبارها غنائم حرب دون واعز من الضمير، إضافة إلى تكشف الإفلاس الاقتصادي .. والإعلامي، إذ لم تهديه ضحالته إلى أي أقنعة يتستر بها على قصف المكتب الرئيسي في "العاصمة" سوى استبطان كل ما هو "بدائي شعبوي عنصري" للتقليل من أهمية آثار الحدث، على شاكلة أنه لم يسفر سوى عن مقتل "خادم عجوز وكلب ضال وإصابة مجموعة من العاطلين عن العمل( تكوسو)" في صيغة أشبه ما تكون بإعلام الحاميات الاستعمارية العنصرية، المنافية تماما للشعور الوطني، وفكرة المسؤولية اتجاه حق الرعاية وتامين السلامة والحماية لكل المواطنين، وكل ما في الوطن، ومن ثم "الافتضاح" من خلال صدفة التأكيد بالتضاد أو الفارق، أن الحكومة اقرب ما تكون إلى "إدارة للمستعمرة" منها إلى أي شيء آخر.

كما لا يقل عن ذلك متاهة في السخافة، أن تلعب "الدولة" دور المرتزقة ضد أبناء جلدتها، بدافع "التقمص أو التوحد مع القوي" الحائز على فائض من القوة يحتاج إلى تصريفه بطريقة أو أخرى، بناء على أن مثل هذا التوحد مع الأقوياء أو المشاهير أو الحائزين على السلطة أو الشهرة..سواء لدى الأشخاص أو الجماعات الفئوية أو الدولاتية.. كحيلة نفسية لاشعورية، لتبرير الخوف من المعتدي، يؤشر إلى عدم السلامة النفسية من أعراض الشعور بالنقص والحاجة إلى التعويض المرضي المعروف ب "البارانويا" أو الانفصام الهذائي، الذي يظهر على شكل { كثرة الأوهام و الهلاوس ـ تدني في إدراك الواقع و الإفراط في الخيالات ـ عدم الاكتراث بالشؤون الإنسانية، نظرا للشعور بتجربة المرور بالوقوع تحت وطأة الاضطهاد ـ الاعتقاد بالاستهداف من الآخرين...} حيث يركب من يعاني من تلك المشاعر لنفسه "لاشعوريا" المكانة التي أنكرها عليه الآخرون، كهذاءات باطلة ليثبت بها لنفسه أنه " نبي أو عظيم أو نابليون.. ".

و هي مظاهر طالما تجلت كحيل مرضية لدى الأشخاص كما المجتمعات، كأسلوب استبدالي أو تعويضي لإرضاء الذات، و الذي يتجلى في المجتمعات الصحراوية بدافع إثبات الندية ولو بأدوات ملتبسة، على نحو:

ـ أنهم كلما شعروا بالنكران الحضاري، كلما أصروا على إعلان دولتهم، رغم استمرار سيادة الطابع البدوي ومظاهر التشرد والتخلف، والفشل في القضاء على العجز، أو أن يصبح لدولتهم اثر في حياتهم، ولو في توفير الوثائق المدنيةـ التي لا تكلف سوى أختام محليةـ أو التوجيه والإرشاد، بل أنها كثيرا ما تلعب دور المحاصر لفرص أتباعها في التعليم والعمل ـ يذكر من مروا بتجربة الاستفادة من فرصة التعليم في المغرب برعاية "الوكالة المغربية الموريتانية للتعاون" كيف حاربتها سفارة موريتانيا، بحجة "فشخرة" الندية في السيادة الوطنية، كما أنه من المشهور أيضا رفض تسيير العمالة إلى بعض دول النفط، بنفس التمظهر الزائف "بأن موريتانيا بحاجة إلى استيراد عمالة بدورها" وهو منطق لا ينسجم مع السيرة المهنية لأصحابه، والذين لم يتوانواـ حين فقدوا وظائفهم عن استجداء المساعدة المالية، و السعي وراء الرزق بإبرام العقود المشبوهة في الخارج!

ـ وكلما أنكروا عليهم وجود مراكز حضرية، كلما قلبوا حجارتهم الخام وأكواخهم المتواضعة، بحثا عن أي أثر، بصرف النظر عن دور أجدادهم في إنجازه، وما إذا كان طبيعيا أم معاصرا أم أصيلا متفردا، و ما إذا كان في مستوى الزخم الحضاري والإبداعي للانجازات المعاصرة له، أم انه متأخر عن المنجزات البشرية بدهور، ليكون خير مؤشر على تخلف سكان المنطقة عن المواكبة التناظرية للتطور الحضاري.

ـ وكلما أنكروا عليهم وجود مراكز أو حواضر مدنية، كلما روجوا لعاصمتهم "نواكشوط " التي استمرت بلكنة استعمارية، يعاني الكثير من سكان البلد من صعوبة نطق اسمها بسلاسة، و ما زالت تشكل رمزا للتلوث بالقمامة والعشوائيات ـ وليس بالصناعة ـ وجيوب البؤس والانحراف ، وبيئة للجريمة وتدني الخدمات، والفقر في المراكز البحثية و المسارح والحدائق ومستوى المعيشة..، و عرضة لزحف الرمال والغرق بمياه المحيط، و البعد من كثافة السكان، مما اضطر غالبيتهم للإقامة بها، بكل ما يترتب عليها من سلبيات اقتصادية و أمنية...

ـ كلما أنكروا عليهم الحكم المدني، كلما بادروا بترجمة الدساتير والجمعيات "البرلمانية" فظهر مضمون مناقشاتها ضحلا و أقرب ما يكون إلى متاهة من التنابز بالألقاب وهم يعرفون بعضهم بأصوات الأطفال والانتساب إلى الصلات القرابية الشاذة "ولد أحد أقاربه" مثلا، مصحوبة بحركات هستيرية للسيطرة على بالونات الهواء ( الدراعة ) المتضخمة رغم ضآلة وهزالة أبدان من يرتدونها غالبا، وارتفاع الحرارة والرطوبة والغبار غالبية أيام السنة...منه إلى أي شيء آخر.

ـ كلما أنكروا عليهم حيازة القوة، كلما تظاهروا "زيفا" بوجود فائض منها إلى حد يحتم تصريفه ، ولو في شكل خوض حرب خارج الحدود الدولية، مع تنظيمات طالما نالت من القوى العظمى! مما يؤكد على مصداقية أن الثقافات الأقل تطورا، تعاني من عجز في إمكانية انتقاء ما هو جيد من خصائص القوي، وأنها كثيرا ما تقع في اكتساب ما يسهل تعلمه أو تقليده "السيئ" مثل أي قاصر أو مراهق، وانه بذلك مهما بلغ العسكريون الموريتانيون من القدرة على الفتك بعناصر تنظيم القاعدة، فإنهم لم يكتسبوا دوافع العمل والانجاز في بناء الحياة على الطريقة الغربية، ولن تتحول الأكواخ التي يعيشون فيها إلى ناطحات سحاب، ولا مهاراتهم إلى منتجين للخطة التي اتبعوها في الحملة العسكرية، ولا حتى منتجين للطلقات التي استخدموها لتقتيل أناس من بني جلدتهم، يصارعون غيرهم.

لعل متاهة الخلط في المعايير بين مفهوم "الدولة" والحنين إلى منطق أدوار "القبيلة" الصحراوية, في تأمين طرق القوافي والسطو على المتمردين في بلاد "السيبة" لتطويعهم لصالح السلطة المركزية "المخزن" مع تغيير في الموقع من "مراكش" إلى "باريس" يساعد في الاهتداء إلى المفتاح السحري لتجويفات متاهة اختراق المعايير هذه،عبر "وضع التجمد" عند حدود الشعور بالنقص والبحث عن التعويض، من زاوية أنه بقدر ما أنكرت مظاهر السلطة على "بلاد السيبة" بقدر ما تحولت إلى موضوع "متوتم" أو وثني للعبادة، يعلو على كل ما سواه، من رموز الهوية و مبادئ العقد الاجتماعي، والانتماء الوطني أو القومي، أو المصير العدمي للأجيال السابقة واللاحقة، و من ثم، فحين الاستناد إلى القاعدتين السلوكيتين المترابطتين "بأن الإنسان لا يتفهم الأشياء إلا إذا ردها إلى مواقف أو ارتباطات مألوفة لديه" و "أن الطريقة التي يدرك بها الأشياء تحدد استجابته لها" فسيتكشف مصدر خفوت أي جزع من مصير "الدولة" حيث لا شيء يعلو على كثبانها لينهار على رمالها.






Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!