التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:17:30 غرينتش


صراع الأطماع الوقحة .... الخديعة الكبرى


محمد الأمين ولد سيدي مولود
[email protected]

"أكثر الأشياء في بلدتنا ...الأحزاب ... والفقر ...وحالات الطلاق
عندنا عشرة أحزاب ونصف الحزب في كل زقاق
كلها يسعى إلى نبذ الشقاق!!
كلها ينشق في الساعة شقين ...
وينشق عن الشقين شقان
وينشقان عن شقيهما ...من أجل الوفاق!
* * *
لم يعد عندي رفيق، رغم أن البلدة اكتظت بآلاف الرفاق
ولذا شكلت من نفسي حزبا...
ثم إني ـ مثل كل الناس ـ أعلنت عن الحزب انشقاقي.
لقد صدق الشاعر أحمد مطر في وصفه حال الأحزاب المزري في العالم العربي وخصوصا في بلاد شنقيط التي ربما لا يدري الشاعر أن تراخيص الأحزاب فيها قاربت الستين، وأنها تنقسم "ميوزيا" و"ميتوزيا" في اليوم، فلطالما برهنت جل (النخب) السياسية عندنا على عدم النضج في لعبة الكبار.
لكن ما نعيشه اليوم على مستوى حزب "عادل" أو "عودة" ـ كما يحلو للبعض أن يسميه ليس مما تكلم عنه أحمد مطر البتة، ذلك لأنه ليس انشقاق أفراد أو جماعة عن حزب دخلوه لمصلحة آنية ثم خرجوه، ولا هو مظهر لخلاف إيديولوجي متجذر كما أنه بكل تأكيد ليس صراعا بين الحق والباطل أو الخير والشر...إنما هو باختصار صراع بين أجنحة مافيا طالما تحالفت ضد هذا الشعب، ولما استكان هذا الأخير للصمت مكبلا بقيود الفقر والجوع والجهل والخوف طفا الصراع البيني على السطح ...إنه صراع المصالح المتكالبة والأطماع الوقحة...إنه الخديعة الكبرى.

ضريبة "الفبركة"

لقد أتى المجلس العسكري ـ أو ثلاثة أعضاء من المجلس العسكري على الأصح ـ برئيس مصطنع مفبرك أقنعوا به شعبا ساذجا بواسطة عملاء محترفين جمعوا أركان القوى الظلامية من شيوخ قبائل ورجال وأعمال وسياسيين "براغماتيين" ، لقد كان رجلا بعيدا كل البعد عن الشأن السياسي الداخلي والطموح السلطوي فأيام الغربة الطويلة والنأي عن الربوع يبت كل صلة بالطموح بالنسبة لذوي الأذهان المتقدة والهمم العالية ...فبالأحرى بالنسبة لمن اشتعل رأسه شيبا واحدودب ظهره وطارده شبح السوابق المشبوهة، لكن كان ما كان!!
أعضاء المجلس العسكري هؤلاء لم يجدوا من يقف في وجههم بصفة جادة وصارمة، صحيح أنه كانت ثمة بعض المهرجانات (ائتلاف قوى التغيير) وبعض التصريحات والبيانات لكنها لم ترق لحجم خطورة الموقف عند الوقت المناسب،حتى أن القوم أي العسكر بلغوا من الجراءة شأوا جعلهم يتصلون بأعضاء الائتلاف أنفسهم في إطار صناعة الرئيس المقبل كما صرح بذلك بعضهم لا حقا ـ صالح ولد حننه مثلا ـ رد على صحفي الجزيرة سامي اكليب منذ شهور عندما سأله البرهان والدليل على تدخل العسكر بإعطائه اسم أحد الذين اتصل بهم قائلا "لقد اتصلوا بي شخصيا..." والنائب المصطفى ولد بدر الدين الذي كشف منذ أسبوع هو الآخر ـ ولو متأخرا ـ عن اتصال ولد عبد العزيز بحزبه لدعم سيدي ولد الشيخ عبد الله في الرئاسيات، ربما ثمة آخرون كتموا الأمر أو استجابوا للطلب!!
لكن الرئيس "المفبرك" لم يتمهل استعجالا لرد الجميل لمن حقق له بالمجان حلم آخرين ناضلوا عشرات السنين فرقى عضوي المجلس العسكري أي "المحمدين" إلى رتبة جنرال متحديا مشاعر "كولونيلات" أكثر خبرة وأعمق تجربة وأشد التزاما ... مما سمح لذين الجنرالين بنفوذ عسكري تام وتزايد نفوذ سياسي غرساه قبل تتويج "الشيخ الرئيس" ....
وبطبيعة النفس البشرية التواقة الهلوعة ربما طمح الضابطان لما هو أكبر حينما تدخلا في تعيين حكومة ثم الإطاحة بها ... لتعيين أخرى لم تجر فيها رياح القصر وضغوط الحلفاء وتشعب مطامعهم بما اشتهت سفن أصحاب النياشين، فكان لهما هذه المرة من ندب الحظ نصيب، ولسان حالهما:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
لكن هل اشتد بالفعل ساعد الرئيس؟ وهل دخل جديا في لي الأذرع ضد ذراعيه العسكريين؟ ومن سيكون للرجل نصيرا لو تخلى عن أولياء نعمته؟
نائب رئيس اتحاد قوى التقدم النائب البرلماني محمد المصطفى ولد بدر الدين كان أكثر سياسيي الأغلبية الحاكمة صراحة وأشدهم شجاعة عندما قال "إن العملية الديموقراطية تتعرض لمخاطر كبيرة جراء تورط الجنرال محمد ولد عبد العزيز في تأليب بعض الساسة والنواب على الحكومة الحالية بسبب عدم استشارته في تشكيلها" بل ذهب إلى أبعد من ذلك ليعتبر الجنرالين عقبة أمام أي تطور في تصريحه "لصحراء ميديا" إذ يقول:"إن الإصلاحات الديموقراطية والاقتصادية والاجتماعية صعبة التحقيق في ظل التدخل السافر للجنرالين ولد الغزواني وولد عبد العزيز في الشأن السياسي على نحو فج وسافر وغير مقبول...." ربما صدق الرجل فيما يتعلق بالجنرالين وإن كان تناسى خطورة الانتصار لحكومة طرفاها الداخلي والخارجي وبعض عناصرها المهمة انتشلوا من حضيض الفساد وقاع "مافيا" النظام المخلوع لتجدد لهم البيعة بعد أن فشل معظمهم في الانتخابات الفارطة في مسقط رأسه. لكن ما يهمنا هو إجابة قدمها سعادة النائب على الشق الأول من سؤالنا عندما رأى أن الرئيس "شب عن الطوق" وخرج عن الوصاية العسكرية، وإن كنت أخشى ما أخشاه أن يخيب الرئيس "الضعيف" الظن لمناصريه ضد العسكر فيستكين للأخيرين أو يذهب أبعد من ذلك ليقلب ظهر المجن لهؤلاء المناصرين!!
زعيم المعارضة ورئيس التكتل أحمد ولد داداه سارع للمطالبة بإقالة الحكومة على الرغم من كونها لم تقدم بعد خطاب التكليف أمام البرلمان ... ربما كان الرجل مصيبا إذ أن أغلب هذه الحكومة جرب طيلة عقدين من الفشل والنهب والفساد والتطبيع ولا مبرر لتعيينها أصلا فبالأحرى إعطاءها فرصة لنهب المزيد في ظروف صعبة يعيشها المواطن لم تعد قابلة لتأجيل حلول مشاكل المجاعة والبطالة والفقر...لكن حبذا لو أشفع الرجل مطالبته باستقالة الحكومة بتنديد واضح لتدخل العسكر في العملية السياسية، هذا التدخل الذي كان هو نفسه أكبر ضحاياه في الانتخابات الفارطة، ليسد بذلك الأبواب على الذين يخشون عليه التواطأ مع العسكر لتقويض النظام المدني أو الغيورين له أن يخدعه العسكر مرة أخرى كما فعلوا معه أيام الفترة الانتقالية حسب تصريحه هو نفسه في مقابلة مع يومية "الأمل الجديدة" في ابريل المنصرم.
طرفان آخران في الأغلبية الرئاسية اختطا لنفسيهما خطا ثالثا لا هو بالموالي للعسكر ولا للرئيس أو ربما هو موال لكليهما وهما:
ـ حزب "تواصل" الذي فضل رئيسه الأستاذ محمد جميل ولد منصور إسداء النصح للجميع أن الوقت غير مناسب للتجاذبات السياسية بعيدا عن الانشغال بهموم المواطن معترفا لعناصر عسكرية بدورها المهم في عملية التحول الديموقراطي ومستغربا في ذات الوقت المطالبة المبكرة لإقالة الحكومة.
ـ حزب التحالف الشعبي التقدمي الذي ذهب نائب رئيسه النائب البرلماني الخليل ولد الطيب إلى أبعد من الخيال عندما قال "إن الخلاف بين الرئيس والعسكر مجرد شائعات هدفها النيل من الأغلبية..." قافزا على المؤتمرات الصحفية والانسحابات والاجتماعات والاجتماعات المضادة، بل وتبادل السب والشتم أحيانا بين عناصر موالية للعسكريين وأخرى موالية للرئيس.

الأطماع الوقحة

وإذا أتى الإرشاد من سيف الهوى ومن الغرور فسمه التضليلا
عندما يستقيل كبار وزراء ولد الطائع وآخر من تشبث بشرعيته ومتملقوه ومفسدوه من حزب "عادل" باعتباره انحرف عن طريق (الإصلاح)..... وعندما تتحرك شخصيات عرفت بقفزها على جميع المحظورات الإجتماعية بل والدينية ليس التملق فقط ولا الفساد ونهب المال العام بل وحتى موالاة اليهود والسفر إلى نيويورك لإحياء ذكرى قيام دويلتهم في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.... وعندما يتناسى وزراء الفترة الانتقالية ما اقترفوه من فساد ونهب ... وعندما يدعي عناصر من الحكومة الحالية ممن مرد على الفساد واستمرأ التملق وأبدع في التطبيع وممن أفلس الشركات الوطنية جوا وبرا وبحرا أنهم رسل إصلاح وحواريو "فاتح" جديد وأن الآخرين يعرقلونهم .... وعندما يتبجح ضباط حرسوا الديكتاتوريات عقدين من الكبت والظلم وملكوا القصور وكدسوا الحسابات وتدخلوا بشكل سافر ووقح في خيارات شعب بريء أنهم من صنع الديموقراطيات وهم وحدهم المؤهلون لحمايتها ... عندما يحدث كل ذلك:
فيا موت زر إن الحياة رخيصة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
إن من يتابع اليوم ما يحدث في الحزب الحاكم ومتملقيه من انسحابات ثم انسحاب عن الانسحابات (28 عضو من المجلس الوطني انسحبت مساء وعادت منها ثمانية نفس الليلة) ومن التصريحات المتناقضة لنواب الأغلبية حيث التهديد بحجب الثقة عن الحكومة أول النهار والقسم على الولاء لها مساءه يدرك ببساطة هشاشة الطبقة الممسكة بزمام الأمور في البلد كما يدرك جشع هؤلاء القوم وعدم مسؤوليتهم، فالطامع والخائف لا يصنعان الحرية.
إنما يحدث اليوم هو خديعة كبرى ومؤامرة دنيئة ضد هذا الشعب. فتعطيل مؤسسات الدولة (البرلمان مثلا) وإنهاك مواردها وطاقاتها، واستنزاف إعلامها وشغل الرأي العام فيها بمناوشات بين لصوص المال العام وأباطرة الفساد والتطبيع وضباط الثروة والسياسة إنما هو مسرحية لصرف النظر عن هموم المواطن الغارق في الفقر والعجز عن توفير أدنى احتياجاته والمنهك بالمرض والجهل.
إن الخطة الإستعجالية الفاشلة بملياراتها المتعددة، وملف المخدرات المهمل بتشعبه الخطير، ووضع المبعدين المزري، وكارثة الطينطان المتوقع تجددها ـ لا قدر الله ـ مع بداية تهاطل الأمطار، وارتفاع الأسعار الجنوني، وملف التعليم المعقد في ظل تعنت وزارة يهمها التجبر أكثر مما تهمها مصلحة القطاع ...الخ كلها أمور كانت أولى أن تكون مدار حديث الساعة.
إن صراع الأطماع الوقحة الدائر اليوم بين أقطاب "مافيا" يجسد الوضع الحقيقي المنحط الذي وصلت إليه نخب السلطة في البلد، كما يجسد العجز الحقيقي الذي تعيشه المعارضة المنقسمة بين من أضحى طرفا تابعا في صراع لا يخدم سوى الفساد ومن سكت سكوت العاجز أو المهمل.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!