التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:10:37 غرينتش


تاريخ الإضافة : 12.12.2011 15:32:03

الثورات العربية بين نشوة الانتصار وهواجس الفشل

المهندس/ محمد محمود ولد الكوار

المهندس/ محمد محمود ولد الكوار

بعد شتاء طويل، بارد، وموحش، تنسّم العرب أخيراً ما اعتبروه ربيعهم الأول، كان قدوم هذا الربيع فُجائياً وصادماً، وكان صداه في العالم أقوى من أن يمرّ مرور العابرين، فقد خلط الأوراق وأعاد ترتيب الأولويات ووضع قطار المنطقة على سكة المجهول.

لقد جاء هذا الحدث الكبير من حيث لم يتوقعه أحد كما هي عادة الأحداث التي تؤثّـر دوماً في مسار التاريخ. فأكثر المتفائلين لهذه الأمة في زمن انكسارها العظيم لم يــدُر في خلده يوما أن من سيقود معركة حسمها هو بائع خضار على عربة صغيرة في مدينة صغيرة في بلد يقع تحت هيمنة نظام أتقن لعبة البقاء منذ عقود. ورغم كل ذلك، ومن هناك بالتحديد، انطلق المارد من القمقم وخرجت الأمور عن دائرة التوقعات والحسبان، وأصبح الجميع مفتوناً بسحر اللحظة ومتلهّفا لما ستؤول إليه أحداث عصر بدا أنه يطوقّنا من حيث لا نشعر.

تساقطت أحجار الدومينو تباعاً وخسر العالم رهانه على أنظمة حكم كان يراها أداة تقود الشعوب العربية إلى حيث يريدها هو لا إلى حيث هي تريد. لقد وضعت هذه الشعوب نقطة النهاية لحكم الفرد في ثلاث أقطار عربية على الأقل والحبل لا يزال على الجرار.

إلا أن المؤلم في رحلة عبور العرب هذه إلى الشاطئ الآخر من الدنيا الذي لم يألفوه من قبل هو أن هذه الرحلة خلّفت جراحا غائرة ستترك نُـدباً على جسد لم يتعوّد على دفع فاتورة التغيير. فتونس أول العابرين ربما تخطت عتبتها الأولى بثمن يبدو أنه أقل من المتوقع، لكن الرحلة أشق من مجرّد تخطّي أولى العتبات، أما قطار الثورة المصري فلا يزال عند بوابة المغادرة عاجزا عن الرحيل، وبعيدا عن كل هذا وذاك لا تزال ليبيا تدور هناك حول النقطة التي بدأت عندها منذ عشرة أشهر على وجه التقريب.

ورغم كل هذا الشحوب الذي يبدو عليه الربيع العربي فإن نشوة الانتصار لا زالت تُنسي العرب حقيقة الحاضر وتحجب عنهم معالم المستقبل، فالحاضر لم يعرف من التغيير سوى إزالة رموز العهود البائدة، أما المستقبل فيبدو أكثر غموضا من أن تتكهن أكبر العقول بمصيره.

إن الحقيقة التي لا جدال فيها أن العرب لم يدخلوا بعد موسم الربيع الذي كان يداعب خيالهم على مرّ العصور، لأن الربيع يعني الخروج من قسوة الشتاء وجدبه إلى رحمة الربيع ونمائه، أما واقع الشعوب العربية اليوم بعد ما يقارب حولا من هزة الانتصار الأولى فلا يعدو أكثر من مجرد وضع اليد في لعبة تغيير الفصول، لكن قدرة الشعوب على النجاح في هذه اللعبة مرهون بمدى فهمها لمآلات ربيعها المزعوم. لأن هذه المآلات تتحكم فيها عناصر رئيسية ثلاث ستشكل علامة فارقة فيما هو قادم من أيام العرب:

ـــــ العامل الأول: هو قدرة الشعوب العربية على التعايش رغم الاختلاف والتباين، فالعرب ليسو نسيجا واحدا غير قابل للتقسيم والتمايز، بل هم خليط من أعراق وقبائل وملل ونحل.

ـــــ العامل الثاني: هو مقدرة السلطات الوليدة على بعث الأمل في نفوس البائسين، والأهم من ذلك هو مقدرتها على إحداث الفارق بين الأمس واليوم، وهذا الفارق لا يتحقق إلا بتحقق العدالة وتكافؤ الفرص بين النسيب واللقيط.

العامل الثالث: هو وضع قطيعة أبدية مع ممارسات الماضي التي يطبعها الغش والاستبداد والغموض والتلاعب بحقوق الفرد والأمة.

هذه أمور يجب أن ترافق المرحلة القادمة في خطواتها الأولى، وليس ذلك فقط بل على الشعوب العربية أن تتحلى بالصبر، فالثورة عندما تقوم لا تجلب معها عصا سحرية تبدل الواقع بين عشية وضحاها، لذلك على الشعوب أن تتعلم مصابرة الثورة للوصول إلى ما تريد، ففقدان الصبر يعني حلول السخط والغضب محله، والأسوأ من ذلك أنه سيولد بغضا على الثورة ورغبة شعبية في وأدها. فانعدام الفهم الحقيقي لمعطيات الواقع المادي الاقتصادي سيدفع الشعوب إلى أن ترفع أصواتها بنبرة عاطفية تطلب كل شيء في وقت واحد غاضة الطرف عن أي اعتبار آخر. وهنا يصبح الوعي هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين نجاح الثورة وفشلها.

كنت أتمنى لو كان التغيير هادئا، يأتي تباعا، نتجرّعه على شكل دفعات، لأن ذلك سيمكننا من فهمه أكثر واستيعاب خواصه المبهمة أكثر، فنحن لم نعهد المشاركة في الشأن العام، ولم نعي بعد ماذا يعني التعايش مع اختلاف الرأي والفكر والعقيدة، والأخطر من ذلك أننا عشنا دهرا ونحن نعلّق فشلنا في تحقيق ما نريد على مشجب اسمه النظام الدكتاتوري، الآن وقد رحل هذا النظام فأي كبش فداء سنقدمه ليتحمل سخطنا وغضبنا ونبصق عليه باستمرار؟ هل هو النظام الجديد الذي أوجدناه بإرادتنا الحرة؟! أم هي الثورة التي أدخلتنا لبرهة في حلمها الجميل ثم تركتنا نواجه واقعنا المر؟.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!