التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:17:13 غرينتش


سياسة إرث المستعمر وتجليات البداوة


بقلم الدكتور محمد الحسن اعبيدى
كشفت التجاذبات السياسية الحالية عن ذكاء نادر لإنسان موريتانيا المتسيس أو المحترف للسياسة في التلاعب بالألفاظ والمفاهيم وإعادة إنتاج أنساق الخطاب وتصنيعها وفق حال المنتج والمنتج له والظرف المنتجة فيه في توسع دلالي لم يعرفه عرف التخاطب العربي في مسيرته الطويلة .
فكلمات على شاكلة التغيير و"قواه " و الإصلاح والديمقراطية والتصحيح و الإنقاذ والخلاص وغيرها من ألفاظ تتردد على ألسنة السياسيين لا تعني سوى المصالح الشخصية والنفعية الآنية .
فكأن ساستنا أوجدوا مخبرا خاصا لإفراغ هذا النوع من الألفاظ من معانيه وإيداعه قوالب لغوية جديدة تستوعب آخر ما أنتجه الخيال السياسي المتحرك كرمال البلد من زيف وتضليل وقلب للحقائق .
فبعد أن استنفد أصحاب النفاق السياسي قواميس شعوب العالم أعادوا إنتاج محتوياتها محليا هربا من التعرفة الجمركية أو من المتابعات القضائية الخاصة بالتلصص على العلامات التجارية أو براعة الاختراع .
لذلك تفنن المبدعون في إعطائها العلامة التجارية المحلية (صنع في موريتانيا) كما هي الحال في أغلب المواد الاستهلاكية في أسواقنا .
نحن شعب ألف التزوير في كل شيء ومرد عليه كمنافقي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم - مردوا على النفاق- حتي صارت أجسامنا تتأذي دونه وتشفي به .
خدعة التغيير
آخر صيحات التزوير والخداع السياسي ملأت الأسماع فاهتزت الأجساد طربا لها بعد ما يعرف – تفاؤلا – بتغيير الثالث من أغشت الذي تراءى للمواطنين العطاش من بعيد ماء زلالا حتي إذا جدوا في طلبه وجدوه سرابا فأجهدهم التعب والإرهاق فسقطوا من حيث لا يشعرون في شبّاك صياد ماهر صنعه بإحكام وكلما هموا بالهرب خدعهم بحلو الكلام ولين القول وأبصرهم جِنانا وأنهارا لا يظمأ ولا يضحي ولا يجوع ولا يعري ساكنها وأنها هي ما أعد لهم في المستقبل فخدعوا كما خدع الكافر بعمله قال تعالي : (ومثل الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتي إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) .
وسهْل جدا أن ينخدع المواطن الموريتاني بالمفاهيم الموحية بتغيير الأوضاع أيا كان نوع التغيير "وإصلاحها" أو "إنقاذها" أو "تخليصها" أو "تصحيحها" وأخيرا "تغييرها" .
فكل لفظ دال على التحول والتحويل والانتقال تطمئن له القلوب وتأنس لصاحبه وتقدسه وتمجده وتنسج حوله الأساطير لا يمنعها من تأليهه إلا بقية عقيدة "العجائز" وشيء من عصبية "الأجداد" .
ولا تفسير لذلك سوى أننا لم نعرف التمدن والاستقرار منذ أن وطأت أقدام أجدادنا هذه الأرض ، ولم ينطلق بناء الدولة عندنا من تراكم سياسي قبل الاستعمار كل ما كان موجودا إمارات ومشيخة قبلية أوجدتها حاجة المجتمع الرحل للتنظيم.
إرث المستعمر
جاء الاستعمار فلم يهتم فترة إقامته ببناء دولة ذات نظم سياسية ومؤسسات دستورية بقدر ما اشتغل بترسيخ النفعية والتملق والعمالة في أذهان الطبقة السياسية الأولي المصنوعة بيديه وعلى عينيه دون أن يكوّنها على قيم السياسي الوطني المخلص ، وعن هذه الطبقة الأولي تربت أجيال محترفي سياسة ما بعد الاستقلال على الخداع والغش والكذب حسب ما يستروح من كلمة " بلتيك " الملحونة لهجيا و التى إن وصف بها الشخص صار بين الأقران مثالا للتحايل والنفاق.
لا ثوابت عند سياسة جيل "بلتيك" ما بعد الاستقلال والأجيال التي تربت في مدارسه سوى انتجاع النفعية والجرْي وراء المصالح متنقلين بين المرابع من أحادية حزب الشعب إلى هيكلة عسكر الانقلاب الأول بوصفيه ( الإنقاذ والخلاص ) إلى جمهورية " العسكر المتمدين" .
وبعد أن جفت ينابيع مياه الحزب الحاكم قبل الثالث من أوت "تحول النفعيون" إلى قطعان همل هائم على وجهه يبحث عن الموارد التي يتذكر عذوبتها كلّما طلع نجم الثريا كناقة الشاعر:
تذكرت تقتد برد مائها وعتق البول على أنسائها .
وقد أعاد القطيع تشكّله متخليا عن أثوابه القديمة كتخلي ذات السَم عن جسمها متتبعا إيحاءات أسياد الثالث من أوت الذين رأوا في الأحزاب ذلك الحين تقييدا لحرية الشعب الموريتاني فاتجه تنظيرهم لإيجاد بدائل تعيد تنظيم الساحة السياسية من جديد ليسهل التحكم فيها وتوجيها كالدمى الورقية.
وهو ما حلى حينها لمفسري أحلام العسكر بتسميته بتجمع " المستقلين " الذي بدأ يتناسل كنبات الفطر إلى أن ضاقت به رحابة الأرض وسعة السماء .
ولم يلبث هذا المعسكر أن دخل طور إعادة التشكل والتجزؤ والانفصام والانفصال تهيئا لمرحلة ما بعد الفطام وانتظارا لللمحة والإشارة من أبطال المرحلة إلى الموقع الجديد .
وهو بالطبع ما جُسّ نبضه وظن قادرا على رعاية الوصية وحفظ الأمانة.
لكن الشيخ الرئيس بحنكته وأسلوبه المرن المتزن ،صعُب عليه التوفيق بين أغراض أمشاج بشرية هجينة عصية القياد والانقياد لا تريد إلا أن تظل وحدها راتعة في المال العام مزيحة كل من حال بينها وبينه.
يعيد هذا الصنف من ممتطى صهوة جواد السياسة و مزوري الحديث باسم المواطن المسكين اليوم إنتاج نفسه بأقنعة جديدة وخطاب جديد وهيأة أخرى غير الهيأة المألوفة في تغير مستمر لا يعرف الاستقرار ولا السكون.
وذلك أمر طبيعي لأن السكون في الثقافة الشعبية سمة من سمات الجان نتشاءم ونهرب منه ، يقال فلان " مسكون " مصاب بمس من الجن .
بداوة السياسة
فالتنقل والانتجاع والتحول والتطلع للجديد كل إشراقة شمس جزء من ثقافتنا ( اشطاري ) وتكويننا وتجَلّ من تجليات بيئتنا البدوية شئنا ذلك أم أبينا ، فلا نتابع نشرات الأخبار الوطنية إلا مساء الأربعاء لمعرفة الجديد في اجتماع الوزراء ولا نقرأ الصحف الوطنية إلا في المناسبات السياسية أو حين نسمع عن خلاف بين أطراف المشهد.
ولا نستغرب اليوم أن يتحول جزء من أنصار ولد الشيخ عبد الله من معسكر داعم له إلى معسكر عليه متنكبا خياراته ومعلنا البتات مع حزبه .
وفى نفس الوقت مطالبا بإسقاط الحكومة التي اجتهد أن تكون مستوعبة لكل أجزاء الطيف السياسي – من كان معارضا منه أو موال – ومكملة للنقص الذي شكاه السياسيون في سلفها حكومة الزين ولد زيدان التي اتهمها البعض بأنها حكومة فنية عاجزة عن تنفيذ المشروع التنموي للسيد الرئيس .
وهي نفس التهم الموجهة للحكومة الحالية التي لم تخرج المهد بعد .
لو غير ذات سوار لطمتني
ومن عجيب الصدف أن رافعي شعار التغيير و طالبي حجب الثقة عن الحكومة الحالية هم من طالبوا بإقالة سلفها .
وهم أنفسهم من ما زالت ذاكرة المواطن تحفظ لهم إفسادهم وفسادهم ومحاربتهم للصلاح والإصلاح ، فما حمله بيانهم من اتهام للحكومة بهذه المسائل هو في الحقيقة من باب "رمتني بدائها وانسلت".
فلا أحد يجهل من مواطني الحقبة "الطائعية" أن من بين الموقعين على ملتمس حجب الثقة من كان جلاد هذه الحقبة وسوطها الخفي قضى "عشرينيتها" متنقلا بين مراكز صنع القرار من إدارة الديوان إلى وزارة التهذيب إلى الأمانة العامة للحزب فلو أن غيره اتهم الحكومة الحالية بالفساد لكان أحسن أما اتهامه هو بالذات فشهادة تزكية على حد قول الشاعر :
و إذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة بأني كامل .
و حمل البيان بالإضافة إلى الرجل السابق أسماء الكثير ممن خربوا البلاد و أهلكوا العباد .
فالأولى بمحامينا الشاب أن يربأ بنفسه و هو الحقوقي المتمرس أن يكون ناطقا باسم هؤلاء و قناعا يتجملون به حين لم يعد التجميل يسعفهم
تهافت البيان
سيدي المحامي إن في ملتمس أصحابك تهافتا يفقده المصداقية و يجعله مجرد بيان خطابي لا يقوى أمام الحجج العقلية .
فطلبك حجب الثقة عن الحكومة يعني اعترافا منك باستحقاقها وهي لا تستحقها أصلا بناء على لازم خبرٍ زمرتك أعلم به و القاعدة العقلية تقول "بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول " فأي ثقة ستحجب إذن و أنت لا تعترف بها و الشعب الموريتاني لم يجد الوقت الكافي ليحكم عليها فمشروع الحكومة مازال عالقا في رحم التصورات ولم تترجمه أفعال يمكن أن تصاغ منها قضية تستوجب الحكم على ما هو معروف عند المناطقة .
نخلص من هذا إلى أن اتهامك و زمرتك للحكومة بالعجز باطل وما بني على باطل فهو باطل تخريجا على القاعدة العقلية" ما لا دليل عليه يجب نفيه "


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!