التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:11:38 غرينتش


تاريخ الإضافة : 02.02.2012 14:49:12

نحو مأسسة ديمقراطية جادة

سيد أحمد ولد أعمر ولد محم

سيد أحمد ولد أعمر ولد محم

يحكي في الأثر عن أن عمرو بن العاص كان يقول ليس العاقل من يوجد الحل للنوازل،إنما العاقل من يحتال ويترصد ليلا تكون هناك نازلة أو مشكلة (والصياغة طبعا خاصتنا وأعتذر عن عدم التمكن من إيراد الصيغة كما وردت على ألسنة الرواة). وإذا أسقطنا هذا التعريف على الحياة في موريتانيا، فمن الجلي أن قادتنا السياسيين يشغلون مقاعد العقلاء من الدرجة الثانية فنحن إزاء مشكلة حقيقية وواقعة وهي الانسداد السياسي المتواصل منذ الانقلاب الأخير. ورغم التسوية التي تمت في دكار وقبول المعارضة الدخول في لعبة محسومة، إلا أن كل هذا لم يمنع المعارضة أو بعضا منها من الندم على ما تم والرجوع بالبلاد إلى حالة من التوتر السياسي الشديد. ولست هنا بصدد التعرض لكثير من التفاصيل، فهذا المقال لا يعني بأكثر من نقاش بعض الأفكار التي ربما تساهم في فك شفرة اللعبة السياسية من جديد والتأسيس لانطلاقة ديمقراطية حقيقية وجادة. وقبل الدخول في صميم الموضوع، أود أن أعرج قليلا على المشهد السياسي وأتناول بإيجاز شديد الأحداث بدءا بيوم الأمل الأول حيث أزيح نظام ولد الطايع مرورا بيوم النكوص والأزمة التي تولدت عنه والولادة المتعثرة والعسيرة للديمقراطية في عهدها الثاني وأختم ببعض الأفكار التي أظنها هامة لحلحلة الوضع السياسي المسدود والمساهمة في انطلاقة جادة لمأسسة الحياة السياسية في بلدنا العزيز.

ديمقراطية مجتزئة

طربت وطرب الموريتانيون كلهم في السويعات الأولي ليوم الأربعاء لثلاث أيام خلت من أغسطس للعام خمس بعد الألفين، فقد كانت قواتنا المسلحة على الموعد في طلعتها البهية الباسمة واختارت الانحياز للشعب فأسقطت نظام ديكتاتوريا جثم على صدورنا لأكثر من عقدين من الزمن. وكانت الفرحة عارمة خصوصا أن المجلس العسكري الموقر التزم بتنظيم انتخابات حرة وشفافة وحرم على نفسه وعلى أعضائه الترشح للانتخابات أو التوسط فيها. وتم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وكنت كغيري فرحا مسرورا بهذه الخطوات الهادئة ولكنها بدت لي جادة وكافية. ورضيت عن الانتخابات البرلمانية التي كانت نزيهة إلى حد بعيد. وعجبت كيف ترك كل لشأنه ولم يضار ناخب ولا منتخب وترك المسؤولون السابقون الذين سامونا العذاب في عهد ولد الطائع غير المأسوف عليه لشأنهم، فذاق أكثرهم وبال الهزيمة المنكرة.وفي الفترة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية، آخر المواعيد الانتخابية في المسلسل الانتقالي الديمقراطي، بدا الارتباك والتخبط واضحا على سلوك المجلس العسكري الموقر. وذكر لي نائب برلماني أحسبه صادقا أنه دعي للقصر الرئاسي وطلب منه رئيس المجلس العسكري حينها أن يدعم المرشح المستقل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وأنهم في المجلس العسكري ارتأوا أنه المرشح الأفضل ويضغطون لإنجاحه. وذعرت لما سمعت هذا الكلام ويعرف الجميع في موريتانيا كيف أن نهاية المسار الانتقالي لم تك على مستوي الآمال صبيحة يوم الخلاص من ولد الطايع وأن الأمر تم إخراجه بشكل سيء وفاضح خصوصا في منعطفه الأخير.

وقبل الجميع على مضض نجاح المسلسل الانتقالي الديمقراطي وتم تسليم السلطة للمدنيين. وواصل بعض من أعضاء المجلس العسكري السابق تدخلهم في سياسة الرئيس الجديد وبشكل سافر وحاول إرضائهم بالتراجع عن كثير من القرارات، إلا أن سقف المطالب كان يزداد وقرروا في فترة ما اللجوء إلى ما يشبه العصيان وذلك بتواطؤ من بعض النواب ففطن الرئيس وأقال القادة العسكريين فردوا بإزاحته من الحكم في نفس السويعة. وتم يومها النكوص في رابعة النهار على ما كان من ديمقراطية. وجاء النكوص الثاني من حزب المعارضة الرئيسية حينها والذي رحب بالخطوة العسكرية عارضا نفسه للتفاوض لإيجاد حل للأزمة السياسية.

يوم نكصوا... إلا من رحم ربك

انقلاب عسكري على حاكم مدني لم يعمر في الحكم أكثر من أربعة عشر شهرا والتبرير الرسمي هو كثرة الأسفار، وهل هذه يا ترى حجة منطقية وكافية للانقلاب على رأس السلطة وحامي الدستور والقائد الأعلى للقوات المسلحة؟؟. ورغم أننا بالقطع لا نتوقع تعداد لمآثر الرئيس المطاح به خصوصا في إعلام تحكمه الدولة إلا أن الضربة القاسمة جاءت من الظهر كما يقال. فحين تم التأكد من أمر الانقلاب خرج علينا نائب رئيس حزب التكتل، أكبر أحزاب المعارضة حينها تمثيلا في البرلمان، يرحب بالخطوة ويعتبرها أساسية لإخراج البلد من الأزمة السياسية التي يتخبط فيه، وكان من الأفضل له وللديمقراطية على الأقل أن يسكت وأن لا يظاهر من نكص على الديمقراطية ويشد أزره ويخفف من وحدته ووحشته ثم لا ينتبه إلا حين يفوت الأوان. كانت فرصة رائعة يا قادة لتثبتوا لنا إيمانكم بالديمقراطية!! فمن لا يؤمن بشيء لا يستطيع أن يقود شعبا وأمة باسمه. ونجح في الاختبار حزب التحالف الشعبي ورئيسه فكان ديمقراطيا حقا وكان كالقادة حقا وقلت ذلك في حينه (في مقالة عن الانقلاب سبتمبر 2008) وحزب تقدم وأحزاب أخري وأشكرهم كلهم على الثبات، فقد رأينا لأول مرة في تاريخنا الديمقراطي القصير أنه من الآن لن يكون هناك ترحيب بأي اغتصاب للسلطة بل على العكس رفض تام وسيجد كل من في نفسه توثب للسلطة أن الدرس تم استيعابه وأنه مهما كان نوع الاستقطاب السياسي فلن يسمح لغير القادة السياسيين بحسمه. ودور قواتنا المسلحة هو حماية البلاد من المطامع الخارجية والتزام الحياد المحض في اللعبة السياسية. وأرجو أن يكون هذا الدرس واضحا وأن لا نخسر الكثير من الوقت ثانية في استيعابه.

الخروج من عنق الزجاجة

خرجنا من الأزمة السياسية التي سببها انقلاب 2008 عبر بوابة دكار، وأشكر لكل الفر قاء حرصهم على عدم توريط البلاد في كثير من المطبات التي هي في غني عنها وأحسب أن نوايا الجميع كانت صادقة في تجاوز المشكلة والانطلاق من جديد بعد الكبوة في الامتحان الديمقراطي. وكان على المعارضة أن تعرف أنها تنازلت أكثر مما تنازلت السلطة وهو شيء يحسب لها ودخلت العملية في وقت متأخر ولم تستطع اللحاق بموكب السلطة ولذلك أسبابه وأجريت العملية الانتخابية وأكدت ما كنا نتوقع، ولو أن العملية تأخرت قليلا لكان هناك حديث آخر. ورغم تنظيم الانتخابات إلا أن رفض الأطراف المشاركة لقبول النتائج ألقي بظلال من الشك على العملية السياسية من جديد.وواصلت المعارضة تشككها في جدية النظام في الإصلاح السياسي وما انفكت تطالب السلطة بحوار جاد من أجل الوصول لتفاهم سياسي والسلطة من جهتها تعرب عن استعدادها للتحاور.لكن الفريقين ظلا على مواقفهما المعلنة ولم يتزحزح أي منهما قيد أنملة رغم الخطابات الكثيرة والكلام الكثير عن الديمقراطية والإصلاح وشروط ذلك.

وفي خطوة لكسر الجمود السياسي، نظمت السلطة الحاكمة مع بعض أحزاب المعارضة حوارا وطنيا استمر طيلة شهر وتغيب عن الحوار حزب "التكتل" و"تقدم" و"تواصل" مشككين في جدية الحوار وطارحين بعض الشروط من أجل المشاركة في أي حوار. ورغم خروج الحوار ببعض النقاط الهامة من تجريم للانقلابات (رغم أن المنقلب ضارب صفحا بكل ما هو أمامه من لوائح وقواعد) وإجراءات جديدة من أجل ضمان نزاهة الاستحقاقات الانتخابية المقبلة والالتزام بنوع من الانضباط الحزبي ومعاقبة المخالفين، إلا أن المعارضين لا يكفيهم هذا ويصرون ولهم الحق في ذلك في ضرورة وضع النقاط على الحروف بشكل جدي ومناقشة كل الأمور السياسية وإلزام القوات المسلحة بالحياد التام وتنظيم ذلك نصا وروحا والخروج بعقد سياسي جديد ينظم الحياة السياسية ويكون فاتحة عهد جديد من الاستقرار السياسي من أجل تنمية بشرية واجتماعية واقتصادية لهذا البلد.

المأسسة الديمقراطية الجادة

لا يحتاج الأمر لأن أسطره في هذه الكلمات المقتضبة فالعقلاء في بلدنا يعرفون أن الأمر بسيط وهين في آن، إذا توافرت النية الصادقة والثقة المتبادلة والانحياز لمصلحة الشعب أولا، وزجر المصالح الشخصية الضيقة والتي تحمل البعض وللأسف للانتصار لها أكثر من الانتصار للحق والشعب والوطن ومستقبله.

فالديمقراطية وسيلة مدنية حضارية لتنظيم الحياة السياسية للدول والمجتمعات وهي مطلب شعبي فوق ذلك وقد ارتضيناها كوسيلة لإدارة أمورنا السياسية لكن لما نصل إلى العقد التأسيسي الجاد والذي يحفظها لنا من الانتكاسة والتقهقر كما وقع في السنين الماضية ولأجل ذلك لا بد من التأكيد على أمرين هامين:

أولا. تغليب مصلحة الشعب الموريتاني واستقراره السياسي ولحمته الاجتماعية وأن يكون الدافع والمحرك هو خير ومصلحة الشعب حاضرا ومستقبلا،

ثانيا.الدعوة إلى حوار جاد لا يستثني أحدا ولا يقاطعه أحد وإيجاد مخرج سياسي مقبول وذي أرضية قابلية للتطبيق والتحقق من أجل ديمقراطية حقة وقابلية للحياة ومحصنة في وجه أية هزة أو تقهقر.

ومن أجل نجاح الحوار السياسي بين الفرقاء السياسيين وتنظيم محكم للعمل الديمقراطي في بلد هش كموريتانيا وغريب عن الممارسات الديمقراطية العتيدةٍ، يلزمنا إعادة تشكيل المشهد السياسي للبلد. وبعبارة أوضح العمل الديمقراطي يقوم على الأحزاب السياسية القوية والمجتمع المدني الفاعل وكما يعرف الجميع فالبنية الحزبية هشة ومعرضة للتفكك في أي لحظة، ويكاد لا يبصر دور للمجتمع المدني في بلدنا وهو ما يعطي للعمل الديمقراطي بعدا اجتماعيا ضروريا يساهم في أن يعرف الأفراد حقوقهم وواجباتهم في مجتمع ديمقراطي بصدد التنشئة. وفكرتي في هذا الإطار تقترح مايلي:

أولا: تجريم الانقلابات حقا والتغليظ في ذلك، وإن كانت النية صادقة حقا في تجاوز الوضع السياسي القائم، أقترح على السلطة وأعني رأس السلطة الاعتذار للشعب عن ما كان من انقلابات (انقلاب 2008) والعزم أن لا يعاد لمثل ذلك ومن المعارضة الحالية التبرؤ من ما كان من تأييد للانقلابات وأخص حزب التكتل في تلقفه لنبأ الانقلاب ومساندته له ولكي يفهم الأمر بشكل موضوعي فالانقلاب في المفهوم الدستوري تصرف من ثلة قليلة ضد إرادة شعب بأكمله وازدراء بالدستور التي استفتي الشعب عليه وارتضاه حكما له. فمهما كانت الأسباب التي تؤدي بقلة إلا الانقلاب فهو تصرف غير دستوري وغير قانوني وغير حضاري ولا يمكن قبوله إلا إذا كان النظام غير ديمقراطي كما كان حال نظام ولد الطايع قبيل إسقاطه. ثم إن الانقلاب سنة سيئة في دولة تسعي للديمقراطية والمدنية ودعوة مفتوحة لكل هاو أو متوثب للانقضاض على السلطة متى شاء، ولا رادع غير رفض سبيل القوة رفضا باتا وإلزام الطامحين لمؤسسة الرئاسة بالتسابق الديمقراطي الحر والنزيه.

ثانيا:تشكيل المشهد السياسي من جديد، ويتمثل ذلك في أن لا يسمح لأكثر من ثلاثة أحزاب في التواجد على الساحة الوطنية. ويعطي القادة السياسيون تلوما زمنيا يعيدون فيه تشكيل الساحة ويسمح لهم الانتظام في الاتجاهات السياسية الثلاث فحينها يمكن الكلام عن الالتزام الحزبي بحق. فكيف يمكننا الكلام في الوقت الحالي عن الترحال السياسي وأحزابنا السياسية تربو على الستين تشكيلة. هذه نقطة مهمة ولا أتعصب لها البتة، لكنني أحسبها حجر الزاوية في أي خطوة جادة نحو مأسسة الديمقراطية في بلد كبلدنا.

ثالثا: الكلام بشكل صريح في الدستور عن السلطات الثلاث وتنظيمها وفصلها والكلام بشكل صريح عن دور القوات المسلحة الجمهورية وإلزامها بالحياد المحض شأنها في ذلك شأن المؤسسة القضائية دون إغفال دور قوات "بازيب" وتحديده وإلزامها بالانضباط كعنصر من عناصر القوات المسلحة الجمهورية.

رابعا: تعزيز دور وسائل الإعلام وإلزامها بالحياد والموضوعية والمهنية، بعيدا عن التصفيق والتلفيق والتطبيل، وأن تكون عادلة اتجاه الأطراف السياسية وتسمح لكل تيار سياسي بعرض وجهة نظره.

خامسا: وأحسبها كالنقاط الأولي في الأهمية، الانتصار للوطن ومصالحه ونبذ أي موالاة لأي حزب أو اتجاه خارجي والامتناع عن استلام أي أموال من أي جهة خارجية أيا كانت وإلزام السياسيين بذلك وسن قانون يلجم المخالفين.

وأكتفي بهذه النقاط وأملي أن يجد القادة السياسيون طريقا لإخراج البلد من الانسداد السياسي الحالي، وحسبي أن قد بلغت والسلام على أهل السلام.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!