التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:17:25 غرينتش


تاريخ الإضافة : 09.07.2008 18:49:37

خطاب المعارضة السياسي بين الممناعة و المناصحة

بقلم د. محمد الحسن اعبيدى

بقلم د. محمد الحسن اعبيدى

تثبت الأيام بإحداثياتها المستمرة فشل الخطاب السياسي للمعارضة التقليدية و زيف دعاويها في اعتبارها صدى لتطلعات المواطن في التحديث و البناء و رافع لواء الدفاع عن الديمقراطية و قيم العالم الحر و غير ذلك من المثل التي طالما خدر بها أسماعنا زعيم المعارضة التقليدية و شيعته .
و مع إيماني بعدم قدسية الفكر البشري و قابليته للمراجعة تبعا لتفاعل منتجيه مع إملاءات الواقع فإنني أقرأ فيما حصل للخطاب السياسي للمعارضة التقليدية جمودا إن لم يكن انتكاسا و تراجعا إذ يفترض في المراجعات الفكرية أن تقدم بدائل للتعاطي مع الأحداث أحسن مما كان موجودا و تفتح أفقا أرحب للتعامل مع الخصوم و قبول المخالف.
أما أن تظل المعارضة التقليدية مكررة الطرح "التسعيني" في مراهقته وجدة تعاطيه مع المظاهر الديمقراطية فهذا يعني حكمها بنفسها على موت تجربتها السياسية و إعاقة فكرها لتجريده من ميزته الوحيدة وحده التام في العرف المنطقي. فلا فكر إن لم تكن حركة و تطور و تعميق تجربة و لا خروج من عقدة الماضي إن كنا نعيش أمسنا في يومنا و ننظر لواقعنا بعيون الموتى متجاوزين مظاهر الحياة و النماء فيه.
فمن يستمع للغة المعارضة اليوم الرافضة و يبصر بنظرتها المتشائمة يقضي اليأس على ما أبقى منه غلاء الأسعار العالمي دون أن تمتد إليه يد الزعيم الشفيق المخلص الذي أفقده طول الانتظار التوازن الديمقراطي و كبرياء الزعامة –و حري بها أن لا تتحطم فوق صخرة اليأس و القنوط -. غير أن الزمن لا يرحم فأخطاء الزعماء لا تغتفر فهي كبيرة إن صدرت منهم ,صغيرة إن صدرت من غيرهم .
فما لبث الزعيم المخضرم أن تدحرجت صخرة كبريائه من قمة الجبل إلى السفح لتتحطم في القاع مخلفة غبارا من الذكريات و الطموح يحجب الحاضر ويلوث المستقبل .
و ليس لذلك من سبب سوى تضخم الأنا و بَطَر الآخر و انتقاص ما يأتي به الغير و ما يصدر عنه و لو كان هو عين المشروع الذي يناضل من أجله .
فحين كان يناضل ضد نظام ولد الطايع اعتبر أحاديته و تفرده بالسلطة هو السبب الرئيس في فشل ديمقراطيته و مشروعه التنموي و لا أدري ما الذي سيقوله اليوم هو انفتاح السيد الرئيس الديمقراطي و صدق نيته أم أن في الأمر شيء آخر؟
ذلك هو محركه تلك الفترة و سبب تجاوبه مع العسكر إذ بارك لهم عزل ولد الطايع سابقا و لعله يلوح لهم اليوم بالمباركة كما أقنع الرأي العام المحلي و الدولي بالأمس بضرورة التدخل العسكري لإزاحة نظام ولد الطايع بعد أن فشلت صناديق الاقتراع في تحقيق ذلك .
الشيء الذي أكسب نخبة بلاطه –حينها –شرعية انقلابها الذي نفذته مخافة أن يدركها الغرق لحاجة في نفس "يعاقيبها "المتخفين و سيختلق حجة أخرى في تلاقي غرضه مع غرض العسكر لإضعاف مؤسسة الرئاسة و القفز فوق الشرعية.
و بالعودة إلى ماضي تعاطي الرجل مع عسكر المرحلة الانتقالية نجده أغتنم هبوب رياح الثالث من أغسطس و لم يحتلب نوقها ظنا بأن الفصلان آئلة إليه و لا أظن ذاكرته التراثية عاجزة عن إستحضار أشعار العرب المشتملة على حكمهم و خاصة عندما يدْلَهِمٌ ليل الأزمات ,يقول الشاعر :
إذا هبت رياحك فأغتنمها ***فإن لكل خافقة سكون
وإن درت نياقك فاحتلبها*** فما تدري الفصيل لمن يكون
كانت فترة هبوب رياح التغيير مبشرة منعشة لأحلام الساسة الطامحين حيث أشرفت نخبة البلاط الطائعي في مرحلته الانتقالية على تهيئة مجال سياسي يتمكن فيه الفرقاء من التنافس السياسي الشفاف للحصول على ثقة المواطنين .
و قد أعمى الفرح الزعيم طلية المرحلة الانتقالية عن النظر في عواقب الأمور و مآلاتها بعد فهم مقاصد أفعال أصحاب المرحلة و ربط نتائجها بوضوح مقدماتها و ذلك منحى النظار المحققين –و معارف جهة الزعيم عقلية –إلا أن عواطف الشوق و أشجانه قد تحجب العقل و تأملاته عندما يلتقي صاحبه مشتاقا يتجاذب معه أحاديث العشاق كما قيل :
و ذو الشوق القديم و إن تعزى***مشوق حين يلقى العاشقين
و لهذا فتح الزعيم صدره و حزبه لاستقبال جموع الانتساب "المناسباتي" لمن يشيمون فيه بروق أنواء ساكنة القصر القادمة و يشيم هو فيهم بشائر التمكين و حسن الطالع .
و قد جرت نتائج الشوط الأول بما لا تشته سفن موكب الزعيم ,فبدأت الشكوك تساوره بصدق وعود نخبة البلاط "الطائعي"التي لا يؤمن لها إلا إن أجلسته على الكرسي و ألبسته تاج الملك.
و لما لم تفعل –ذلك الوقت –تغيرت نظرته لها و عاوده اليأس حتى و أن ظل بريق الأمل في الشوط الثاني يضيء خافتا مما ألقى بظلاله على أجواء المناظرة التلفزيونية بينه و بين الرئيس الحالي إذ ظهر فيها الأخير هادئا الأعصاب واثقا من نفسه، يعرض مشروعه السياسي بأسلوب مرن متزن لا تحامل فيه على الماضي و إقصاء لشركاء المستقبل المحاورين .
و ظهر الزعيم في أول لحظة حوار منفعلا عصبيا ينتقي كل عبارات الإقصاء من اللغة العربية فيودعها ما تحمل من شحنات التعالي و تجاهل الغير .
و نفس الشيء سلكه عندما لم يكسب الرهان فلم يتبادل التهاني المعهودة في العرف الديموقراطي و قاطع حفل تنصيب الرئيس المنتخب و ظل يشكك هو و شيعته في قدرته على الحكم و عدم صلاحيته لذلك مع دعوات الرئيس المتكررة للتشاور و المساهمة في عملية البناء الوطني لإيمانه الصادق أن الوطن يسع الجميع و بناءه مسؤولية مشتركة بين كافة أبنائه.
و هو ما حيته أطراف المعارضة الناصحة التي أشادت بإيجابيات النظام الحاكم و نبهت على سلبياته لا من أجل توظيفها بل لتقييمها و إصلاحها.
و عندما وجدت الوقت سانحا لتطبيق مشاريعها التنموية من داخل الهيئات التنفيذية للنظام لبت الدعوة لذلك غير متراخية.
و ها هي تخرج اليوم بعد أن رغب محركو أطراف اللعبة الخفيون لا أسفا على ما فرط و لا دنسا مما فيه و لا تراخ عن خدمة المواطنين في شموخ المتنبي بعد أن ضايقه الحساد على بلاط سيف الدولة حيث يقول:
إذا ترحلت عن قوم و قد قدروا***ألا نفارقهم فالراحلون هم
فلا يضير حزب "تواصل" و قسيمه في البلوى أن دخل الحكومة راغبا و خرج منها غير آسف بنفس الوضاءة التي دخل بها.
قد ازداد عمقه الجماهيري و اتسعت قاعدته و برهن للمواطنين أن خطابه السياسي و مشروعه التنموي ثابت لا يتغير فكما أوجد له آليات التنفيذ و هو خارج الحكومة ممثلة في العمل الإنساني و التثقيفي بإمكانه فعل ذلك و هو في الحكومة .
و لا يستغرب في مشروع الزعيم المتهافت أن يظل في فناء العمل السياسي منطويا على ذاته بعيدا عن محك ميدان العمل الاجتماعي، لا يعرفه الجماهير إلا بالبيانات الشامتة و الرافضة لكل شيء المتحينة فرص الانتفاضات .
و لعل الأزمة الحالية التي نعيش فيها مظاهر تناقض المفاهيم و قيمها و المشاريع و أصحابها إذ تنقلب الديمقراطية على الديمقراطية و تسقط أسوار الشرعية أمام مدافع الشرعية و يشتكي فيها القانون شطط المنسوبين إليه أنسب فرصة لمزاجية معارضة الزعيم و نساك محرابه لتطالعنا بياناتها المتناقضة مع ثوبها الديمقراطي بالقول "أنا ساخط على الرئيس "و بمطالبته في ختام المؤتمر الحزبي بإقالة حكومة حديثة التعيين في تناغم تام مع العسكر و دُماهُ المتحركة فأين الديمقراطية يا زعيمنا و مخلِصنا المنتظر و أين تحذيرك من تدخل العسكر في السياسة ؟
و ما هي صغرى قضيتك لو أضفنا لها كبرى وركًبناها على الشكل التالي (أنا ساخط و كل ساخط يرغب في الانتقام من مسخوطه) و لك أن تتصور النتيجة و أنت خريج مدرسة العقليات .
و لو إفترضنا جدلا أن المحامي القدير و الناشط الحقوقي في مقابلته المنشورة في موقع الأخبار بتاريخ 08/7/2008 محايدا في تعاطيه لما يدور في الساحة السياسية نتساءل كيف سمح لنفسه أن يسلب من الشعب شرعية من انتخبوه في عملية شهد هو ورفاقه الحقوقيون بنزاهتها ويعطيها الجيش ثم يلغي أحقية الترشح المواطنين المكفولة بالدستور –وهو الخبير بمنطوقه ومفهومه -معاتبا الجيش على منحه حقا أصيلا لمواطن بغض النظر عن صفته و ذلك بقوله (الجيش أعطى الرئاسة لمن لا يستحق).
فأي فرق بين قولك هذا و دعوة من أنتخبه الموطنون نائبا لهم للعسكر بردع الرئيس في تحدٍ سافر لأعراف الديمقراطية التي جعلت منه شيخا من شيوخ الشعب المنتخبين و لا أظنه إلا سيحا بإهمال السين و إعجام الحاء.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!