التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:11:34 غرينتش


تاريخ الإضافة : 26.02.2012 09:16:24

تأديب الحكومة مستحق وإن تأخر

بقلم: محمد الحافظ ولد الغابد

بقلم: محمد الحافظ ولد الغابد

تستحق الحكومة الموريتانية فعلا ما يسمى بسياسة لفت الانتباه وهذا ما قد يكون حمل الرئيس محمد ولد عبد العزيز على استخدام "الحافز السلبي" بمهارة تنبئ عن عقلية بالغة الاستيعاب لمدى ما يبلغه هذا السلوك من إيذاء ورعونة هي الجزاء العادل للإخفاقات الحكومية المدوية.

لم يكن يغيب عن بال الرئيس مستوى الهدر الذي مارسه هو شخصيا وحاشيته على موارد الدولة ومال المجتمع وجاء العقاب الرباني بابتلاء القحط والمحل والسنين العجاف التي بدأت تنيخ بكلكلها منذ السادس من أغطس 2008 عندما نفذ الضابط ذو الجسم البدين انقلابه لتصفية الشكل الديمقراطي الهزيل الناتج عن انتخابات 2007 القذرة جوهرا النقية شكلا.

وما من شك في أن الرئيس ولد عبد العزيز وهو الآن قد قضى فترتين رئاسيتين إحداهما رئيسا لدولة المجلس العسكري والثانية رئيسا للجمهورية مع شك يستنكح شرعيته ما يزال يعاني من صراع وعقد نفسية ملازمة فهو في الكثير من الأحيان يتصرف كما لو كان يدير قطيعا من مليشيا الحرس الرئاسي وأحيانا يظهر بمظهر (رئيس الجمهورية ) الواعظ: المصلح المشفق الذي يدرك أن جمهوره يعرف فيه ثغرات المخالفة إلى ما يأمر به أو ينهى عنه والمتتبع لسلوك الرجل ومواقفه وتصريحاته يقتنع بحجم الأزمة النفسية العميقة التي يعاني منها.

ومن مظاهر هذا الفصام النكد في شخصية الرئيس كون الرجل لم يتمكن من هضم مكونات شخصيته فهو أحيانا يظهر في سلوكه وتصرفاته كمن يتقمص دورا تمثيليا غير أصيل في شخصه وهو هنا أشبه بممثل غير محترف (يتقمص دور بطل) ولا يسعفه مخرج الفلم بلمسات إعادة الترتيب حذفا وإضافة من أجل الظهور بالمظهر اللائق. وأحيانا يظهر بمظهر العسكري المنضبط الفاهم والمستوعب لحدود دوره الفني وتلك هي أقل حالاته.

ويبدو هذا التناقض في شخص الرئيس ولد عبد العزيز واضحا في لقاءاته المباشرة حيث يحاول أن يجيب عن كل شي إجابة العالم مما يعرضه للسقطات الكبيرة سواء في لقاءاته التلفزيونية أو الاجتماعات السياسية التي تعود شركاؤه تسريبها باستمرار مما يؤشر على حجم التذمر والتملص من الولاء للرجل وستأتي اللحظة التاريخية التي يتضح فيها أن دور المعارضة الأهم إنما جاء من داخل الأغلبية والنظام وليس بالضرورة من داخل المعارضة التقليدية التي فشلت حتى الآن في التعامل مع إكراهاتها الواقعية مما وفر خدمات كبيرة شكلت منقذا لعزيز وحكمه في العديد من السنوات الماضية.

حكومة الفشل والانهيار

توضح التسريبات الخارجة من القصر بسرعة رسائل لــsms أن شخصية الدكتاتور المستبد بدأت في الظهور بشكل متسارع فالاستخفاف بمن حوله والضيق بأوضاع الناس والهجوم الساعي لتحطيم الكل، باتت معروفة للجميع، ولكن أخطر ما في الأمر هو أن الرئيس عندما اختار طاقمه المحيط به، كان يعتمد بشكل أساسي على إبعاد كل من له كفاءة شخصية أو قدرة على المبادرة والتنبيه لتلافي الأخطاء القاتلة، ومن الواضح أن كل هذه الأكوام من أشباه الرجال في الحكومة وفي الأغلبية الحزبية تقع اليوم تحت هول الصدمة جراء نمط القيادة الصادم الذي أسفر عنه نضالها.(تصريح عزيز للجزيرة 2008)

إن أخبار التوبيخ وأزمة الثقة المستحكمة ما بين الرئيس وكل المحيطين به تلقي إلى السطح اليوم بعمق الأزمة السياسية التي يعاني منها الرئيس والبلاد ومع ذلك وبشهادة تقييم الرئيس نفسه لحكومته يكون الرأي العام الموريتاني قد حصل على اعتراف رسمي بفشل مشروع حكم الرئيس ولد عبد العزيز بكل ما في الاعتراف الذاتي من قوة، وهذا الفشل مشاهد في واقع الناس وليس ادعاء نسجته خيالات المعارضين.

ولو كان الرجل اختار في طاقمه ولو رجلا رشيدا واحدا من ذوي الرأي لحملته غيرته على رئيسه وعلى البلاد على أن يثنيه عن غوايته ولكن من الواضح أن جل الطاقم قادم من أسفل القاع ولا ينظر إلى ما هو أبعد مما بين قدميه وإلا لكانت نتائج نقاش جاد تجري داخل مجلس الوزراء وتقدم وجهات نظر مغايرة لما هو معهود من قناعة الرئيس، وهذا سيكون علامة إيجابية تحسب للمجلس ورئيسه بدل الصورة المستقرة حيث يبدو كل فرد من أعضاء المجلس الوزاري كالميت بين يدي مغسله، وتشير المعطيات المتداولة إلى أن جلسة الحكومة قبل الأخيرة كانت مخصصة فقط لشتم أعضاء الحكومة الفاشلة والتي ما فتئ أعضاؤها يقدمون المعاذير بأن أسلوب الرئيس المتسم بالمركزية الشديدة في الإدارة وهيمنته على المصادر المالية تكاد تشل الدولة شللا كاملا معيقا للأداء والفعل أيا كان سلبيا أو إيجابيا وهذه حقيقة مشاهدة في واقع الإدارة ويعرفها المراقبون للشأن العام.

والذي نرجحه أن هذا المستوى من الاستخذاء والرضوخ طارئ على مجلس الوزراء الموريتاني فقد كان من سمات الحكومات المتعاقبة وجود قدر لا بأس به من الحرية التي تتيح النقاش والمداولة. وكانت فترة ولد الطائع التي تشكل دون شك مرجعية وحيدة للتكوين السياسي للرئيس ولد عبد العزيز فترة تراجع في هذا السياق ومع ذلك فقد كان الوزراء يناقشون ويقدمون حججهم بإزاء حجة الرئيس وقد نقل صاحب كتاب الوزير السفير محمد محمود ولد ودادي جوانب من تلك النقاشات يقول"... واجه (سيدي ولد الشيخ عبد الله) يوما الرئيس ..ووصفه بطريقة غير مباشرة بجهل ملف عن الصيد كان يريد عرضه على المجلس حيث قال للرئيس ما معناه "إذا لم أكن أعرفه فمن يعرفه؟" فنظر إليه الرئيس بحنق دون أن يرد". (الوزير ص 28).

ومما لا شك فيه أن مجلس الوزراء الحالي يفتقر لرجال يؤمنون بقيم تفرض عليهم الذب عن أعراضهم في وجه سيل الشتائم الموجهة إليهم، ولو كان فيهم رجال عقلاء لخرجوا واستقالوا خصوصا وأن الرأي العام يدرك أن عمر حكومة منزوعة الثقة من رئيس يملك ترسانة واسعة من الصلاحيات يبقى مسألة وقت فقط. ومن المعروف أن الطاقم الحالي منتهي الصلاحية ويتجه حتما إلى الرحيل.. فلما ذا لا يسجل هؤلاء لأنفسهم استقالة تحفظ لهم كرامتهم الوطنية ويكون ردهم على الدكتاتور المثل العربي القديم :"بيدي لا بيد قُصَيْر"

عزيز وبن أعلى تشابه في الأساليب


ذكرتني قصة قطع الهواتف عن الوزراء التي تم تداولها هذا الأسبوع بحكاية الدكتور عبد السلام المسدي وزير التعليم العالي والبحث العلمي في أولى حكومات بن علي يقول المسدي: (في اليوم الخامس استقبلني "رئيس الجمهورية" في مكتبه بالقصبة، لم ألقه من قبل ولا سبق أن صافحته كان معي بشوشا وما لبث أن راح يستلطفني وفجأة قال: إني رأيت أن فواتير التلفون عندك معتدلة جدا ومعقولة، صعقت ولم أرُدَّ، ثم ختم اللقاء بمجاملات، وعدت إلى مكتبي، قرأ السائق على ملامحي توترا لأني لم أبادله عبارات اللطف المعهودة، وكاد يسألني عما بي. الفواتير التي يعنيها "رئيس الدولة الجديد" تخص هاتف البيت وكانت إدارة الحزب قد دأبت على دفع فواتير المسئولين المنزلية لأن خطوطهم مفتوحة لكل من يحتاجونه أو يحتاجهم في كل أنحاء البلاد نهارا أو ليلا" ويمضي المسدي في كتابه "تونس جراح الذاكرة" محللا صناعة الطاغية ودور النخب السياسية فيها مستعرضا الجدلية التاريخية التي تتعلق بالتساؤل عن أسبقية الملأ في تصعيد شخصية الطغيان وبعثها قيمة مضافة للزعيم أم هي دور تسلطي نفسي يولد مع الطاغية كسمة شخصية ثم تبرز شيئا فشيئا مع الزمن كبقية التجارب الشخصية. ( المسدي، تونس جراح الذاكرة ص 50).

ويمكن أن نجزم بأن الجانب الثاني الهام الذي يستحق الدراسة هو تشابه الطغاة أنفسهم واستقاؤهم من مرجعية الطاغوتية الفرعونية التي حددها النص القرآني "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".

فشل يقود للأزمة مستحكمة

في فن القيادة تؤكد جميع المثل على ضرورة منح القائد لجنوده الأمل بإمكانية الإنجاز وبالقدرة على تجاوز العقبات وتحذر الأسس التي يقوم عليها علم القيادة من التأثير السلبي على الروح المعنوية للجنود لأن ذلك سيشكل أهم عامل سلبي يقود للانهيار وهذا فعلا ما نرى أن الرئيس ولد عبد العزيز فشل فيه؛ حيث ما فتئ يتخذ من تسلطه وسيلة لإرهاب حلفائه ونزع الثقة منهم مما جعلهم يفقدون الأمل في نظامه.

والملاحظ لوضع الانسحابات المتتالية من حواشي جبهة النظام و الأغلبية يدرك أن عجلة التغيير بدأت تدور باتجاه تهدم الأرضية التي يقف عليها النظام وربما تؤدي الاحتجاجات الطلابية وتردي الوضع المعيشي ووقع الجفاف وارتفاع الأسعار خلال الصيف القادم إلى تبديد كل أرصدة القوة التي يملكها النظام مما سيساعد على الدفع بالحكم العسكري للرحيل خصوصا إذا اتجهت المعارضة لمزيد من التنسيق وإعادة استثمار انسحابات المغاضبين للرئيس والمحتجين على أسلوبه في الإدارة الفاشلة والحكم القاصر . ولله الأمر من قبل ومن بعد.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!