التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:08:59 غرينتش


تاريخ الإضافة : 08.04.2012 12:39:15

لِمْعَلْمِين.. تحليل المشكلة وتشكيل الحل

                                                                                       محمد ولد محفوظ

محمد ولد محفوظ

الحقيقة أنّ موضوع لمعلمين في موريتانيا موضوع إشكالي لم ينل بعد من الدراسة والتحليل والتمحيص والمعالجة ما يستحقّه، ومكمن إشكاليته ـ في نظري ـ أنّه بقي إلى الآن واحدا من المواضيع القليلة جدا التي لا تزال على حالها جامدة، لم تتغيّر بعْدُ في فضاء عام أبرز خصائصه التحوّل والتغيّر.

ونظرة سريعة تعطي جانبا من الصورة، فمثلا تغيرت الحالة العامة في هذا المنكب البرزخي، فانتقل من السيبة إلى "الدولة"، وانقلبت حياة البداوة إلى واقع التحضّرـ بما أملاه ذلك من تحوّل واسع في كثير من أوجه الحياة ـ ثم تغيّر ذلك الاحتكاك المزمن بين عرب حسان وبين قبائل صنهاجة، واختفت معه حدّة الاستقطاب بين الطرفين، إلى حدّ الانصهار في بوتقة من التجانس والندية، وكذلك تغيّرت ـ إلى حدّ مُطَمْئِن ـ حالة الاسترقاق فخرجت من تحت عباءته غير الإنسانية شريحة الأرقاّء السابقين لتتنفس نسيم الحرية، وغير هذا كثير مما تغيّرـ والحمد لله ـ في موريتانيا، بيد أنّ المجال يضيق هنا عن حصره كاملا.

غير أنّ ما لم يتغيّر بعد في هذا البلد، ولا يلوح في الأفق ـ مع الأسف ـ مؤشّر تغيّره هو الوضعية المزرية لشريحة لمعلمين، أقصد المنزلة الاجتماعية البائسة، والنظرة الدونية التي ينظر بها المجتمع إليهم، وهو ما تمتد آثاره السلبية إلى واقع حياتهم العامة، فيعانون منها معاناة حقيقية على الصعيدين المادّي والمعنوي.

إنّ المتأمّل لهذه الوضعية لا بدّ أن يلاحظ بعض الأسباب البارزة لهذه الظاهرة الغريبة نجملها في ما يلي:
1 ـ البعد الاجتماعي: من المعلوم أنّ المجتمع الموريتاني لا يزال رغم مرور نصف قرن على قيام الدولة الحديثة مجتمعا عشائريا تتحرّك فيه المجموعات داخل دوائرها القبلية بنوع من الاعتزاز والعصبية، يعزّزه الشعور بالانتماء الموحّد، وتدعمه الروابط العرقية والاجتماعية والتاريخية، وهنا تصبح القبيلة بمثابة القوة الضاغطة ـ معنويا على الأقل ـ حفاظا على مكانة أفرادها ـ من غير لمعلمين طبعا ـ ودفاعا عن كرامتهم وفرضا لحضورهم ـ إن لم نقل لنصيبهم بل وأكثر من نصيبهم أحياناـ من الكعكة السياسية والاقتصادية للدولة.

وبما أنّ شريحة لمعلمين لا تنتمي في الأصل إلى مرجعية قبلية واحدة، فهي أسر ومجموعات موزّعة بين القبائل ـ هكذا بالصدفة كما يحلو للبعض أن يقول ـ وإذْ لا جامع بينها في حقيقة الأمر إلاّ الانتماء إلى المهنة، أو إلى من مارسوها في السابق، فقد غابت أيّة لحمة حقيقية بين المنتسبين أو المنسوبين إليها قسريا ـ لا فرق ـ هذا إذا استثنينا طبعا مسألة الزواج وهي لوحدها غير كافية لتحقيق الترابط والتجانس المطلوبين كمنطلق لأيّة لحمة حقيقية.

لقد جعلتهم وضعية التمزّق والانقسام هذه إضافة إلى احتقار الناس لمهنتهم مضغة سائغة وهدفا سهلا للاصطياد في مجتمع لا يحكمه من هذه الناحية إلاّ قانون الغاب.

صحيح أنّ كلّ أسرة من هذه الشريحة ترتبط من الناحية النظرية بمرجعية قبلية معيّنة، ولكنّه ارتباط شكلي تعيش من خلاله على هامش الحياة القبلية، فلا القبيلة هضمتها وأدخلتها في نسيجها الداخلي دما ومصاهرة، ولا هي تحرّرت من ربقة الوجود والانتماء المنقوص لتشكّل مع بقية المنتمين إلى هذه الشريحة نسيجا اجتماعيا موحّدا لانتزاع الهيبة وارتجاع الحقوق، ومواجهة ظلم التقاليد وقسوة المجتمع.
2 ـ البعد التاريخي: يقال إنّ المنتصر هو الذي يكتب التاريخ دائما، وعلى ضوء هذه القولة يمكن أن نفهم لماذا غاب تاريخ لمعلمين عن الكتابة والتدوين، فقد كانوا ـ ولا يزالون ـ على ما هم عليه من الفرقة والتمزّق. وأَنَّى لهم ـ والحالة هذه ـ أن ينتصروا ليكتبوا التاريخ أو يساهموا في كتابته، وقد كانت الأشياء التي تفرّق بينهم ولا زالت، من حيث الانتماء والارتباط والتوزيع الجغرافي والانشغال والطموح أكثر بكثير من الأشياء التي تجمع بينهم، هذا إضافة إلى أن ميل الميزان الديموغرافي وكذلك الوعي بالحقوق والحرص على الذوْدِ عنها ليس في صالحهم.

وغير بعيد عن التاريخ، ومتى علمنا بأنّ هذه الشريحة تعيش في مجتمع تقليدي تهيمن الأسطورة على جانب كبير من تاريخه، وهي أسطورة يوجّهها الماسكون بخيوط اللعبة، فينسجون حول أنفسهم هالة من التقديس والعظمة لا تجعلهم يرضون بأقلّ من أن يكونوا هم بالذات "شعب الله المختار"، ولا تكتمل لوحتهم الميتولوجية إلاّ بإدارة دفّة الأسطورة من جديد لتسلب من الآخرين هذه المرّة حتّى كلّ اعتبار آدمي، وبطبيعة الحال ستكون شريحة لمعلمين هي من يتصدّر الوجه السلبي للأسطورة، ولا أدلّ على ذلك من القول بأن هذه الفئة لا أصل لها. "كبُرَتْ كلِمَة تخْرُجُ مِنْ أفوَاهِهِمْ إنْ يَقُولونَ إلاّ كذِبَا".

ثم إنّ الكثيرين من الذين كتبوا عن التاريخ الموريتاني كتبوا عنه وهم إمّا واقعون تحت نشوة الشعور بالعظمة، أو في أبسط الحالات تحت تأثير أسطرة التاريخ، ولذلك انتابهم الهاجس نفسه، وهو هاجس النرجسية الذاتية والقومية (بالمعنى القبلي) بعيدا عن الحياد والموضوعية، لقد كتبوا عن التاريخ وأعينهم مسلّطة على ما يمكن أن يجنوه هم وقومهم من منافع مادية ومعنوية، دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن حقيقة التاريخ وحقيقة المجموعات والشرائح التي يكتبون عنها، وحتى دون مراعاة ضرورة الالتزام في ما يكتبون عن هذا وذاك بما يقتضيه المقام من الصدق والمهنية.
3 ـ البعد الثقافي: عملت الثقافة الاجتماعية في موريتانيا عبر كلّ فتراتها التاريخية على شيطنة لمعلمين والحطّ من مكانتهم وتدنيس سمعتهم، وإذا كان من المعلوم أنّ كلّ شرائح المجتمع الموريتاني قد ساهمت في ممارسة الخطيئة المادية للاسترقاق، إلاّ أنّه من غير المعروف تماما أنّ كلّ الشرائح مارست وبالقدر نفسه خطيئة معنوية لا تقل خطورة ألا وهي النهش من أعراض هذه الشريحة مع الشتم والقذف، فأصبحت مضرب المثل لدى كلّ الناس في مجال الأوصاف الردئية كالكذب والنفاق والشره والشؤم.

بل إنّ هذه الشريحة أصبحت كسلّة المهملات يرمي فيها المجتمع كلّ نفاياته، فلا لسان يذكرها إلاّ بشر، ولا عالم يذبّ عنها بما علّمه الله، ولا مثقّف يدافع عنها، ولو إخلاصا لما يمليه عليه واجب المثقّف، ولا سياسي مخلصا يطرحها على أجندته من ضمن أولوياته ومشاريعه الإصلاحية.

وإذا كان من المسلّمات الفيزيائية أنّ لكلّ فعل ردة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، فإنّ هذه النظرية أثبتت فشلها أيضا في موضوع لمعلمين، حيث لا ردّة فعل من قبلهم على ما يسومهم به المجتمع من سوء القول والفعل، هذا إذا استثنينا بعض التململ الذي بدأ يظهر أخيرا على شكل مقالات في المواقع الإلكترونية، ومن البديهي أنّها لوحدها ليست كافية لإيقاف سيل الاتهامات التي يكيلها المجتمع ـ بلا حسيب ولا رقيب ـ لهذه الشريحة، مما امتلأت به النفوس وتشرّبت منه العقول، وأصبح إمكان إيقافه تحديا في غاية الصعوبة.
4 ـ البعد السياسي: لعله من نافلة القول إنّ الدولة بمعناها الحقيقي لا تزال في كثير من مناحي الحياة "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسِبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً، حَتّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا..." فلو أنّ الدولة وُجِدَتْ بالفعل ـ لا بالقوة ـ وتحمّلت مسؤولياتها كاملة في هذا المجال، لحُلّ هذا الإشكال منذ زمن بعيد، ولربحنا من الوقت ما نخسره اليوم في كتابة هذه المقالات.

غير أنّ الدولة الموريتانية ممثّلة في نظامها السياسي عبر كلّ فتراته التاريخية تقريبا هي دولة مركّبة ومتناقضة، فهي دولة ظاهر زائف يتشدّق بتكريس القيم السامية كالإنسانية والعدل، ويتظاهر بالدفاع المزعوم عن حقوق المواطنين وخاصة الذين هم أكثر هشاشة وأقلّ حماية، ولكنها في حقيقة الأمر هي دولة باطن متحكّم يرعى الاصطفافات الإثنية والعشائرية، ويعتاش على إذكاء النعرات الطائفية والقبلية والجهوية.

ومن هذا المنطلق كان من الواضح أنّ الدولة الوطنية لم تبذل منذ قيامها إلى اليوم أيّ جهد يذكر في سبيل رفع الظلم المادي أو المعنوي الذي تعاني منه هذه الشريحة، فلا هي عملت من خلال برامجها الثقافية والتربوية على تحسين صورتها لدى الرأي العام، ولا أشركتها ـ بالقدر الذي يحصل عليه السكوت ـ في المناصب السياسية والإدارية، أحرى أن تعمل على محو الفوارق بينها وبين غيرها من فئات المجتمع، وفوق هذا وذاك بقيت كلّ القيم الإيجابية التي ينصّ عليها الدستور والتي تكرّس الندية والمساواة حبرا على ورق، لأنّها لم تشفع بإجراءات عملية مصاحبة، ولا حتّى بنيّة صادقة لإنزالها منزلة الواقع المعيش.

بعد هذا التحليل صار من اللازم أن يتمّ التأكيد على أنّ الصورة النمطية التي تختزنها الذاكرة الاجتماعية في موريتانيا حول لمعلمين مشوّهة بالكامل، وباطلة في أصولها وفروعها، فهذه الشريحة هي جزء من النسيج الاجتماعي الموريتاني العام، فمنها الأشراف والعرب والزوايا وغيرهم، وهذا ما تدلّ عليه أصولهم ولغتهم وألوان بشرتهم وأنماط حياتهم وتقاليدهم. ولهذا فلقد كان منهم في السابق حملة السيف وحملة القلم، وأصبح منهم اليوم العلماء والأئمة والكتّاب والشعراء.

إن كلّ ما يروى عن دونية هذه الشريحة زائف دينيا لقوله تعالى، وهو أصدق القائلين: "يَا أَيُّّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلقنَاكُمْ مِنْ ذكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقبَائِلَ لِتعَارَفُوا إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ"، فماذا يمكن لهذا المجتمع "العصبي القبلي" أن يقنعنا به بعْدُ من تراتبية وأفضلية أحسن وأصدق مما جاء في القرآن الكريم؟!

ثم إنّه زائف تاريخيا لأن الذين أوتوا بسطة من العلم، والذين كتبوا عن التاريخ بموضوعية ـ على قلّتهم ـ وكذلك الذين لا تأخذهم في الحقّ لومة لائم، أكّدوا مجتمعين على أنّ هذه الفئة من الطينة نفسها التي تنتمي إليها سائر مجموعات هذا البلد.

وزائف اجتماعيا لأنّ هذه الفوارق الاجتماعية والمتاريس القائمة هي حدود وهمية وحواجز مصطنعة تعشّس في أذهان المتباكين على أطلال بلاد السيبة وعصبية البداوة وخرافة الأسطورة.

وزائف ثقافيا لأن كلّ ما ألصق بهذه الشريحة من الأوصاف السيّئة، هي أوصاف عامة، لا موطن لها، قد توجد في البعض من المنتسبين لهذه الشريحة، ما في ذلك شك، ولكنّها بالتأكيد موجودة عند البعض الآخر ومن كلّ الشرائح المتبقية، وعلمي أنّه لم تُجْرَ بعد إحصائية ـ لا دقيقة ولا غير دقيقة ـ حتّى يتأكّد للجميع أين ترتفع النسبة وأين تنخفض.

وكذلك فإنّه زائف من الناحية السياسية لأنّ المنحدرين من هذه الفئة لا تزال تجربتهم في إدارة الشأن العام شبه معدومة، ومن ثم فلا يجوز الحكم عليهم لا بالفشل السياسي أو لا بعدمه، لأنّ الأصل في الأشياء براءة الذمة، ولا يجوز الطعن في هذا الأصل حتى يثبت العكس.

ويبقى من المهم في الختام الإشارة إلى بعض الملاحظات التي ستُسْهم ـ في حالة العمل بها ـ في الحدّ من هذه المشكلة، في انتظار الأمل الموعود الذي بتحقّقه يتمّ رفع المعاناة بالكامل.
1 ـ أن يحدث حراك ثقافي وإعلامي متزامن من ذوي الضمائر الأبية والأقلام النبيلة في الإذاعة والتلفزيون وعبر المواقع الألكترونية ـ وأقصد هنا المؤسسات الخاصة ما دام الأمل في العمومية يكاد يكون مفقوداـ وذلك من أجل تغيير الصورة النمطية السيئة الماثلة في أذهان الكثيرين من هذا المجتمع حول هذه الفئة.
2 ـ أن تطّلع الدولة ـ وهو لعمري مطلب في بحر من المطالب، الله وحده أعلم بعمقه واتساعه ـ بمسؤوليتها في هذا المجال، فتحسّن معنويا من وضعية هذه الشريحة عن طريق برامج التوعية، والبرامج الثقافية والتربوية، وسياسيا بإشراكها في المناصب السياسية والإدارية كحق لا مجال للتغاضي عنه، واقتصاديا عن طريق دعم رابطات الصناع التقليديين وتشجيع منتجاتهم، ومن المهم في هذا السياق أن يقرّر يوم وطني للصناعة التقليدية.
3 ـ أن يقوم العلماء والأئمة، والكتّاب والمثقّفون، كلّ من موقعه بالحديث عن هذه المسألة، وتبيين حقيقتها للناس، لأن جانبا كبيرا من المشكلة يعود إلى الجهل والأمية، وليقع تركيزهم في هذا السياق على مطالبتهم الناس بتكسير الفوارق الاجتماعية وتحطيم التراتبية التي لا أصل لها في الدين الإسلامي الحنيف، وذلك عن طريق الدعوة إلى تشجيع المصاهرة المتبادلة باعتبارها إحدى أهم الخطوات التي ستساهم في حلّ هذه المشكلة الاجتماعية الشائكة.
4 ـ من المهم في هذه الناحية أن تكون البداية باندماج اجتماعي حقيقي بين شريحتي الصناع التقليديين والفنانين التقليديين، ربّما على طريقة امرئ القيس حين قال:
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا وكلّ غريب للغريب نسيب
والغربة هنا ـ بطبيعة الحال ـ غربة نفسية فرضها المجتمع ولم تكسّرها الشريحتان بعْدُ، وفي انتظار لحظة التكسير التي هي آتية لا ريب فيها، يجب أن يقود هذا الاندماج إلى لحمة اجتماعية وتحالف سياسي يؤدّي إلى قوة ضاغطة تسمح لهاتين الشريحتين اللتين تعانيان من الإقصاء والتهميش بلعب أدوار قيادية ـ لا تبعية ـ على صعيد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة، ولتكن هذه الخطوة بدورها خطوة مهمّة، وقوة دفع معتبرة في اتّجاه مزيد من الانفتاح وصولا إلى التكامل والتداخل المطلوب بين النسيج الاجتماعي العام.
5 ـ على كلّ القادرين من أبناء شريحة لمعلمين أن يناضلوا ثقافيا وسياسيا وعبر كلّ المنابر، وبالكلمة الطيّبة والفكر الواعي المستنير، والجدال بالتي هي أحسن دفاعا عن شرفهم، وتحقيقا لإنسانيتهم الكاملة وحقّهم المشروع في العيش الكريم على هذه الأرض الطيبة التي هي أمانة الآباء والأجداد.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!