التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:08:57 غرينتش


تاريخ الإضافة : 24.06.2012 16:18:11

العبودية في كتب المالكية ... لا كما يراها المتحاملون (3)

محمد يحيى بن محمد بن احريمو

محمد يحيى بن محمد بن احريمو

سنخصص هذه الحلقة- إن شاء الله تعلى- لمناقشة بعض الإشكاليات التي أثارها الشيخ الكريم صاحب العلم والفضل والفهم السديد الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي - حفظه الله - في مقاله الذي أشرنا إليه سابقا خصوصا فيما يتعلق بتقييمه لأداء الفقهاء في تقرير الأحكام المتعلقة بالأرقاء.

إن القارئ لمقال الشيخ لا يسعه إلا أن يلاحظ الأمور التالية :
أولا : حضور المنهج الاستشراقي والرؤية الاستشراقية في كل ما كتبه الشيخ الفاضل عن هذا الموضوع.
ثانيا : التحامل الشديد على الفقهاء عموما والمالكية خصوصا إلى درجة جعلت الشيخ الفاضل ينسب إليهم بعض ما لم يقولوه ويحاسبهم على ما لم يقترفوه .
ثالثا : غياب المنهج العلمي بكل مقتضياته من الأدب مع المخالف وإنصافه ومناقشة أدلته ... فالشيخ الفاضل يحاول دائما التستر على أدلة المخالفين وتجاهلها بشكل مطلق وإيهام القارئ أنهم إنما اتخذوا هذه المواقف تحاملا على الأرقاء وانحيازا إلى سادتهم وكأن المسألة مجرد صراع مادي بحت لا أثر للدين والوحي فيه .
هذه باختصار هي الملاحظات التي أراني الله على مقال الشيخ الكريم وسأحاول الحديث عنها بالتفصيل إن شاء الله تعلى.

تأثر الشيخ الشنقيطي بنظريات ومناهج المستشرقين

إن أطروحات الشيخ الدكتور محمد متأثرة بشبهات المستشرقين ومطاعنهم في الإسلام وتراث الإسلام فالشيخ محمد يرى أن الفقه الإسلامي: " هو حاصل تفاعل فهمِ الفقهاء للوحي مع المواريث الاجتماعية والثقافية السابقة على الإسلام" وهذا بعينه تحوير وتطبيق لأكذوبة : " العادة المقدسة"، وهي نظرية معروفة للمستشرق الألماني الحاقد " جولد تسيهر " وتقوم هذه الفرية على اعتبار السنَّة النَّبوية والفقه الإسلامي مجرد مجموعة من العادات والتقاليد تعكس تفكير المجتمعات التي كانت قائمة قبل الإسلام إضافة إلى بعض القوانين الرومانية وأن المسلمين هم من قام بإضفاء طابع القداسة عليها وأوهموا الناس أنَّها سنةٌ جديدة ووحي مقدس, تعلى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقد تولى الرد على هذه الفرية الشيخ مصطفى السباعي في كتابه " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " .

لا ننكر أن هناك تأثيرا لبعض الأعراف والعادات في الفقه الإسلامي والعرف هو أحد أصول الأحكام المعروفة لكن لا نقول إن الفقه قد خضع تماما لهذه الأعراف ولا نرى أنه قد تم توظيفه لصالح طبقة معينة كيف والأمة معصومة من التواطؤ على الخطأ والاجتماع على الباطل ويأبى الله إلا أن يتم نوره .

وإضافة إلى ذلك نجد في مقالات الشيخ الفاضل صدى واضحا لفكرة " نظام الطبقات " المعروفة في الفكر الشيوعي وحاصلها اعتبار نظام الطبقات هو المسؤل عن تخلف الشعوب وذلك أن الطبقة التي تملك المال تملك السلطة والنفوذ وبالتالي تملك وسائل التشريع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فتشرع لحماية نفسها، ولإبقاء الشعب خاضعاً لسلطانها، محروماً من كثير من حقوقه إرضاء لشهوات الطبقة الحاكمة والوقع أنه لا وجود لهذه الفكرة في الإسلام فشعار الإسلام هو ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .

إن تجليات هذه الفكرة تبدو واضحة في أطروحات الشيخ الفاضل فهو يتهم الفقهاء بالالتفاف على حقوق الأرقاء وتعطيل النصوص الشرعية كلما كانت في صالحهم ... وهي أمور أربأ بالشيخ الفاضل عنها فهو أحق الناس باحترام العلماء والصالحين .


مع أن الحديث الصحيح والواقع التاريخي يفند هذه التهمة قال صلى الله عليه وسلم : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " . رواه البيهقي وصححه الألباني ( مشكاة المصابيح بتحقيقه 1|53) .كما أن أكثر أهل العلم في الإسلام كانوا من الموالي والأعاجم وأبناء الطبقات الضعيفة وقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلا تحدث فيه عن ذلك فقال : " فصل في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم"(مقدمة ابن خلدون: 349) .

وذكر الذهبي حكاية طريفة وقعت للزهري مع عبد الملك بن مروان مؤداها أنه دخل عليه وهو خليفة فقال من أين قدمت بن مروان فقال من أين قدمت قال من مكة قال فمن خلفت يسودها قال عطاء قلت عطاء قال أ من العرب أم من الموالي قلت : بل من الموالي قال فيم سادهم ؟ قال بالرواية والديانة قال :" إن أهل الرواية والديانة ينبغي أن يسودوا" ثم سأله عن فقهاء الأمصار الإسلامية الأخرى فبين له سيد أهل اليمن طاووس وأهل الشام مكحول , وأهل الجزيرة ميمون بن مهران وأهل خراسان الضحاك بن مزاحم وأهل البصرة الحسن وأهل الكوفة إبراهيم النخعي وأهل مصر يزيد بن أبي حبيب وكلهم من الموالي , (سير أعلام النبلاء5\85).


وعلى الجملة فلا ينبغي أن نتردد في تجرد الفقهاء المسلمين وسمو تفكيرهم وقد لاحظ ذلك العلامة ابن حزم فقال في رسائله في فصل عقده لطرف المذاهب :
" أبو حنيفة مولى يقول: لا يجوز نكاح المولى من قريش ولا في العرب؛ والشافعي قرشي مطلبي منافي يقول هذا جائز".( رسائل ابن حزم 1\ 107) .

تحامل الشيخ الشنقيطي على الفقهاء ونسبته إليهم ما لم يقولوه

لقد تحامل الشيخ الكريم محمد بن المختار على الفقهاء ونسب إليهم ما لم يقولوه وذلك في مسألتين :
أولا : نسب الشيخ إليهم أنهم " أعفوا السيد من أي عقوبة دنيوية إذا قتل عبده، عمدا أو خطأ" ورتب على ذلك - وعلى انتفاء القصاص بين الحر والرقيق - اعتبار أن الفقهاء قد " رفضوا المساواة بين الحر والرقيق في حق الحياة الذي هو أصل كل الحقوق وأقدسها " وأن ذلك من المصائب الكبرى في تاريخ الفقه الإسلامي .
وهذا خطأ من الشيخ فالفقهاء لم يرفضوا المساواة بين الحر والرقيق في حق الحياة ومعروف أن قتل النفس التي حرم الله هو أعظم الموبقات في الإسلام وقد اوجب الفقهاء على قاتل العمد مطلقا عقوبة دنيوية تساوي عقوبة مرتكب الزنا وهي جلده مائة مرة وسجنه حولا كاملا يستوي في هذه العقوبة قاتل الحر وقاتل الرقيق بل إنها تلحق السيد إذا قتل عبده كما نص عليه خليل في مختصره قال : " وَعَلَيْهِ مُطْلَقًا جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ حَبْسُ سَنَةٍ وَإِنْ بِقَتْلِ مَجُوسِيٍ أَوْ عَبْدِهِ" (مختصر خليل ص 234 ط دار الحديث) , وقال المواق في شرحه : " قال مَالِكٌ : وَسَوَاءٌ أَيْضًا كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا لِلْقَاتِلِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُسْجَنُ ".

ثانيا : نسب الشيخ إلى الفقهاء أنهم قالوا بحرمان الرقيق من إجراءات المحاكمة والتقاضي إذا ارتكب جناية يقول الشيخ الفاضل :
: " بل إن العبد لا يستحق حتى إجراءات التقاضي قال ابن جزي: "وَإِذا قتل العَبْد حرا فيسلمه سَيّده لأولياء الْمقتول فإن شاءوا قتلوه وإِن شاءوا أحيوه" ... ثم اعتبر أن في ذلك إهدارا لكرامة الرقيق وانتقاصا لإنسانيته ... إلى آخر كلام الشيخ الفاضل ... وقد أخطأ في ما توهمه من ذلك فإن الفقهاء مطبقون على أن قضايا الدماء لا يجوز الحكم في شيء منها لغير القاضي المنتصب قال خليل في مختصره مشيرا إلى المسائل التي لا يحكم فيها غير القضاة : " وإنما يحكم: في الرشد وضده والوصية والحبس المعقب وأمر الغائب, والنسب والولاء وحد وقصاص ومال يتيم: القضاة" (مختصر خليل ص 173) ’ وقد بين شراحه أن ذلك يشمل الحر والرقيق انظر : (حاشية الدسوقي 3: 301). وقد اغتر الشيخ الفاضل بكلام ابن جزي والواقع أن ابن جزي إنما يقصد أن الرقيق يسلم إلى أولياء المجني عليه بعد ثبوت الجناية عند القاضي ويكون هذا التسليم على يد القاضي حيث يخير المجني عليه بين القود أو استبقاء الرقيق وتملكه وقد جاء بهذه العبارة تأكيدا على تمحض الخيار لولي الدم قال البرادعي: " قال مالك - رحمه الله - : ويقتل العبد بالحر إن شاء الولي قتله، فإن استحياه خُيّر سيده فإما أسلمه أو فداه بدية الحر"( التهذيب 4\ 208) فتسليم الرقيق إنما يكون بعد ثبوت الجناية واختيار المجني عليه تملكه كما هو واضح من هذه النصوص .

وكنا نربأ بالشيخ الدكتور عن مثل هذه الخطوات الاستعجالية فإن شأن مثله التثبت وعدم التسرع والتقحم على إصدار الأحكام المجانية خصوصا في مثل هذه التهم الخطيرة الموجهة إلى علماء الأمة فإنه لا ينبغي التساهل في إثباتها بغير دليل قال تعلى (فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) سورة الحجرات الآية 6.

تمييز الفقهاء بين الأحرار والأرقاء عملا بالأدلة ولطفا بالأرقاء

عاب الشيخ محمد على الفقهاء تفريقهم بين الأحرار والعبيد في بعض الأحكام واعتبرهم بذلك دعاة تمييز والواقع أن نصوص الشريعة هي التي شرعت التفريق بين الأحرار والعبيد في بعض الأحكام من أجل تحقيق المصلحة وإيتاء كل ذي حق حقه والله يعلم وأنتم لا تعلمون ...

إن معظم هذه الأحكام مشروعة للتخفيف على الرقيق وإراحته من المشقة التي تلحقه في بعض التكاليف أو تحقيق ولاية السيد عليه والتي هي جزء من مفهوم العبودية في العالم القديم والرق كما معلوم عجز حكمي وحالة استثنائية تترتب عليها أحكام استثنائية...

ومن هنا جاء الخطأ الذي يقع فيه بعض الباحثين فهم دائما لا ينظرون إلى ملابسات وأحوال العالم القديم ويحاكمونه انطلاقا من أفكار وأحكام نضجت في العصر الحديث وبعد اختفاء ظاهرة العبودية ولا يخفى خطأ هذا التصور .

إن تمييز الفقهاء بين الأحرار والأرقاء كثيرا ما يكون لصالح الرقيق رحمة ولطفا فقد جعل الله سبحانه الحد المترتب بالرقيق في الزنا على النصف من حد الحر قال تعلى (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) (النساء 12), وأسقط العلماء عن الرقيق المحصن حد الرجم , وجعلوا عليه نصف ما على الحر في حد القذف وحد السكر أي 40 جلدة في مقابل 80 على الحر, وأسقطوا عنه بعض العبادات المالية كالزكاة والحج والجهاد , وحتى في القصاص فإن هذا التمييز قد يكون في صالح الرقيق فإذا جنى الرقيق على الحر فيما دون النفس لم يقتص له منه عند مالك وغيره مع أن عموم الآية الكريمة يقتضي خلاف ذلك قال تعلى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ...) المائدة 84 ، ولكن رأى الفقهاء إخراجه منها وهذا يؤكد ما سنذكره من أن تمييز الفقهاء بين الأحرار والعبيد إنما هو التزام بمقتضيات الأدلة .
كما أثبت الفقهاء - وخصوصا المالكية- حق الملكية للرقيق وأباحوا له نكاح أربع نسوة وجعلوا طلاقه بيده إلى غير ذلك ...

لقد تجاهل الشيخ محمد أدلة الفقهاء على التمييز بين الأحرار والأرقاء وسرد عددا من الآيات القرآنية قال إن الفقهاء رفضوا العمل بها وكان الأليق به أن يذكر على الأقل أدلة هؤلاء الفقهاء التي رجحوا بها مذهبهم وخصصوا بها تلك النصوص كما هو أدنى مقتضيات " المنهج العلمي " الذي عودنا عليه دائما لكنه تشاغل عن ذلك بتوزيع التهم الجزافية وهو أمر لا يحسن من مثله .

وسنقدم للقارئ بعض أدلة الفقهاء التي تركوا بمقتضاها العمل بعموم النصوص واعتبروها مبينة لخروج الأرقاء منها وذلك على النحو التالي :

1- قوله تعلى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) خرج منه الرقيق بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ" روي من طرق عديدة كلها ضعيفة لكن يقوي بعضها بعضا ولهذا رمز السيوطي له بالحسن (الجامع الصغير حديث رقم 9982) وقال الشوكاني: " قد روي من طرق متعددة يقوى بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج( نيل الأوطار7: 97 )وروي هذا المذهب عن الخلفاء الأربعة وهم القوم يقتدى بهم [مصنف ابن أبي شيبة 5 / 413] ومع ذلك فقد تمسك الحنفية وجماعة من العلماء بعموم القصاص بين الحر والعبد ولهم في ذلك أدلة كثيرة منها حديث (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم) رواه أبو داوود والنسائي ولاشك أن أدلتهم في ذلك قوية جدا .
2- حديث (من قتل عبده قتلناه و من جدع عبده جدعناه )رواه النسائي وأبو داوود عن الحسن عن سمرة مرفوعا , لكن ترك جمهور العلماء العمل به لاعتقادهم أنه ضعيف الإسناد لأن الحسن لم يسمع من سمرة عندهم وقد ضعفه الألباني ( ضعيف ابي داوود " 1\ 452) واستنكر تصحيح الذهبي له (صحيح أبي داوود 2: 188) بينما أخذ به من رجح صحته ومنهم إبراهيم النخعي والإمام البخاري وعلي بن المديني( تفسير القرطبي 2\ 249) مع أنه قد عارضه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به" رواه ابن ماجة وغيره وقد ضعفه بعضهم لكن قواه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ( أضواء البيان 1\ 388) وأشار إلى أنه لا يقصر عن رتبة الحسن , ومسألة نفي القود بين الرقيق وسيده مثل نفي قود الوالد إذا قتل ولده كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال به جمهور العلماء وذلك أنه قتله له محمول على الخطأ والتأديب كما هو الغالب فيه فكذلك قتل السيد رقيقه .
3- قوله تعلى (مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أخرج منه العلماء الرقيق فليس في قتله إلا القيمة عملا بعدة أدلة من أصحها حديث ابن عباس قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكاتب يودى بقدر ما أدى من مكاتبته دية الحر وما بقي دية العبد"رواه النسائي والإمام أحمد في المسند وصححه الألباني ( صحيح الجامع رقم 3396 ) .
4- قوله تعلى (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (النساء الآية 25),ظاهر هذه الآية أن الأمة أحق بمهرها من سيدها وقد قال بذلك مالك في أصح الروايتين عنه وقال الشافعي : إن السيد أحق به اعتمادا على أصله في أن الرقيق لا يملك وقد تجاهل الشيخ محمد هذا الخلاف ونسب إلى الفقهاء جميعا أنهم قالوا إن السيد أحق بمهرها وهو خطأ لا يليق بمثله .
5- قوله تعلى (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) قال الشيخ الطاهر بن عاشور: " صيغة الأمر في هذه الآية مجملة تحتمل الوجوب والندب بحسب ما يعرض من حال المأمور بإنكاحهم: فإن كانوا مظنة الوقوع في مضار في الدين أو الدنيا كان إنكاحهم واجبا، وإن لم يكونوا كذلك فعند مالك وأبي حنيفة إنكاحهم مستحب. وقال الشافعي: لا يندب، وحمل الأمر عل الإباحة، وهو محمل ضعيف في مثل هذا المقام إذ ليس المقام مظنة تردد في إباحة تزويجهم" (ابن عاشور: التحرير والتنوير 18/215) ومع هذا فإن الشيخ محمد_ عافنا الله وإياه _ قد تحامل على الفقهاء ونسب لهم ما لم يقولوه فقال: " إن جمهور الفقهاء –بمن فيهم المالكية- حملوا الأمر هنا على الندب أو الإباحة، لا على الوجوب، فجعلوا معنى الآية أن السيد يجوز له الإذن لعبده في الزواج" ثم ساق آخر كلام ابن عاشور المتقدم من قوله " وهو ضعيف " إلخ ... والمعروف عند المالكية أنه يجب على السيد تزويج العبد في حال تضرره من عدم الزواج ويندب في ما عدى ذلك بل إن السيد يجبر على تزويج العبد في حال تضرره على الراجح عند المالكية ( مواهب الجليل للحطاب 5\51) فما نسبه إليهم الشيخ خطأ والغريب أنه أعرض عن أول كلام ابن عاشور الذي فيه التنصيص على مذهب المالكية في المسألة ونقل آخره فقط ولو رفع بصره لما وقع له هذا :
إذا محاسني الّلاتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر .

لقد رأينا من خلال هذا العرض أن الفقهاء إنما أعرضوا عن هذه العمومات _ إلي أوردها الشيخ الفاضل _ عملا بأدلة خاصة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو مفهومة من مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية ولا خلاف بين علماء الإسلام في حمل العام على الخاص وهي قاعدة لغوية وضرورة من ضرورات التخاطب متعارف عليها في جميع اللغات كما يعلمه الشيخ الكريم. وقد قال الإمام الشاطبي: " إن من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل: هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس، بأن يكون النص مقيدا فيطلق، أو خاصا فيعم بالرأي من غير دليل سواه؛ فإن هذا المسلك رمي في عماية، واتباع للهوى في الدليل، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد، فإذا قيد؛ صار واضحا"(الاعتصام1245والموافقات3/ 312) .
لقد جاء عمل الفقهاء بهذه الأدلة الخاصة التزاما بالضوابط المنهجية التي قررها علماء " أصول الفقه" والتي هي معيار الفهم والاستنباط وقانون الدلالة والاحتجاج وهي قواعد لغوية وأوضاع شرعية شبه قطعية في معظمها ولا يمكن الاستغناء عنها .
ومع هذا فلا ننكر رجحان المساواة بين الحر والرقيق فيما لم يثبت فيه تمييز صريح كما هو المفهوم من أدلة الشريعة ومقاصدها العامة وكثير من هذه المسائل محل خلاف غير محسوم بين فقهاء الإسلام وقد ذهب الظاهرية إلى مساواة الرقيق للحر في معظم أحكامه ومعروف أن اختلاف الفقهاء رحمة ومظهر من مظاهر الجمال والمرونة في الشريعة الإسلامية .
وقد تكون هنالك اجتهادات وأحكام مولدة بعد عصور الاجتهاد يقع فيها بعض المبالغة في هذا الشأن عن حسن قصد ونتيجة فهم قاصر لكن الخطأ الشنيع في التعميم والاتهام الباطل .
وعزاؤنا بعد هذا كله ما نعلمه من صدق نية الشيخ الفاضل وإخلاصه وبلائه دائما في الدفاع عن القضايا الإسلامية فهو كما قال الشيخ أبو الطيب - طيب الله ثراه- :
فَإِن يَكُنِ الفِعلُ الَّذي ساءَ واحِداً فَأَفعالُهُ اللائي سَرَرنَ أُلوفُ


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!