التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:17:42 غرينتش


تاريخ الإضافة : 29.07.2008 13:13:04

المطلوب حل الأزمة السياسية الراهنة على قاعدة: موريتانيا أولا

ديدي ولد بوه
بعد متابعة متأنية لتفاعلات الأزمة السياسية التي تعيش البلاد على إيقاعها منذ بعض الوقت لم أجد بدا من الإعراب عن رأيي حول هذا الموضوع وتسجيله، عسى أن أتمكن من إثارة نقاش سياسي وطني هادئ ومتوازن يوقظ الضمير الوطني لدى كافة الأطراف المعنية حتى تصغي إلى صوت العقل وتتداعى جميعا من خلال الحوار والتلاقح الفكري إلى بلورة تفاهمات سياسية جادة على قاعدة المصلحة العليا لموريتانيا أولا.
ومن جهة أخرى أنوه ابتداء بأنني لا أنتمي لأي حزب سياسي ولا أحبذ التخندق مع أي طرف لما يكتسيه ذلك من تحريض على إذكاء شرارة الاختلاف وما يترتب عليه من عواقب وخيمة تجعل الشعب الموريتاني برمته الخاسر الوحيد.
ولولا أنني على قناعة تامة بوجود نية صادقة لدى بعض الأطراف تمنحهم القدرة على تجاوز مخلفات حملات التسميم والإساءة التي تقوم بها أطراف عرفت على الدوام بالاصطياد في الماء العكر والتسلل تحت جنح الظلام لزرع بذور الفتنة وإذكاء الصراعات.
تلك أسباب دفعتني للتعبير عن رؤيتي لأهم ما يدور الحديث حوله هذه الأيام من سجال سياسي لا يخلو من حدة تنذر بخطر انزلاق إن لم يتم تدارك الموقف قبل وصوله إلى نقطة اللا عودة؛ وهو ما يتطلب من اللاعبين الأساسيين مزيدا من المرونة والتوازن تستدعيهما دقة الظرفية وحساسية الوضع الحالي.. إذ لا يخفى على من يراقب المشهد السياسي الوطني الجو الضبابي الذي يخيم على الرأي العام المشحون بالشائعات المتضاربة التي يروج لها أنصار الفرقاء المختلفين على حين غفلة من هؤلاء؛ وهو ما جعل الطبقة السياسية الوطنية تعيش ارتباكا عاما غير مسبوق في التاريخ السياسي للبلاد.
وحتى يدرك الجميع في هذا الخضم أن مصير البلاد مرهون بإيجاد مخرج من الأزمة لا غالب فيه ولا مغلوب يكرس سيادة المؤسسات الجمهورية سبيلا إلى توطيد دعائم الاستقرار الوطني الذي لا تخفى هشاشته على المراقب المتتبع لمسيرة البلاد عبر محطاتها التاريخية المختلفة بالنظر إلى حداثة عهد الشعب الموريتاني بالدولة الوطنية.
ومحاولة لاستكشاف ظروف الأزمة لا بد من إلقاء نظرة خاطفة على مختلف هذه المحطات لعل في ذلك إسهاما في التعرف على جذور وأسباب الأزمة الراهنة؛ مما يتيح تشخيصها وتحليلها. وبهذا الخصوص يمكن تقسيم المسار السياسي للبلد والأنظمة التي تعاقبت على حكمه منذ فجر الاستقلال إلى الآن إلى ثلاث مراحل رئيسية:


أولا: من الاستقلال إلى سنة 1978



يمكن أن توصف هذه المرحلة من التاريخ السياسي للبلاد بأنها فترة تأسيس الدولة الوطنية؛ وهو ما جعل جميع الموريتانيين يجمعون على اعتبارها فترة استقرار سياسي كبير؛
حيث نجح الرئيس الراحل المرحوم المختار ولد داداه -فعلا- في إرساء أسس قوية للدولة الفتية على اعتبار العوامل التالية:
- الانعدام التام للموارد البشرية والمادية الضرورية لتأسيس الدولة بفعل عزوف المستعمر الفرنسي عن تعمير البلاد على غرار ما فعل مع جاراتها من مستعمراته المفضلة؛ ويرجع ذلك إلى ما لاقاه من رفض الموريتانيين الانقياد له.
- ترامي أطراف البلاد واتساع رقعتها الترابية وتوزعها بين مجموعات قبلية وعرقية قاسمها المشترك البداوة والنزوع إلى الاستقلالية عن السلطة المركزية؛ فضلا عما اتسمت به تلك الفترة من تخلف وضعف في وسائل الاتصال.

ثانيا: من 1978 إلى 2007


وغني عن القول إن القاسم المشترك لهذه الحقبة السياسية من تاريخ البلاد هو وجود رؤساء ينتمون إلى المؤسسة العسكرية على رأس هرم السلطة؛ وهو ما جعل المراقبين
السياسيين يطلقون عليها فترة العهد الاستثنائي على الرغم من بعض المحاولات المتفاوتة التي تخللتها لإضفاء طابع دستوري عليها.

ثالثا: من 19 إبريل 2007 حتى اليوم




حيث دخلت البلاد حقبة سياسية جديدة بكل المقاييس؛ طابعها البارز ظهور مؤسسات دستورية منتخبة ديمقراطيا بشكل نال رضا كافة الفرقاء السياسيين المحليين والشركاء الخارجيين؛ وهو ما جعل الموريتانيين يعتزون بوجود أول رئيس مدني منتخب منذ زهاء ثلاثين سنة؛ مسجلين بنفس الحماس ارتياحهم للإشراف النزيه والحيادي والروح الوطنية العالية التي تحلت بها مؤسستنا العسكرية؛ وهي تسلم السلطة طواعية إلى الشعب الموريتاني في مشهد نادر الحدوث في عالمنا العربي والإفريقي إذا استثنينا تجربتي جمهوريتي السودان ومالي.
بعد هذه الإطلالة التاريخية الخاطفة على مسار الحكم السياسي للدولة الموريتانية نلج إلى موضوع الأزمة السياسية الراهنة؛ محاولين استكشاف أسبابها واستقراء تداعياتها ومآلاتها..


أهم أسباب الأزمة الراهنة:


ترجع الأزمة السياسية الراهنة التي تعيشها البلاد -كما أشار إلى ذلك زعيم المعارضة الديمقراطية في مقابلته الأخيرة مع صحيفة "الفجر"- إلى تراكمات عديدة نوردها مجملة هنا؛ إذ لا يتسع المقام لذكرها بالتفصيل:
- تراجع النظام الحالي عن المطلب الأكثر إلحاحا لدى الشعب الموريتاني؛ المتمثل في التغيير الذي صوتت لصالحه نسبة 76% من الموريتانيين خلال الشوط الأول من الانتخابات الرئاسية (2007) أي ما نسبته 3 أشخاص من كل أربعة! رغم ما تعهد به رئيس الجمهورية في خطاب التنصيب من إجراء تغيير هادئ وعميق.
- إصرار معظم الفاعلين السياسيين على الإبقاء على التجاذب الحاد بين طرفي الثنائية القطبية القديمة -ممثلة في المعارضة والموالاة التقليديتين- من أجل إيصاد الباب في وجه تشكل خارطة سياسية جديدة تقلب صفحة الماضي وتفتح صفحة المستقبل المنشود.
- هشاشة الأغلبية الرئاسية الحالية التي لا تمثل إلا نسبة 52% من أصوات الشعب الموريتاني؛ وهو رقم له دلالته العميقة نظرا لضآلة الفارق.
- غياب إطار حزبي يجمع أغلب أنصار الرئيس المنتخب بفعل استشراء ظاهرة الاستقلالية التي خلفت وراءها ضعفا شديدا للأطر الحزبية وقوت سيطرة القوى التقليدية بشكل بارز؛ مما جعل المشهد السياسي مضطربا وغير مستقر..
- سيطرة التفاهمات السياسية الهادفة إلى تقاسم السلطة بين الرئيس الحالي والمتحالفين معه من الفاعلين السياسيين؛ وهو ما ألقى بظلاله على الجهاز الإداري للدولة.
- ظهور أزيد من عشرين تشكلة سياسية حزبية خلال الفترة التي تلت تنصيب رئيس الجمهورية؛ الشيء الذي انجر عنه مزيد من التشعب والتشرذم السياسي.
- إصابة المواطنين بخيبة أمل نتيجة ضعف أداء الحكومة الأولى خلال عهد الرئيس الحالي، بعد اكتشافهم في نهاية المطاف أنها كانت أقرب إلى الاستعانة بخدمات خبير استشاري محلي لإدارة مقاليد الدولة؛ وهو ما جعلها تعيش بين ركام الملفات المتشعبة بعيدا عن تلبية المطالب الملحة للناخب الموريتاني الذي علق آمالا جساما على تجسيدها للبرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية.
- شهدت السنة الأولى من حكم الرئيس الحالي أزمات حادة ليس أقلها شأنا ملف المخدرات والانفلات الأمني وغلاء الأسعار..
أدت هذه الأسباب وغيرها إلى إقالة الرئيس لحكومته الأولى بعد انقضاء سنة من عملها، وسط آمال بتشكيل حكومة بديلة تدفع عجلة التنمية نحو الأمام، وتتصدى لحل الأزمات التي تتعرض لها البلاد؛ لكن سرعان ما أزيح الستار عن التشكلة الحكومية التي كانت القطرة التي أفاضت الكأس.. إلى أن انبرت مجموعة من ممثلي الأمة في غرفتي البرلمان منادية بتصحيح الأوضاع في سابقة من نوعها تعكس فهما عميقا من قبل البرلمانيين لدورهم في الرقابة على السلطة التنفيذية؛ قاطعين بذلك خطوة جبارة على طريق تعزيز دولة المؤسسات وتوطيد الديمقراطية.. وهو ما أعطى صورة رائعة لديمقراطيتنا كان على الحكومة أن تستغلها لكسب مزيد من المصداقية داخليا وخارجيا.
وبدلا من ذلك استشاط بعض السياسيين غضبا من هذه الخطوة التي قزمتهم وأظهرت ضعف قوتهم وقلة حيلتهم، فلم يجدوا من وسيلة رد إلا الهجوم على المؤسسة العسكرية ورموزها من خلال حملة دعائية رخيصة لم يلبث الشعب الموريتاني أن اكتشف زيفها؛ مما جعله يهب في وثبة وطنية كبرى شملت كافة ألوان الطيف السياسي، ملتفا حول البرلمانيين. والمفارقة الغريبة أن السياسيين الذين سعوا إلى عرقلة سير المؤسسات الدستورية لم يجف حبرهم من التحذير من أخطار التراجع عن خيار التغيير محذرين من مغبة الرجوع بالبلاد إلى المربع الأول.
وهو ما دعاني إلى مخاطبة الرأي العام الوطني بغية توضيح جملة من الأمور:
أطالب الشعب الموريتاني بالتحلي باليقظة وإسماع صوته للاعبين السياسيين لإشعارهم أنه لم يعد يقبل التهميش والترقيع وأنصاف الحلول.. بل أصبح يتوق إلى مستقبل وضاء يطبعه الإصلاح والتغيير؛ إنه يريد حكاما في خدمته ومرفقا عموميا في متناوله، ولا يرضى أن يظل كما يقول مع الشاعر:


ويقضى الأمر حين تغيب تيم

ولا يستأمرون وهم شهود!



إن الشعب الموريتاني ينتظر أفعالا لا أقوالا، من أجل القضاء على الفساد والمحسوبية؛ بغية الاستفادة من خدمات المرفق العمومي.
أطالب طبقتنا السياسية التقليدية -وخاصة حرسها القديم- بقدر من الإنصاف، وأن يفهموا أن عصر دولة الامتيازات السخية قد ولى إلى غير رجعة وفعلوا فيه فعلتهم التي فعلوا -دون حياء- فاحتكروا المناصب الحكومية السامية لعشرات السنين، وأضافوا إليها الوظائف السياسية والانتخابية، وتكديس الأموال الطائلة، وبناء العمارات الشاهقة، واقتناء السيارات الفارهة، بعدد نسائهم وأولادهم.. على حساب توصيل الخدمات العمومية المسندة إليهم إلى مستحقيها من عامة الشعب الذين يتكدسون منذ سنوات عديدة في الأحياء العشوائية و"آدوابه" والأرياف؛ مفتقرين لأبسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة؛ وذلك -لعمري- أبرز تجليات تلاشي منظومتنا القيمية. وليسع الأكفاء من بين هؤلاء أن يغادروا إلى ميادين عطاءات أخرى مثل العمل الجمعوي وفتح مكاتب الخبرة، والعمل لدى المنظمات الإقليمية والدولية.. أما من لم يحالفهم الحظ أصلا في إكمال تعليمهم النظامي من أصحاب المستويات التعليمية الابتدائية والثانوية، فعليهم أن يستتروا بستر الله وأن يفهموا أن الوقت لم يعد مناسبا لشغلهم للمناصب السامية في وقت تعج فيه إدارتنا العمومية بخبرات وكفاءات مهمشة في مختلف التخصصات؛ فضلا عن آلاف الخريجين من حملة الشهادات العالية العاطلين عن العمل؛ أما زعماء التنظيمات الأيديولوجية التي لم يعد لها وجود في بلاد النشأة فعليهم أن يتواروا عن الأنظار تفاديا للإحراج.
أطالب منتخبي الشعب -وخاصة البرلمانيين- منهم بتحمل مسؤولياتهم الدستورية في سن القوانين والتشريعات ومراقبة عمل السلطة التنفيذية؛ تعزيزا لدولة المؤسسات وحماية للمكتسبات الديمقراطية والتصدي لكل من يريدون لبرلماننا أن يظل غرفة تسجيل صورية.
أما زعيم المعارضة الديمقراطية فهو مطالب بالمساهمة في حلحلة الأزمة ودفع عجلة التشاور الوطني في الاتجاه الذي يحقق آمال المواطن ويحد من آلامه المزمنة.. لما يتحلى به على الدوام من حرص على استقرار البلاد في أحلك الظروف، كما جسدته مسيرته النضالية السلمية الطويلة.
أما المؤسسة العسكرية التي تم استهدافها في الآونة الأخيرة من خلال حملات إعلامية رخيصة في الصالونات وعلى صفحات الجرائد والمواقع الألكترونية والقنوات الفضائية، فيجب النأي بها عن السجال السياسي الدائر الآن؛ على اعتبار أنها حامية استقرار الوطن وأمنه الذي تتجاذبه المطامع من كل جانب واستهدافها خطر على كيان الدولة وحوزتها الترابية ووحدتها الوطنية؛ وهو ما لا يخدم أي مواطن موريتاني مهما كان انتماؤه السياسي، وليجد الراغبون في استعطاف مجموعات متطرفة ميدانا آخر للمزايدة السياسية والمساومة غير هذا الميدان، وليسلكوا طرقا أخرى لزيادة شعبيتهم دون استغلال ما يسمونه ملف الإرث الإنساني لتفكيك المؤسسة العسكرية وإضعافها، وليكونوا على علم أن ذلك خط أحمر بإجماع كافة الموريتانيين؛ وما نؤكد عليه هنا هو أن تهميش المؤسسة العسكرية عن تسيير الشأن العام يتناقض مع المصالح العليا للأمة.
أما رئيس الجمهورية فإنه المسؤول الأول عن مصير البلاد، وما قد تؤول إليه الأوضاع بفعل تداعيات الأزمة الراهنة بمقتضى العهدة الانتخابية التي تربطه بالشعب الموريتاني كله، بوصفه الضامن للسير المطرد للمؤسسات الدستورية الساهر على حماية المصالح العليا للأمة.. وهو ما يحتم عليه أخذ زمام المبادرة لتسوية الأوضاع عن طريق الحوار والتشاور كما وعد بذلك في خطابه حول الأزمة.
ويسجل بعض المراقبين تقاعسه عن الاضطلاع بدوره في حل الأزمة وتفويضه لمقربيه وأنصاره من حزب "عادل" للتحرك باسمه في حل الأزمة التي لم يعد خافيا تفاقمها يوما بعد يوم..
ويرى آخرون أن سفره -للمرة الثالثة- خارج البلاد في أتون الأزمة يعطي الانطباع بعدم الاكتراث بما يجري على الساحة الوطنية؛ محذرين من إصغاء الرئيس لإملاءات الطبقة السياسية التقليدية المكونة -في الغالب- من النهابين والانتهازيين الذين لا يهمهم في نهاية المطاف إلا مصالحهم الضيقة؛ وهو ما جعلهم يفلحون دائما في الإيقاع بالرؤساء السابقين.. أجار الله رئيسنا من مكرهم.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!