التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:08:48 غرينتش


تاريخ الإضافة : 27.06.2012 16:31:55

السلفية في تونس.. ومن شدة الاعتدال التطرف؟

الأستاذ المختار ولد نافع

الأستاذ المختار ولد نافع

يثير الحضور المتزايد للتيار السلفي في تونس، والذي يأخذ أحيانا طابعا يوصف بالتطرف، تساؤلات عن الأسباب الموضوعية لهذا الحضور، الذي يخشى البعض أن يبلغ درجة وصول القاعدة لتونس (على خلفية اكتشاف الجيش التونسي لمخيم القاعدة في صحراء تطاوين جنوب البلاد الخميس الماضي وقصفه) وهي البلد الذي يفترض أن لا تصله لأسباب مختلفة؛ ليس أقلها كون البلد منطلق الثورات العربية التي يؤمل أن تكون متنفسا يحول بين شباب الأمة وبين العمل القائم على منطق العنف والفكر المائل عن جادة التوسط.

ولئن كان التوجه السائد هو تفسير هذا الحضور السلفي بأسباب سياسية خارجية (دور فلول بن علي في استفزاز السلفيين) أو أسباب ذاتية (ثقافية واجتماعية) تدفع هذا التيار للتشدد، فإن هنالك أسبابا أخرى تفسر بروز التيارات السلفية في التجربة التونسية حري ببعض أطراف العمل الإسلامي في هذا البلد وبلدان أخرى أن يتنبهوا لها.

نتحدث هنا بشكل محدد عن الطريقة التي تعاملت بها حركة النهضة مع الضغط العلماني، خاصة المتطرف، في موضوع الهوية؛ فلئن كان تحالف الاعتدال بشقيه الإسلامي والعلماني قد جنب تونس الاصطفاف السياسي والإيديولوجي بين الأغلبية العامة من فاعلي المشهد الثقافي في البلد فإن كون بعض متطلبات هذا التحالف جاء استجابة لمتطرفي العلمانيين أكثر مما هو استجابة حتى لمعتدليهم كان لا بد أن يودي إلى بروز امتعاض في الساحة الإسلامية قد يصل إلى إفراز تطرف إسلامي في البلد الذي يتوفر على عوامل الاعتدال تاريخيا وثقافيا وحتى مناخيا.

ولعل المثال الأبرز لذلك هو الخلاف الذي ثار حول المكانة التي ينبغي أن تنالها الشريعة في نص الدستور فقد وقف متطرفو العلمانيين ضد النص على أنها المصدر الأساسي للتشريع- كما هو واقع في كل البلاد العربية- والاكتفاء بما كان في دستور بورقيبة من أن الإسلام دين الدولة، وهو ما استجاب لهم فيه طرفا الاعتدال الإسلامي والعلماني في النهاية، وبررا ذلك بأنه سعي وراء الدستور التوافقي ووحدة المجتمع، ولكن الواقع أن هذا النص لا يعكس توافقية المجتمع على دستوره؛ إذ أن أطرافا كثيرة في المجتمع التونسي لا تعتبر هذا النص كافيا ومنها أجنحة في النهضة وربما حتى في العلمانيين المعتدلين والقوميين العروبيين، وليس فقط التيار الإسلامي المتطرف الذي ربما يكون مصنفا في المخيال السياسي خارج المجتمع!!.

لا ننكر هنا -أبدا- فضل مرونة التجربة التونسية وتجاوزها بتونس للاستقطاب الإسلامي العلماني ولكن أيضا لا بد من التنبيه إلى أن ذلك له آثار منها ما هو متعلق بالهوية والخدش فيها ومنه ما هو متعلق ببروز الاستقطاب بين الإسلاميين أنفسهم بتحويلهم إلى "دعاة هوية" و"ساسة مصالح" وهو أمر يفسح مجالا لأصحاب الاتجاهات السلفية داخل الطرح الإسلامي، ولئن كان ذلك قد يكون لصالح معتدلي السلفية- وهو أمر محمود عند كل من لا تشغله الحزبية الضيقة عن مصلحة الإسلام الواسعة- إلا أنه قد يكون لصالح الاتجاهات المتطرفة في السلفية، و ذلك –في نظرنا- أبرز ما يفسر "مفارقات السلفية التونسية" من "مفارقة النشأة" التي تعرضنا لها سابقا إلى "مفارقة التوقيت" التي نشير لها سريعا.

ففي نفس الوقت الذي تتجه فيه التنظيمات السلفية التي خاضت تجربة العنف في بلاد أخرى إلى الاعتدال يتجه سلفيو تونس نحو التطرف، وربما يكون ذلك لأن تونس لم تصب بهذا الداء سابقا حتى تكتسب مناعة ضده.

ومرة أخرى قد يفسر البعض هذا بدواع سياسية بعضها متعلق باستفزاز فلول النظام السابق أو حتى استفزاز العلمانيين المتطرفين الذين لفظتهم صناديق الاقتراع للسلفيين (الإشارة هنا: إلى الأعمال الفنية والتصريحات التي تمس من المقدسات) أو من قبيل أنه من "مظاهر النشوة" التي تعيشها القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على إثر المتغيرات الكبرى في الإقليم ومن أبرزها سقوط نظام القذافي وتناثر "محتويات كنانته" وتقطع "حبائل علاقاته".

ولكن كل ذلك لا ينبغي أن يلغي احتمال تأثير تجربة النهضة السياسية والفكرية في موضوع الهوية والاتجاه الإسلامي الذي يتبنونه المتجه لنواحي المصلحة أكثر، والذي يتطلب وقفة مراجعة بعد إنجازاته الإيجابية وتأثيراته السلبية.

فلا ريب أن هذا الاتجاه استفاد منه الإسلاميون في تونس وحول العالم كثيرا وكان سباقا إلى ترسيخ مبادئ في غاية الأهمية في الفكر الإسلامي منها مصالحته مع الحريات العامة وحقوق الناس، ومنها الاهتمام بصالح المجتمع وخدمته و"الاندماج الشعوري" فيه، و يعود له جزء كبير من الدور في الخط الإصلاحي –أو المصلحي- التي تبلور لدى حركات إسلامية عدة أبرزها التجربة التركية وذلك بما سطره مفكرو النهضة من تأصيل وتفصيل لهذا الخط (لا يقتصر الأمر على شيخ النهضة ومفكرها الأشهر الشيخ راشد الغنوشي، بل يمكن التذكير بأسماء كبيرة أخرى مثل عبد المجيد النجار وأبو يعرب المرزوقي وغيرهم).

لكن هذا الاتجاه كانت عليه –ككل رؤية بشرية- بعض الملاحظات، منها مكانة الهوية داخلها، خاصة في مجتمع يغزوه التطرف العلماني ويصل الأمر ببعض ناشطيه لحد رفع شعار "لا للشريعة" (استقبلت بعض الناشطات من الاتجاه النسوي الشيخ العنوشي في المطار عند عودته لتونس بلافتة كتبت عليها هذه العبارة).

فالعادي أنه في الدول التي تبتلى بالتطرف العلماني الشرس يتجه التيار الإسلامي لحماية الثوابت باعتبارها واجب الوقت و تحدي الساعة حتى إذا فاء العلمانيون للاعتدال وبدأت تغزو خطاباتهم خيوط الهوية ترى الإسلاميين يتجهون للتخفيف من خطاب الهوية، لصالح خطاب البرامج.

لكن ما وقع في تونس كان فريدا ففي الوقت الذي نشأت الدولة على التطرف العلماني كسياسة ورؤية فكرية جُندت لها الدولة وخدمها الحكام حتى أحيانا أكثر مما خدموا أنفسهم (بورقيبة) نشأت الحركة الإسلامية متخففة من خطاب الهوية وظل خطها العام سائرا في ذلك الاتجاه، وهو أمر لا شك سيكون له تداعياته لأن أبسط آثاره انه يودي إلى خروج مرتكزات هذا الخطاب من "التداول الثقافي العام"، وبالتالي نشوء جيل يعاني من "شبه عرج" في توازنه الثقافي بين الثقافة الشرعية والثقافة الواقعية (قد نعود لمزيد التوضيح لهذه النقطة)

وقد يفسر هذه المفارقة أن النهضة منذ نشأتها كانت تحاور –بالمعنى الفكري والسياسي- أطرافا مختلفة ما بين الليبرالي واليساري والعروبي وكل منهم له حروبه الفكرية في مجتمع ترتفع فيه نسبة التعلم ويتشابك بشكل مستمر مع الثقافة العربية بتالدها المحلي ورافدها المشرقي، بالإضافة لوافد الثقافة الغربية وخاصة الفرنسية التي تعد في تونس شبه ثقافة محلية.

وقد كان موضوع الهوية ضمن المجالات التي طالها هذا الحوار (من أمثلة ذلك كتاب المفكر الحضاري وأحد نواب النهضة في البرلمان الحالي الدكتور عبد المجيد النجار عن "صراع الهوية في تونس" الصادر في نهاية الثمانينات) وطبيعي في المحاورات الكبرى أن تكون هنالك لصوقات تبقى مع المحاور (كما قال القاضي أبو بكر بن العربي عن الإمام الغزالي من أنه "دخل في جوف الفلسفة ولم يستطع الخروج منه") وهو أمر كان تجليه في تجربة النهضة: الرؤية التي أصدرتها مع بعض الأحزاب العلمانية التونسية بعنوان "طريقنا إلى الديمقراطية" سنة 2010 وتضمنت قواسم مشتركة في مواضيع المساواة بين الجنسين وحرية المعتقد والضمير وعلاقة الدين بالدولة فى مجتمع مسلم ديمقراطى (يُقرأ مقالا فهمي هويدي في الشروق المصرية بعنوان: تقرير من تونس، ودروس تونسية في قراءة الحالة المصرية).

وفي التذكير بهذه المسألة إنصاف للنهضة ودحض لما يقال من أن سبب الاتجاه الفكري لها هو تجربة الاغتراب المكاني والسياسي الذي عاشته في أوربا، ففي هذا القول إغفال لكون مسار النهضة مسار "طبيعي" فرضته خصوصية التجربة التونسية، في موضوعة العلمانية والإسلام، والطريقة التي أدارت بها الدولة من ناحية، والفاعلين الفكريين والسياسيين من ناحية أخرى، العلاقة بين طرفي هذه الموضوعة مما لا يحتاج إلى تذكير.

هي إذن تجربة محكومة بسياقها التاريخي والسياسي والثقافي الذي طبع التجربة التونسية الحديثة تفهم خلاله دون أن يحول ذلك دون محاكمتها على ضوء ما تصل إليه من نتائج سلبا وإيجابا لأن في ذلك تقويما للاتجاه الإسلامي الذي تنتمي إليه (الذي يمكن تسميته بالإخوانية المحدثة) وفي نقد هذا الاتجاه موازنة للنقد الذي يوجه للتيار الآخر (الإخوانية الكلاسيكية) حتى يكمل نقدَ تجارب الصلابة الإسلامية نقدُ تجارب المرونة خاصة بعد تمكن الاتجاهين من الوصول للحكم مع نجاح مرشح الإخوان المسلمين في مصر الدكتور محمد مرسي في سباق الرئاسة، وهي مناسبة تتطلب إعادة طرح لمواقف الإسلاميين الفكرية والعملية من ما سمي بخطاب الهوية وخطاب البرامج أو ما أطلق عليه في مرحلة سابقة العلاقة بين الدعوي والسياسي، ونأمل أن نتمكن قريبا من التذكير في مقال نعمل عليه الآن بعناوين هذا التباين في المواقف والتجارب، عسى الله أن ييسر ما هو أكثر من مجرد التذكير، وهو المستعان وعليه التكلان.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!