التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:17:26 غرينتش


تاريخ الإضافة : 30.07.2008 21:58:29

الجيش والسياسة والسلطة


محمد ولد عبد القادر قانوني وكاتب صحفي
6660344 [email protected]

منعاً للالتباس أو سوء الفهم، نؤكد في البداية على بعض الأمور:
أولاً: ليس موضوع هذا المقال الحديث عن دور المؤسسة العسكرية في حراسة الوطن وحماية أمنه الوطني، لأنه دور مقدس ومحط إجماع من قبل الجميع، وإنما موضوعه علاقة بعض قادة العسكر بالسياسة، التي هي محل جدل دائم وبالذات بعد بقاء طرفي هذه العلاقة متلازمين، وعدم اكتفاء العسكر بدورهم الطبيعي السيادي، وقيامهم بأدوار سياسة داخلية وتفضيل البعض منهم للدور السياسي على الدور السيادي، فكانت منهم النخب الحاكمة، وكانوا في كثير من الحالات مصنع القرار السياسي.
ثانياً: إن موضوع الجيش من وجهة نظر علم السياسة هو موضوع سياسي عادي أي يشبه في طبيعته موضوع الدولة أو السلطة أو الأحزاب أو القضاء، وأنه لا يتميز عنها من الزاوية الموضوعية بشيء، وحرصاً على عدم إلصاق معاني التخلف والاستبداد والقهر والديكتاتورية بالمؤسسة العسكرية، وإيمانا منا بأنها مؤسسة سيادية أنجبت عسكريين شرفاء، نؤكد على أننا نخص هنا بعض قادة العسكر المغامرين الذين اغتصبوا الحكم واستمرءوه واستأثروا به.
إن ظاهرة سيطرة العسكر على الحكم من خلال الانقلابات العسكرية هي ظاهرة عالمية بدأت منذ عشرينيات القرن الماضي وازدادت في الخمسينيات والستينيات إلى أن باتت ظاهرة عامة ملفتة للنظر في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وحتى أصبح عدد النظم العسكرية في هذه المناطق أكثر من النظم المدنية كافة سواء شمولية كانت أو ديمقراطية، وبعبارة أخرى أضحت الانقلابات العسكرية كطريق للوصول إلى السلطة العليا أكثر انتشارا من كل الأساليب الأخرى في هذه الدول.
فبين عام 1946 و 1970 وقع في 59 دولة في العالم 274 انقلاباً فاشلاً وناجحاً
وفي الفترة ما بين عام 1945 و 1972 حدثت في إفريقيا جنوب الصحراء بمعدل 1.5 انقلاب كل شهر، ومرة كل 4 شهور في أمريكا اللاتينية، ومرة كل سبع شهور في آسيا، وهناك دولا يمكن أن يقال عنها إنها أدمنت الظاهرة الانقلابية وهي (هايتي 5 انقلابات وبولوفيا 7 انقلابات وسورية 11 انقلابا).
ثم بدأت ظاهرة الانقلابات وحكم العسكر تنحسر تدريجيا في العالم مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، مع تحول أغلبية الدول من حكم الدبابة إلى حكم الدولة المدنية التي تُحكم بواسطة المؤسسات والبرلمان والقانون، فكان آخر حكم عسكري في أوروبا الغربية عند مطلع السبعينيات في البرتغال وإسبانيا، وخلال عصر التسعينات انتهى حكم العسكر من أوروبا الشرقية وأيضاَ من أغلب دول أمريكا اللاتينية .

أجمعت الكثير من الدراسات والأبحاث التي عنيت بموضوع الجيش والسياسة والسلطة في الوطن العربي، على أنه ومنذ استقرار حكم الديكتاتوريات الوطنية العسكرية في منتصف السبعينيات وصاعداً، بدأت تظهر الكثير من الآثار الجانية السلبية وخاصة على الحياة السياسية والتطور الديمقراطي، وعلى المجتمع المدني والدولة الحديثة، وعلى وجهة ولاء الجيش وصورته الوظيفية فبعد أن أصبح للجيش مهمات سياسية لا علاقة لها بواجباته الأساسية المحددة بالدستور، بات الجيش جيشاً للسلطة لا جيشاً للدولة وتحول إلى أداة في يد الفئة الحاكمة لتحقيق هدفين هما قمع القوى المعارضة عند الحاجة، والحفاظ على ديمومة سيطرة هذه الفئة.. وأصبحت المؤسسة العسكرية فريقا سياسيا في المجتمع في مواجهة فرقاء سياسيين آخرين، وأدى هذا إلى تدهور صلاحياته من جيش للدولة إلى جيش للسلطة ومن جيش للشعب إلى جيش لطبقة سياسية عقائدية، ومن جيش عقائدي إلى جيش فئة حاكمة، ثم إلى جيش فرد وبطانة. وبدلاً من أن يكون ولاؤه للدولة تحول ولاؤه لعقيدة ثم إلى ولاء لفئة حاكمة ثم ولاء للفرد.
وفيما يتعلق بالجانب السياسي، فإن قادة العسكر قد أساءوا إلى الحياة السياسية واستغلوا الأحزاب وتسببوا في تشويهما.
فمع بداية تسلمهم مقاليد السلطة ونتيجة لضعف في شرعية حكمهم اقتضاهم الأمر تبني الشعارات التي كانت رائجة آنذاك، والاستعانة بالأحزاب التي كانت تمتلك قاعدة شعبية، لا لقناعة منهم بالشعارات ولا لإيمان بمبادئ الأحزاب، لكن من أجل إضافة بعض المساحيق التجميلية للتحسين من شرعيتهم ولإظهار الحكم بأنه ذو طابع مدني ديمقراطي.
ومن ناحية أخرى لصعوبة عسكرة كل المجتمع مع حاجتهم إلى إعادة إنتاج الحياة الاجتماعية على صورتهم وطبقاً لمصالحهم.. في القرارات المصيرية والإستراتيجية العسكرية منها والمدنية، ومن حيث صياغتها وإقرارها، بيد قادة العسكر ورجال الأمن. كما أنهم وبعد ترسيخ حكمهم، عمدوا إلى حرف حزب الشعب عن مبادئه الرئيسية واستغلال أعضائه لما فيه مصلحة النظام، وكان ذلك من خلال تحوير دورهم بتكليفهم كتابة التقارير عن المواطنين وتنظيم التظاهرات المؤيدة.
ومن الآثار الجانبية الأخرى والناجمة عن حكم العسكر والتي لا تقل ضرراً عن تغيير صورة ووظيفة المؤسسة العسكرية السيادية واستغلالهم للأحزاب والقضاء على الحياة السياسة، منع ولادة الدولة المدنية الحديثة، وتعينيهم رؤساء وزارات محدودي السلطة، وتهميشهم مؤسسات المجتمع المدني وإلى ما شابه ذلك من ممارسات تعيق تأسيس الدولة المدنية الحديثة.
وبالرغم من أن بعضهم يتغنى بإنجازات ومكاسب صغيرة تحققت في ظل حكمهم، إلا أن الآثار الجانبية كانت أضخم من أن تشفع لها تلك المكاسب، وهل قليل أن يكون الثمن مصادرة حريات الشعب وقمعه وهدر كرامته واختفائه، وتهجير العقول الوطنية الخيرة إلى المنافي لأن صدر السلطة لا يتسع لآرائهم، وأن يصبح حصول المواطن على حقوقه المدنية وأقلها الحصول على جواز سفر مكرمة من النظام..

تشكلت من مختلف مكونات الشعب قوى معارضة رافضة للواقع، ناضلت من أجل نيل حريتها والخلاص من الفساد والاستبداد والحكم الجائر، لكنها لم تستطع تحقيق أهدافها بسبب الخلل الواضح والكبير في موازين القوى بينها وبين الفئة الحاكمة التي تحظى بالدعم الدولي وتحتكر السلطة والاقتصاد والمال والإعلام وتمتلك السلاح والقدرة على استخدام العنف التي يمكنها من قمع أعتى معارضة تهدد استمرارها في الحكم. ومن المؤسف أنه ولغاية الآن لا يزال ذلك الخلل في موازين القوى بين المعارضة والفئة الحاكمة حاصلاً، والعناصر التي تعمل على ميل كفة الميزان نحو الفئة الحاكمة لا تزال قائمة.
وللاستفادة من دروس التاريخ وعبره لتحقيق ميل كفة الميزان لصالح قوى الإصلاح والتغيير، المتمثلة بالأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وقوى المعارضة والمستقلين والمثقفين والكتاب، الذين يدعون من خلال برامجهم وكتاباتهم ودراساتهم إلى التغيير والإصلاح ويكون الشعب مصدر السلطة، على مبدأ التداول السلمي الديمقراطي، وتكون فيها السياسة حقاً اجتماعياً قائماً على المنافسة السلمية. هذه القوى التي تهدف إلى حسم الصراع لصالحها، ضد الفئة الحاكمة التي تخشى الاستسلام للإصلاح والديمقراطية لما يحملانه من آليات تطيح بها وبنفوذها وسطوتها ومكاسبها، وضد تابعيها من المستفيدين والملتفين حولها الذين يجمعهم وهذه الفئة مصير مشترك. من الضروري توفر عناصر القوة التي لا غنى عنها، وأحدها، اتحاد قوى التغيير والإصلاح وتأجيل كافة الصراعات الإيديولوجية والثقافية إلى مرحلة لاحقة يكون فيها الشعب قادراً على قول كلمته الفصل من خلال صناديق الاقتراع. والعنصر الثاني وقوف الشعب إلى جانب قوى الإصلاح مع الإصرار على العمل لإعادة الفعالية إلى الشارع وتصعيد مستوى الحراك الاجتماعي ، فالنظام الجديد لن تتحقق له الشرعية ولن يدوم دون مساندة الشعب ورضاه، ونحن نرى أن تأييد الشعب لقوى الإصلاح والتغيير متحقق كتحصيل حاصل بعد أن تحول المواطنون إلى جموع مقهورة وآمالهم مكسورة ونفوسهم ثائرة وهمومهم زاخرة وجروحهم غائرة.
أما العنصر الثالث هو العمل على ضمان حياد العسكر في هذا الصراع، وضمان إنهاء دورهم كفريق سياسي يحابي طرفاً على آخر. إن أهمية هذا العنصر ناجم عن كون العسكر يملكون أدوات قوة وسلاح لا يملكها غيرهم، ويتفوقون في ذلك ليس فقط عن المدنيين بل وحتى على باقي المؤسسات الأمنية وخاصة من حيث العَدد والعُدد والتنظيم والقدرة. وهذا ما أثبتته الوقائع، فكثير من الدول لم تستطع قوات شرطتها وأمنها قمع تظاهرات مواطنيها ، بل اضطرت لزج الجيش لإنهائها.
هنا نرى، من الأهمية مناقشة موضوع المؤسسة العسكرية وتعميق الحوار حولها، لأن مناقشته تشكل جانباً من المسألة الديمقراطية والتطور الديمقراطي، فمثلاً من بين الأسئلة التي أثيرت مؤخراً: "ما هو موقف العسكر من عملية الإصلاح والتغيير؟ وهل الآن سيستوعب صدرهم للدولة المدنية الحديثة بعد أن تسببوا بإجهاضها؟؟ هل سيرضون بالاحتكام إلى الدستور الذي يقصيهم عن السياسة ويحدد واجبهم بحراسة الوطن وحصر مهمتهم في الدفاع عن حدوده وسلامته؟؟ هل سيرحبون بالتنازل عن القرار السياسي ليصبح بيد المؤسسات المدنية سواء في الشؤون الداخلية أو الخارجية؟ وبكونهم جزءا مهما وكبيرا من مكونات الشعب، هل هم راضون عن الواقع الحالي ؟ وهل سكون قادتهم لمدة تزيد عن 20 عاماً، تحقق لاستفادتهم من الوضع الراهن وحفاظاً على امتيازاتهم ومكاسبهم، أم هو نتيجة قناعة بعدم وجود قوى سياسية حقيقية قادرة على تغيير والإصلاح والانتقال إلى الدولة المدنية كما حصل في بعض الدول حديثاً؟ وهل يعتقدون أن الموضوع برمته ليس إلا صراعاً على السلطة والغلبة فيه للأقوى؟.
في الختام نؤكد مرة أخرى أننا لا نشك في وطنية الأغلبية الغالبة من منتسبي هذه المؤسسة السيادية التي نتمنى لها الازدهار والعزة، والعودة إلى دورها السيادي وأن تكون مؤسسة للشعب والوطن لا لفئة وأفراد. ومن منطلق أن المعارضة هي معارضة للسلطة وليس للوطن، نأمل أن يكون العسكر محايدين، كما هو معمول به في الدول الديمقراطية الحديثة، وأن لا يتدخلوا في الصراعات ولا ينتصروا ولو رمزياً لفريق ضد آخر. وأن يتحول الحوار إلى حوار بالأفكار والكلمات لا بالسياط واللكمات.
ليس لدى أحد أدنى شك في حب المؤسسة العسكرية للوطن، لكننا نقول: "الحب كلمة وفعل".


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!