التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:14:38 غرينتش


تاريخ الإضافة : 13.08.2008 00:16:28

اللعبة أكبر من العسكر والأحزاب

الدكتور حماه الله ولد السالم

الدكتور حماه الله ولد السالم

الدكتور حماه الله ولد السالم

في المعرفة لا أحد يكشف سرا، فتلك وظيفة مؤسسات أخرى، لكن يمكن البحث والوصف والمراجعة وغيرها من صيغ الحكم والفهم، وهي لا تمنع محاولة التنبيه على "خفايا" تضيع في زحام السجال والنقاش وينساها الجميع!
هناك وجوه "في الزحام" السياسي الماثل حاليا، بعضها معروف بالتسيّس، والبعض فرض نفسه بـ "الحضور" وسط الشأن العام، فاعلا أو منفعلا، والبعض الأخر حاضر غائب، لا يكاد يعرف، بالرغم من شهرته تارة بسلوك، سقيم أو حسن، هو في الغالب من يرتب الصورة التي يريد أن تكتمل عنه.
ليس ذلك ببعيد، فأهلنا سريعو النسيان، أو حتى التناسي، وغالبية من يعمرون "المشهد العام" لايكتبون إلا قليلا، ربما لتدوين أمر يومي، بل هم أحرص على العمل بالشفاهي الأقرب للهمس إن لم نقل الصمت المعبر.
لقد كان النشاط السياسي القديم واضحا شيئا ما، على الأقل فيما يبدو منه، ربما لتأثير عصر الأقطاب وهبوب رياح حركات التحرر وأفكار القوميات وأيديولوجية اليسار وأفكار الليبرالية ثم الإسلامية...بغض النظر عن تواريخ ظهور وضمور تلك النزعات في موريتانيا المستقلة. ولذلك كان الملاحظ على فهم، مقبول، ولو مبتسر، لما يجري، وبعضه ليس كما يبدو للوهلة الأولى لقلة المنشور مكتوبا أو مرويا، لأن المحاضر قد تحرق وقد تضيع وقد لا تكتب أصلا.
لكن الغريب هو "الاصطفاف الغريب" لحملة تراث المشهد القديم: فبعضهم تقلبت في مناصب الدولة لكنه ظل وفيا لصداقات بعضها ليس من صميم تراث التسيّس الماضي، بل الغريب أنه يشير إلى ود غير بريئ، ليس من صنف الصداقة وحفظ العهد، بل لعله أقرب إلى هوى من نوع ما لكنه قطعا ليس من قبيل العاطفة، إنما هو من صنف التفاهم على أمر ما: ما هو؟ لسنا نملك الجواب، لكننا قطعا نشعر شعورا غريبا بأننا نتذكر أحداثا وصلات وعلاقات لا يمكن وصف ترابطها بالصدفة، رغم أن المؤرخ التقليدي والمتابع العادي لن يفهم الأمر على ذلك النحو.
يتكرر الأمر بنفس الوتيرة، وعلى النهج نفسه، صلات تتجدد وأخرى تمحي، لكن هناك خيطا رابطا، ليس من نمط الوعي بالذاكرة الغائب لدى الأهل، بل يذكّر أحيانا بدربة على مدنية ونظام عجيبين!
اليوم يتذكر الجميع كيف جيئ بالسيد سيدي ولد الشيخ عبد الله من النيجر، والغريب أن الكثيرين لم يطرحوا على أنفسهم السؤال الكبير: من جاء بالمرشح؟ ربما لاقتناعهم بأن الجواب عادي بل تافه: العسكر! لكن هناك شطرا أو ذيلا للسؤال: من وضع الرجل في طريق الطلب؟ المؤكد أن العسكر لايعرفون الجواب، لأنهم يكتفون بالملف السياسي أو الأمني للمطلوب، أي بالعناصر التقنية، أما العناصر الأخرى في ملفات الرجال فلاتعنيهم، لأن منها ما ليس مدونا، حتى إذا بحثوا عنه، إنه ما يبدو لنا صدفا وروابط غريبة نتذكرها وتمحي سريعا من دون أن تترك أثرا، لأن الذاكرة يُراد لها أن تختزن كل شيئ إلا "التاريخ الحقيقي" للناس والأشياء.
ولعلنا، لا ندري الصلة التي تجمع بين رجال المشهد، مختلفي المشارب والميول، ولاشك ان المصالح تقوم بدور فاعل في اصطفاف الناشطين والفاعلين، لكنها قطعا ستكون مصالح غريبة وقوية أكثر من اللازم تلك التي تجعل العسكر، المطلعين عبر مؤسسات الدولة الأقوى من أي فرد، على حقائق الأمور ورغبات وغرائب الناس، ينسونها أو لايعرفونها أو يهتمون بمستويات فنية أوضح منها وأكثر إغراء للدولة.
ويبدو من المشهد اليوم وكأنه يعلن باصطفاف من نوع ما: يساريون وقوميون وإسلاميون ومن يحسبون على هؤلاء أو أولئك أو هم مع المجموع لأنهم يراد لهم ذلك: هل حقا جمعهم رفض ما جرى لـ "الشرعية"؟ الثابت أن ذلك هو بداية الاصطفاف لكنه ليس النهاية مهما جرى من انعطاف ومرونة في الحقل السياسي الوطني الحالي.
وعلى الضفة الأخرى اجتمع معارضون وموالون سابقون ولاحقون، يجمعهم الولاء لما يسمى "الحراك السياسي" و"الخروج من الأزمة" وربما الإفادة من كعكة النهج الجديد.لكنهم تجمعوا بسرعة واتجهوا نفس الوجهة على نحو لايمكن تفسيره بمجرد الفوائد أو نيل رضى الأقوى، فهي عناصر فاعلة لكنه لاتستطيع تفسير ما جرى.
لكن قطعا لا يمكن الاقتناع بأن وعيا حصيفا نزل من السماء على قلوب نخبة البلاد، أو أن روحا من الرفض والممانعة سرت في دماء أولئك، لأن نُظم الفكر ونِحَل العيْش لا تتبدل بين عشية وضحاها، بل لابد لها من وقت وجهد وتدرّج، وهو ما لم يحصل لتولد ثورة كتلك الزوابع.
ويبدو الاصطفاف العجيب وكأنه يسير بالجماعات إلى انقسام لا محيد عنه: أسميناه "يمينا ويسارا" ، "محافظة وتحررا"، ...أو غير ذلك من الأسماء، فالأمر سيان. والأعجب أنه لا يجد مانعا ولا دافعا وكأنه يتجه إلى غاية مرسومة، وأقدار محتومة!
ولنا أن نلحظ تشابها أو هوى بين قادة بعض الجماعات التي تنحدر من سلالات سياسية قديمة أو حديثة، بل إن قائدا لجماعة أحدث يهيم شوقا إلى أن يكون نسخة من قادة جماعة أقدم، رغم الفارق في المرجع والعنوان وحتى المزاج، ثم لا ينتهي الأمر عند التوقان للمتابعة بل يتجاوزه إلى روابط وعلائق وصلات ضاعت في الزحام ولم يلحظها إلا القلة!
والأمر ينسحب على رجال مبثوثين هنا أو هناك بين المعسكرين أو فيهما جميعا إن اقتضى الأمر، لأن الحراك شديد ومغر هذه الأيام، أو هو التبرير الممكن للحضور هنا أو هناك!
لقد تمهّد لدينا، من جمع صدف وغرائب الصلات بين هؤلاء وأولئك، أن اللعبة أكبر من العسكر و الأحزاب جميعا، وأن ما جرى ويجري ليس اصطفافا تقليديا، أو تطورا مفهوما، بل إنه نهاية لمسيرة طويلة، بدأت مع تشكل الجماعات الحزبية في ظل الاستعمار ومر بالاصطفاف الجامد والحراك في ظل الحزب الواحد، وتفكك بيد العسكر وها هو يلتئم على النحو الذي أريد له منذ البداية: قطبان يتصارعان ويتنافسان ليسهل تمدين البدو وضبط سلوكهم في السلم والحرب ومنعهم من التسيس الزائد على الحد المقبول: منعا لهم من كشف "حجر الجرمنت" الذي ضاع في الصحراء من عهد الرومان، وحفظا من كل متهور كي لايعرف من الحكمة ما يملؤ وطابه أو يجاوز عقله.
وعلى الذين يميزون بين عسكر ومدنيين، ويمين وشمال، ورافضين ومؤيدين، أن يفهموا أن المعرفة حق للجميع لكن الحكمة شأن الخاصة، والسياسة باب يلجه الناس جميعا لكنهم لن يعرفوا إلى أين، ولن يقتنعوا بكل هذه الحكاية لأن عقولهم محكومة بفهم مسبق للأمور والحقائق.
ومن يدري، فقد تكون اللعبة خيرا كثيرا أو شرا مستطيرا، لكنها قطعا ستغير مصير هذه البلاد. والله مصرف الأمور والعالم بالنيات والسرائر.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!