التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:14:58 غرينتش


تاريخ الإضافة : 15.08.2008 21:18:55

السجن أحب إليّ


الحمد لله، فمازال في هذا البلد الحبيب من الرجال النبلاء من يفضل الشرف ولو في السجن على الترف في المذله. لقد كان الرئيس الغيني الراحل أحمد سيكو توري الرئيس الإفريقي الوحيد الذي رفض هيمنة فرنسا في أواخر الخمسينات في انتخابات "نعم" و "لا" التي نظمتها فرنسا آنذاك في مستعمراتها، وسعت إلى تشريع استعمارها بدفع المقربين منها و إغرائهم بالتصويت لنعم للهيمنة الفرنسية. و قد كان الخيار واضحا لدرجة أنّ الموريتانيين اختصروه في الشعر المحلي:
"وي" او "نون" ألا خيارات ** و المخير ما هو مغبون
"وي" امحاليه فالحسنات ** و امحاليه فالفظه "نون"
و قد كانت غينيا البلد الوحيد الذي اختار زعيمه "لا" تاريخية للهيمنة الفرنسية، و قال كلمته الشهيرة: "أفضل الحرية في الفقر على الثروة في الرق". و يسعدني أنّ موريتانيا لها اليوم ما يعادل ذلك الموقف و هو "لا" للهيمنة العسكرية التي صدع بها الرئيس المنتخب في وجه الجنرالات الغاصبين. و أود هنا أن أستعرض مسيرة هذا الخيار الجريء.

لقد هيمن العسكر ثلاثين عاما على المشهد السياسي، و استمر ذلك حتى آخر عهد ولد الطايع، حيث فهم بعض ضباطه أخيرا أن نظامه لم يعد يملك مقومات الاستمرار، و أن الاحتجاج الشعبي بلغ مداه ضد اغتصاب إرادة الشعب وقمع تطلعاته المشروعة. لقد فهموا أنه قد آن الأوان أن يترك هذا الشعب ليختار حكامه بنفسه، و أن ذلك هو الأفضل للبلد، و للعسكريين أيضا. لقد كان البيان رقم 1 الذي أعلنه المجلس العسكري آن ذاك، و خطاب اعل ولد محمد فال خلال أول لقاء جمعه بالزعماء السياسيين، و المقابلة التي أجراها ولد عبد العزيز مع إذاعة صوت أمريكا بضعة أيام بعد الإطاحة بولد
الطايع، كلها كانت بينات واضحة على فهم العسكريين للوضع في الأيام الأولى من حكمهم.

لقد كان المطيحون بولد الطايع على استعداد لإقامة ديمقراطيه حقيقية، ولكنهم تراجعوا عن بعض الوعود بعد احتكاكهم بالطبقة السياسية واكتشاف هشاشتها. لقد سعى بعض الزعماء السياسيين إلى الحصول على دعم العسكر، و قدم لهم من أجل ذلك دعما غير مشروط ودون تحفظ، و هذا ما مكنهم من التحكم بشكل أكبر في الفترة الانتقالية 2005-2007 و تسييرها بشكل أحادي، لا تؤثر فيه المشاورات الشكلية إلا قليلا. و جاء تزلف الوجهاء و الزعماء التقليديين ليقضي على الترددات الأخيرة التي كانت لدى العسكر عن التلاعب بالانتخابات. إنّ التزلف و النفاق السياسيين هما السبب العميق
في تدخل المجلس العسكري في انتخابات المرحلة الانتقالية. وهذا دليل واضح أنّ الأزمة التي تتخبط فيها البلاد ليست سياسية فحسب، بل هي في جوهرها ثقافية أخلاقية.

إنّ تدني القيم الأخلاقية لدى النخبة السياسية و التقليدية هو الذي ساعد العسكر على البقاء في السلطة، خلال الانتخابات التشريعية عام 2006، عن طريق إنشاء كتيبة النواب المستقلين. و قد توزع المجلس العسكرية على عدة خيارات خلال رئاسيات 2007. أطلق ولد محمد فال أولا إشارات نحو دعمه لأحمد ولد داده، ثم قام لاحقا بحملة لسيدي، ثم حاول أخيرا أن يمدد الفترة الانتقالية أو يبرر ولاية جديدة بإفشال الانتخابات باعتبار أوراق التصويت الأبيض المحايدة في نسب المرشحين. و لكن أبرز قادة المجلس العسكري حسموا أمرهم في نهاية المطاف لصالح دعم سيدي، مع أنّ
الإشارات الأولى نحو داداه و دعم بعض أعضاء المجلس له كانت كافية لمساعدته في الوصول إلى المركز الثاني في السباق الرئاسي.

كانت قوى التغيير تعلم أنّ التحدي الأبرز للفترة الانتقالية هو ضمان استقلال السلطة المدنية الوليدة ووضع حد لهيمنة العسكر على المشهد السياسي. كانت تسعى لبناء ديمقراطيه حقيقية، يكون الجيش فيها جمهوريا، تابعا للحكم المدني. و كان المجلس العسكري من جهته يحاول جاهدا المحافظة على سلطة لم يعد يجد ذريعة للتمسك بها بشكل سافر مباشر. و هذا ما جعل العسكر يختار دعم مرشح ليست لديه علاقة تقليديه تخشى مع كبار الضباط و لا تربطه علاقة عضوية متينة مع القوى السياسية النافذة. لقد حسب قادة المجلس العسكري أنّ سيدي مرشح تمكن السيطرة عليه، فأمروا كتيبة
النواب-الجنود، وهي رأس حربة العسكر الديمقراطية، بقيادة حملة المرشح المطمئن. و هذا ما جعل قوى التغيير تسعى لمنع انتخابه، وهي التي ليست لديها مآخذ عليه، ولكن مآخذها على أنصاره كثيرة.

و قد قمنا جميعا، و أنا الأول، بانتقاد مسعود على دعمه لسيدي، و لكن مسعود كشف بعد ذلك مآخذ عميقة على داداه، الذي لم يعتبره يوما ندا مساويا. كما أنّ مسعود اتهم أحمد بالموافقة على تمديد الفترة الانتقالية لولد محمد فال مقابل منصب رئيس الوزراء. و كان "التحالف" قد أخذ على مفاوضي "التكتل" عدم الجدية، إذ يقبلون دون تحفظ و من غير دراسة جميع المطالب والشروط التي وضعها "التحالف" مقابل دعم داداه في الشوط الثاني. لقد وصف "التحالف" بكل صراحة وعلنية سلوك "التكتل" بمحاولة الاحتيال.

وهكذا انتخب سيدي في الجولة الثانية بفضل تضافر دعم مسعود و الزين ولد زيدان. و قد أثبت الرئيس المنتخب مباشرة وفاءه بالوعود، فتم تعيين الزين رئيسا للوزراء وانتخاب مسعود رئيسا للجمعية الوطنية.

و بعد أقل من ثلاثة أشهر على توليه السلطة، أثبت الرئيس المنتخب استقلاله عن العسكر بإعلانه عودة اللاجئين، وهو القرار الذي لم يكن يحظى بدعم الضباط. بل إنّ العسكر كانوا يبررون رفضهم تنظيم تصويت الموريتانيين في الخارج بذريعة عنصرية هي تجنب إعطاء اللاجئين وزنا انتخابيا. وليست التصريحات الحالية لولد عبد العزيز عن عودة اللاجئين إلا تلك المعهودة لدى الانقلابين الباحثين عن الشرعية. وهي تهدف إلى استمالة "صار" و التخفيف من حدة رفض الانقلاب لدى المناضلين الزنوج.

لقد عرف ولد عبد العزيز و ولد غزواني بعد خطاب يونيو 2007 أنّه ليس من السهل التحكم في الرئيس المنتخب و أنه سيمارس صلاحياته الدستورية كاملة. ولكن الجنرالين كانا منشغلين بإحكام سيطرتهما على المؤسسة العسكرية. وقد كان الجيش بالفعل تحت السيطرة الكاملة عندما أكد الرئيس المنتخب توجهه نحو الإصلاح بفتح حكومته الثانية لقوى التغيير. و هكذا تم تحريك النواب-الجنود لإسقاط هذه الحكومة. ولم يشتمل بيان النواب بعد إسقاطها إلا على مطلب واحد وهو استبعاد حزبي المعارضة من الحكومة المقبلة، وقد كان.

ولكن الرئيس دخل في تحضيرات لعملية إصلاحية عميقة وهي التنسيق من أجل إنشاء أغلبية رئاسية جديدة تجمع بين أحزاب "التحالف" و "التقدم" و "تواصل" و الأوفياء من "عادل". وهذه معلومة و ليست تحليلا. لقد كان بإمكان هذه الأغلبية الإصلاحية الجديدة أن تقلب الأمور تماما في البلاد و تخلص السلطة المدنية أخيرا من الهيمنة العسكرية. و من الواضح أنّ الجنرالات اطلعوا على هذا المشروع و لذلك تم على الفور تحريك كتيبة النواب-العرفاء. كما أنّ كتيبة العسكر الإعلامية أطلقت شائعات و حملات دعائية عنيفة لتشويه صورة الرئيس وأسرته والتحضير الإعلامي لانقلاب دستوري
أو جماهيري أو عسكري. لقد وصل الافتراء لدرجة اعتبار الخمسة عشر شهرا من رئاسة سيدي أسوأ و أعمق فسادا من العشرين سنة مع ولد الطايع. وقد كان من الممكن أن يتسبب الجنرالات و أتباعهم في الانهيار النفسي للرئيس، فقد كانت الافتراء والشائعات شرسة و مهينة إلى أبعد الحدود.

و لصد جنرالات يسعون إلى الهيمنة على نظام مدني ديمقراطي منتخب، لم يكن هناك خيار سوى فرض سيادة القانون على الجيش. إمّا أن يكون الرئيس رئيسا، أو لا يكون. وبمقابل نواب جعلوا الحق والقانون في خدمة القوة، سعى الرئيس إلى فرض قوة الحق و القانون على الجيش، لتحرير البلاد بعد ثلاثين عاما من السيطرة العسكرية الكارثية. إنّ إقالة الجنرالات هي في الواقع عملية استشهادية حقيقية، ولكن علينا توفير مخرج لكبار الضباط لإنجاحها، فالإستراتيجية العسكرية تعلمنا ترك طريق لهرب العدو حتى لا يستميت في المقاومة.

إستراتيجية الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية هي النهج الصحيح، فموريتانيا تقف مرة أخرى على مفترق طرق، و الخيار رهيب. إما ديمقراطية متحررة من هيمنة الجنرالات، أو نظام عسكري لا يقبل حتى بتحديد أفق زمني لاغتصاب السلطة، و لا يعد بعدم المشاركة في الانتخابات التي ينوي فرضها على الشعب. إما الدفاع عن سيدي في أحسن ما عمل، أو التصفيق لولد عبد العزيز في أسوئ ما عمل.

وقد صدمني الاستماع إلى زعيم المعارضة عند خروجه من القصر الرئاسي وهو يصف ولد عبد العزيز "بفخامة الرئيس". و لا أذكره ناعتا الرئيس المنتخب للبلاد بهذه الفخامة بعد لقاءاتهما العديدة الماضية، ولكن الجنرال الفاقد للشرعية أحوج فعلا إلى مثل هذه النعوت الفخمة الممجدة.

و الظاهر أنّ الأخطاء الجسيمة ذاتها، التي ارتكبها السياسيون المتزلفون و الوجهاء التقليديون النفعيون إبان المحلة الانتقالية الماضية، ستعاد مرة أخرى لتدفع الجنرالات إلى الإصرار على الخطأ. و من الطريف أن بعض الأحزاب السياسية، التي أعرضت بالأمس القريب عن المشاركة في حكومة ديمقراطية، تتدافع اليوم للدخول في حكومة يتزعمها الجنرال الغاصب للسلطة. و ما هذا إلا ذكرى أنّ الأزمة السياسية ليست سوى غيض من فيض. و الحقيقية أنّ جوهر الأزمة العميق ثقافي أخلاقي.

د.محمد عالي ولد لولي


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!