التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:05:54 غرينتش


تاريخ الإضافة : 17.02.2013 12:39:58

الاسلاميون كقوة صاعدة : إشكالات الاعتراف و التعايش

محمد جميل بن منصور – موريتانيا
رغم أن أغلب المحللين و حتى السياسيين الممارسين لم يكن يتوقع ما حدث في العالم العربي عموما و في المغرب العربي خصوصا من تطورات سياسية و ثورية ، فإن هذه التطورات تسارعت على نحو أربك معظم الأطراف و غير من أحوال و مواقع كان الاسلاميون أبرز المعنيين بها .

لقد ظل الاسلاميون في المغرب العربي قوة مهمة و مغيبة في أغلب الحالات ، أما أهميتها فتعود إلى تجذرها و انتشارها و قدرتها على المغالبة في وجه استبداد أغلب أنظمة المنطقة المغاربية ، و أما تغييبها فواضح من خلال مشهد ما قبل الربيع الديمقراطي خصوصا في تونس و ليبيا حيث القمع و الملاحقة و محاولات الاستئصال و لم يكن الحضور الموجه في الجزائر التي عرف فيها مكون مهم من التيار الاسلامي ( الجبهة الاسلامية للإنقاذ ) إقصاء و تشريدا ، و المتحكم فيه في المملكة المغربية و التي لم تسلم من ملاحقة فصيل فعال كجماعة العدل و الاحسان ، و البادئ بعد فترة ملاحقة في موريتانيا ... ليغير الصورة العامة لما قبل ربيع 2011 .

و في لحظة من لحظات التاريخ الذي تحكمه سنن التحول و المغالبة اجتمعت عوامل عديدة لتؤدي إلى الربيع الديمقراطي الذي رفعت فيه شعارات الحرية و الكرامة و العيش الكريم ... و تتالت الأحداث لتسقط أنظمة و تتكيف أخرى و تتمنع ثالثة ، و برز الاسلاميون قوة صاعدة أثناء و بعد هذه الأحداث مما جعلهم من أهم مكونات مشهد ما بعد الربيع : فازوا في انتخابات تونس الأولى بعد سقوط ابن على ، و فازوا في انتخابات المغرب ما بعد التكيف و تعديل الدستور ، و كانوا من الفائزين في انتخابات ليبيا و إن احتل الرتبة الأولى غيرهم ، و ظهر صوتهم بارزا في موريتانيا ، و كانت انتخابات الجزائر استثناء ، فلا ثورة ثم و التكيف محدود أو غائب و الاسلاميون منقسمون و سنوات الأزمة لها حكمها و أثرها .

و هكذا بدأت الأسئلة تطرح و يعاد طرحها ، فنحن أمام قوة تحكم أو ينتظر منها ذلك أو لها تأثير قوي في شارع المعارضة البديل و بالتالي عليها أن توضح و تشرح .

بعد فترات من المنع و التضييق و حجب الاعتراف أو تقييده ، هل حسم سؤال الاعتراف بالتيار الاسلامي بمعنى التطبيع معه ، و ما هي فلسفة هذا التيار في موضوع التعايش بمفهومه الأوسع مع المجتمع و إكراهاته ، مع الدولة الحديثة و متطلباتها ، مع الآخر بمختلف أنواعه ، مع الخارج و مطالبه ... و هذا ما نحاول طرح بعض الأفكار المتعلقة به .


أولا : صعود الاسلاميين : مسار و إشكالات :


رغم أن صاحب الورقة لا يفضل المنزع التأريخي فيها و إنما يفضل التركيز على التحليل و المقاربة و الاستشراف فإن شيئا من التاريخ قد يساعد في الفهم أكثر و التأسيس لاستنتاجات سليمة و متماسكة ، فالنموذج المغربي أخذ مميزاته من خصوصية البلد و سلوك النظام فيه ، فبعد فترة من النفس الثوري برز مع تجربة الشبيبة الاسلامية اتجه الاسلاميون المغاربة لمنطق الاعتدال و فلسفة التكيف مع الواقع فوقعت مراجعات من طرف قيادات في الشبيبة ، و انطلقت مبادرات من خارج صفها ليتكامل كل ذلك مفضيا إلى تنظيمات و جماعات بعضها ذو حدود محلية و بعضها ذو منزع وطني شامل هي التي ستتلاقى أو يتلاقى أغلبها لاحقا في حركة التوحيد و الاصلاح إطارا حركيا و دعويا و في حزب العدالة و التنمية إطارا حزبيا و سياسيا .

و موازاة مع هذا التحول كانت جماعة العدل و الاحسان تبني هياكلها و توسع عضويتها حتى أصبحت قوة كبيرة تجمع بين قوة الخطاب و التنظيم إلى حد يلامس الثورية من ناحية و المرونة النسبية التي سمحت للنظام بالتساهل النسبي معها من ناحية أخرى ، و المتابع لمسار الحركتين بما أفضى لهما من تصدر سياسي للمشهد في المغرب بالنسبة للعدالة و التنمية و حضور شعبي لافت للعدل و الاحسان لن يجد صعوبة في تأكيد الصعود .
أما تونس فالعارفون بتاريخ حركة الاتجاه الاسلامي سلف حزب حركة النهضة اليوم يدركون إلى أي حد لم تستطع سياسة الحبيب بورقيبه و لا ابن على قتل حركة الصعود لإسلاميي تونس ، بل الملاحظ أن الصعود الفكري و إضافات الشيخ الغنوشي و صحبه كانت في فترات الشدة ، و مع أن آلة القمع كانت صارمة خصوصا مع ابن على فإن الكمون في الداخل و النشاط في الخارج و انتظار لحظة انهيار النظام كلها ساهمت في المحافظة على أرضية تؤسس للصعود حين تتوفر ظروفه و هو ما كان بعد سقوط النظام الذي أسهم الاسلاميون في الثورة عليه و إن لم يكونوا البادئين بها .

و لقد عرفت الجزائر لحظة صعود مميزة للتيار الاسلامي عندما حققت الجبهة الاسلامية للإنقاذ انتصارها المشهور و لكن مسارعة الجيش مدعوما بتأييد جناح من العلمانيين و موظفا أخطاء الاسلاميين و خطاب بعضهم و مشجعا أو مدفوعا من جهات خارجية نافذة إلى الانقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة في الجزائر حد من هذا الصعود بل حوله إلى تراجع و ارتباك مازال يلاحق إسلاميي الجزائر و مع أن تجربة التكيف و الخضوع لشروط ما بعد الانقاذ وفرت أجواء لصعود نسبي لأحزاب و حركات ذات توجه معتدل فإنها ما تفتأ تقيد و تحاصر بقواعد اللعبة الجديدة ، و لاشك أن الحالة الجزائرية اليوم تشكل استثناء من الصعود الاسلامي الملاحظ و إن بقيت عوامل هذا الصعود و التوسع قائمة عند توفر الظروف و الشروط .

و مازالت الحالة الموريتانية محدودة و المعلومات عنها غير ذائعة و مع أن الاسلاميين فيها واجهوا حملات قمع و ملاحقة خصوصا مع نظام ولد الطائع فإنهم سجلوا صعودا منذ أن حدث انفراج 2005 و تعزز هذا الصعود مع اكتسابهم الشرعية القانونية 2007 بتأسيس التجمع الوطني للإصلاح و التنمية الذي يشكل اليوم قوة رئيسية في المشهد السياسي الموريتاني .

و كان قمع الاسلاميين في ليبيا من نوع خاص لأن نظامها كان من نوع خاص و عمل على إنهاك التيار الاسلامي بكافة مدارسه ، و مع ذلك حين اندلعت ثورة السابع عشر فبراير كان للإسلاميين فيها حضور ظل يتعزز و يتوسع حتى خيف من بعض مكوناته ، و لما بدأ بناء ليبيا الجديدة و ظهرت الأحزاب و الجماعات لم يتخلف الاسلاميون الذين أخذوا موقعا متقدما في المشهد الجديد و هو ما شهدت به الانتخابات ثم المفاوضات فالحكومة فالإعداد للدستور .

و مع أن مسارات صعود الاسلاميين اختلفت من بلد مغاربي إلى آخر و مع أن حجم هذا الصعود يتباين من حالة إلى أخرى فإن الحكم بتحققه ليس مجازفة و لا مبالغة ، و لعله من الملاحظات الجديرة بالتسجيل هنا هو محدودية الانتاج النظري المصاحب لهذا الصعود مما أفقده أحيانا العمق اللازم و الوضوح النظري المطلوب و يلفت في هذا الصدد الخصوصية الفكرية لكل حالة ففي حين غلب على الحالة الجزائرية نوع من التقليد للمدرسة المشرقية و مثلها في ذلك الليبية و في حين لم يعرف عن الحالة الموريتانية اختيار مدرسي معلوم فإنه غلب على التجربتين الأبرز اليوم أعني التونسية و المغربية التوجه المقاصدي التجديدي الذي طبعهما بشئ من الانفتاح و المرونة الفكرية لم تتيسر لغيرهما .


ثانيا : أسئلة ما بعد الصعود


يقول الاسلاميون إن صعودهم يعود إلى أصالة مشروعهم و مرجعيتهم الاسلامية التي تلامس مشاعر الشعوب المغاربية ، و يقول خصومهم إن الخطاب العاطفي الموظف للدين و أنماطا من العمل الخدمي توظف الأعمال الخيرية و المساجد هي أهم عوامل الصعود ، و يقول بعض المراقبين إن المظلومية في الماضي و الأمل الذي بعثه اليأس من الآخرين أهم في تفسير هذا الصعود ، و بغض النظر عن كل هؤلاء و ما يقولون فإن وضعية الاسلاميين في طريقها إلى تقويم من نوع آخر ، و لاشك أن الناس اليوم ينتظرون إنجازات ملموسة من حكومات تونس و المغرب و ينتبهون لما يحققه الليبيون و يتأثر بكل ذلك حال الموريتانيين و الجزائريين ، و الاسئلة بدأت تطرح و بدأت الانتظارات تكثر و المساءلة تتوسع حتى دون إعطاء الوقت الكافي ودون توفر الظرف المناسب و هكذا شرع في طرح أسئلة ما بعد الصعود ففكريا أصبحت الحاجة قائمة للحسم في الاختيارات الفكرية الأساسية بل للأساس المنهجي الذي على أساسه تكون هذه الاختيارات و لم يعد واردا الاستمرار في التناول الرمادي لبعض القضايا الحساسة ، ثم ماذا عن الاشكالات التي يطرحها النموذج السياسي و ما حدود الانخراط في النموذج الديمقراطي و أي تفسير لتطبيق الشريعة و ما الأطروحة الفكرية المفرقة بين مصدر الشرعية و مصدر التشريع ، و كيف يكون التعاطي مع إشكالات التنمية في ضوء الميراث الصعب لدولة ما قبل الربيع و إكراهات الترابط التنموي مع الخارج و جهاته الأكثر حساسية من الحالة الاسلامية ، و ما حدود العلاقة و كيف تسير مع الشركاء الأجانب و الغربيين بالذات و الأوروبيين نظرا لارتباطهم بالمنطقة المغاربية أكثر و يتقدمهم الفرنسيون ذوو الحساسية المفرطة من مشروع الاستقلال الثقافي و الحضاري للتيار الاسلامي.

و بما أن صعود الاحزاب الاسلامية هذا قد رافقته موجة من انتشار المدارس السلفية و بعضها يميل إلى العنف بل و يمارسه ، كما سبقها و استمر معها توسع للقاعدة و تنظيماتها في منطقة الساحل فإن ذلك طرح أسئلة إضافية على هذه الأحزاب ، كيف تتعامل مع هذه التيارات و متى تكون السلفية رأيا و اختيارا يستحق كامل الحقوق مثل غيره و متى تكون عنفا أو تحريضا ينبغي التعامل معه بصرامة القانون ، و كيف التعامل مع ما يدعى الحرب على الارهاب و التي في ظلها ترهب شعوب و يسوغ إرهاب شعوب ، و ما أنجع الأساليب لمواجهة مجموعات العنف التي أصبحت خطرا على أمن المنطقة و صورة الاسلام .

تلك كلها أسئلة من ضمن كثير من الأسئلة تنتظر الاسلاميين في صعودهم هذا مما يجعل تحديات ما بعد الاعتراف و النجاح أشد من تحديات مراحل القمع و الملاحقة .

لم يعد واردا أن نتحدث اليوم عن إشكال الاعتراف و إنما يمكن الحديث عن موضوع التطبيع مع الحالة الاسلامية و رغم أن كثيرا من المخاوف المصنوعة عن التيار الاسلامي هي من صنع خصومه الذين يمتلكون من وسائل الاعلام و التجييش الكثير فإن الحاجة لمزيد من الطمأنة تظل قائمة حتى يعلم الناس أننا بصدد حركة تغيير و إصلاح و لسنا أمام حالة انقلابية تلغي و تحل على النحو الذي كان يظهر في بعض الأدبيات الحركية بدايات الصحوة الاسلامية المعاصرة .

إن الاسلاميين و قد حسموا بالقوة قبل الفعل إشكال الاعتراف ، بل و خطوا خطوات جدية نحو المجتمع و أحضانه يعطونه و يأخذون منه مطالبون بتوضيح أطروحتهم حول التعايش و فلسفته و مداه .


ثالثا : من الاعتراف إلى التعايش


ليس خافيا أن هناك فرقا بين التعايش الذي يؤسس له فكر و يحكمه منهج و التعايش الذي تفرضه ظروف و يمليه ميزان قوى مختل ، و لذلك و رغم الاسهامات النظرية المقدرة في فقه التعايش المتوفرة عند إسلاميي المغرب العربي و خصوصا في تونس و المغرب فإن الحاجة تظل قائمة لمزيد من الوضوح النظري و الحسم الفكري في أمور يترتب عليها فقه التعايش مع المغاير أو المختلف .

تضم مجتمعات المغرب العربي مكونات عديدة من بينها من ينظر بقدر كبير من الشك و ربما الخوف إلى التيار الاسلامي و يعود ذلك أحيانا إلى الصورة الذهنية التي يملكها هؤلاء عن مشروع هذا التيار ، و أحيانا أخرى إلى خصائص لهذه المكونات ليس من السهل على الاسلاميين تقبلها أو التسامح معها ، و هكذا فإن النظرة إلى المجتمع و ما تركته فيه عقود من الاستلاب أو البعد عن المنابع الأولى تكون مسألة مهمة و ما هي حدود الحريات الخاصة قبل العامة في المشروع السياسي للإسلاميين و هكذا فإن نوع التعايش مع أطراف المجتمع الرخو الذي تعود على الحرية المفتوحة حتى في ظل الاستبداد اختبار لنوع من التعايش المحرج ، و لاشك أن نجاح الاسلاميين في اختبار العلاقة مع هؤلاء نجاحا لا يخدش المنهج الاصلاحي لتيار أساس رأسماله أخلاقي و يوفر جوا من الاطمئنان لهذا المكون محدد يحمل من الرسائل كثيرها، و ينطبق هذا الحديث على مكونات التدين التقليدية التي خاصم بعضها التيار الاسلامي و تحالف مع بعض الأنظمة المطاح بها في الربيع المغاربي .

للدولة الوطنية إكراهاتها و للمسؤولية فيها استحقاقات لا يخفى أنها تقتضي منطقا يختلف عن منطق التعبير عن الموقف أو التبشير به و عن حديث همه الرئيس الوفاء للمرجعية أو تعبئة الرأي العام لمزيد من الكسب و التأثير ، و لعل من أهم هذه الاكراهات مسألة المصالح التي تقيد حركة القائمين على أي دولة سواء كانت هذه المصالح اقتصادية و هي الأكثر تعقيدا أو أمنية و هي الأكثر إحراجا و الناظر اليوم إلى خريطة مواقف التيارات السياسية الاسلامية من الحرب في جمهورية مالي سيدرك ذلك فأن يجد إسلاميو المغرب و تونس أنفسهم منساقين مع دعم الحرب أو تسويغها أو قبولها نظرا إلى مقتضيات التنسيق الأمني إقليميا و دوليا و إحساسا بالمخاطر الأمنية التي تسببها الجماعات التي عقدت الأزمة في مالي بينما يجد الآخرون خصوصا من يوجد في صف المعارضة في بلده الفرصة مناسبة لانتقاد التدخل الفرنسي و اعتباره عدوانا يستبيح المنطقة و القارة ويتخذ من توسع جماعات الغلو مبررا له دون أن يدفعهم ذلك إلى الاصطفاف مع هذه الجماعات لا في الموقف أو التصنيف بل كان التمايز واضحا و الإدانة معلنة ، فذلك مؤشر لافت على إكراهات تسيير الدولة ، و إكراهات الدولة أكثر من هذين النوعين و التعايش مع هذه الاكراهات و المتطلبات أمر مطروح على الاسلاميين و هم يتقدمون لقيادة الناس و القيام على مصالحهم .

التعايش مع الآخر سؤال آخر يلزم على ضحايا الأمس و حكام اليوم التوقف عنده ، و أهم مكونات هذا الآخر هو التيار العلماني بكافة مكوناته مدركين أن انطباق العلمانية على المعنيين ليس على إطلاقه

ليس خافيا أن عددا من الأطراف المنضوية في هذا التيار ليست مسرورة من صعود الاسلاميين و لا تخفي كيدها لهم و أحيانا بأساليب لا تناسب اللحظة و لا تنضبط بالقواعد الديمقراطية و ربما استقوى بعضها بجهات عربية و غربية لا تدخر جهدا في إفشال صعود الاسلاميين ، و مع ذلك فإن الاسلاميين مطالبون بانفتاح أكثر و قدرة على التعايش تأخذ في عين الاعتبار مخاطر التحول الحالي و حاجته إلى منطق التوافق الذي يوفر الأجواء المناسبة للتأسيس الديمقراطي الصحيح .
إن المؤشرات الأولية في الحالتين التونسية و المصرية غير مطمئنة ، يمكنني أن أحمل المسؤولية للتيار العلماني أو الموصوف بهذه الصفة بحكم تعاطفي مع إخوان مصر و نهضة تونس و ثقتي في فكر الانفتاح الذي يبشر به الأستاذ راشد الغنوشي ، و لكن الأمر ليس بهذه البساطة و الحكم بناء على التعاطف و الولاء مجازفة لا تقوى أمام المسؤولية المشتركة للجميع في الاستقطاب الحالي بغض النظر عن نسبة كل طرف في تلك المسؤولية ، من حق أي طرف أو أطراف نجحت في الانتخابات أن تحكم و من حقها أن تعطى فرصة لتطبق برنامجها و يحاسبها الناس بناء على ذلك و لكن في مراحل التأسيس يلزم منطق آخر لأنه في أجواء المغالبة و الصراع تصعب إجازة الدساتير و تتشوه منطلقات البناء الديمقراطي ، نحن نتحول من استبداد خطير رعاه و عززه فساد مستشر و تدخلات خارجية قد لا تكون الديمقراطية أهم أولوياتها في التعاطي مع الشأن المغاربي ، من هنا فإن مصلحة التحول الديمقراطي تقتضي تشكيل جبهة وطنية واسعة للاتفاق على الأسس و القواعد مفضلين منطق التعايش على مسار المغالبة .

و مما يدخل في باب التعايش رغم اختلاف الزاوية التي يتناول منها موضوع التعاطي مع المكونات العرقية غير العربية في الدول المغاربية ، و مع أن الاسلاميين ليسوا مقابلا للأمازيغ أو الأفارقة السود لأن الرابطة عندهم ليست عرقية و لا لغوية فإن العلاقة مع المكون الأمازيغي في الشمال المغاربي ظلت متوترة بحكم المساعي الاستعمارية للفصل أصلا بين المكونات الثقافية للمنطقة المغاربية و بحكم الطابع العربي لبعض الأطروحات الاسلامية و بسبب بعض الغلو في المطالب الأمازيغية و عدم الحضور المناسب لهذه المطالب في أدبيات الاسلاميين إن حضرت أصلا ، و مع أن العلاقة مع الأفارقة السود في الجنوب المغاربي كانت أحسن عند إسلاميي موريتانيا فإن نفس الاشكالات و إن بصورة أخف تظل قائمة ، و من هنا فإن التعايش بين المكونات العرقية في المنطقة المغاربية يستحق من تيار في حجم و مكانة و عدم عرقية التيار الاسلامي كل العناية بعيدا عن التجاهل في ظل العنوان الاسلامي العام أو التضخيم الذي يوفر أرضية لاستقطاب يضر بوحدة الناس و يفتح الباب للتدخلات الأجنبية .
يمثل التعايش مع الأجنبي و الغربي منه خاصة سؤالا آخر يلزم الاسلاميين الوقوف عنده بكل مسؤولية و وضوح ، أدرك مثل كثيرين أن العلاقات في جانب كبير منها تتأسس على المصالح و أنه لا يلزم لها لا الحب و لا حتى الحماس ، كما أدرك أن كثيرا من سياسي الغرب ذوو نزعة براكماتية تجعلهم قادرين على لبوس ما يناسب لكل مرحلة و مع كل جهة ، و لكن العلاقة بين الغرب و الاسلاميين نظرا لظلالها الثقافية و آثارها الاجتماعية فضلا عن طابعها السياسي تختلف قليلا ، و تقتضي فقها للتعايش يتأسس على الفكر و ينتهي في السياسة و العلاقات الدولية .

لقد بادرت جهات بحثية معروفة بلقاءات لتنظيم حوارات بين مثقفين و سياسيين غربيين و أحزاب و مفكرين إسلاميين ، كما نظمت لقاءات سياسية بين جهات حكومية غربية و مسؤولين في حركات إسلامية كبيرة ، و يبادر بعض الاسلاميين للتواصل مع جهات غربية أكاديمية و سياسية ، و مع أهمية هذا التواصل بمختلف أشكاله و ما أفضى إليه من بعض الفهم و التفاهم فإن المسافة مازالت طويلة و تحتاج من التيار الاسلامي بالذات إلى توضيح و شرح أطروحته للتعايش مع الآخر الغربي مهما كانت المعوقات و التي من أهمها أن في الغرب جهات مردت على معاداة كل ما هو إسلامي و تختزل كل العلاقة في مصالح تدرك أن منطق التعامل معها سيختلف عما تعودت عليه من مقايضات لا تحترم أخلاقا و لا تتقيد بمبادئ و في الاسلاميين بعضا ممن تعود على اختزال الغرب في دين و ثقافة هي على النقيض مما عند الأمة .

لقد قدم بعض المفكرين الاسلاميين في المغرب العربي إسهامات مقدرة في فقه التعايش على مختلف الجبهات و تضمنت بعض الأدبيات الرسمية للأحزاب ذات المرجعية الاسلامية شيئا من تلك الاسهامات و مع ذلك فالحاجة قائمة لمزيد من الفرش النظري لهذا الفقه و التحديد السياسي الذي يخرج من دائرة الالتباس و التناول الرمادي التي مازال يلقي بظلاله على بعض المواقف و الأدبيات .

إننا ونحن نجتمع في هذه الندوة التي تتناول حال المغرب العربي في ضوء التحولات الاقليمية الراهنة نحتاج إلى أن نخاطب كل الفاعلين في ساحتنا المغاربية أن فلسفة الاعتراف المتبادل و منطق التعايش الايجابي مطلب يتوجه للجميع و يستحق التنازل من الجميع و سيجد حصاده الجميع و سيتضرر من غيابه الجميع .


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!