التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:10:39 غرينتش


تاريخ الإضافة : 10.03.2013 12:16:51

مرة أخرى... أمر من الأمن أو الخوف

بقلم الأستاذ المحامي/ محمد المامي ولد مولاي علي

بقلم الأستاذ المحامي/ محمد المامي ولد مولاي علي

في سبتمبر من سنة 2010 كتبت مقالا بعنوان: (نواكشوط، أمر من الأمن أو الخوف) كان الدافع إليه يومها ما شهدته العاصمة من قلاقل أمنية بسبب التهديدات الإرهابية وكثرة جرائم السرقة والسلب أياما قبل عيد الفطر المبارك، وما تبع ذلك من سياسة أمنية تهدف لحماية الأمن، ولكن على حساب الحريات، خصوصا حرية التنقل، فارتأيت أن أعيد نشره مجددا مع تعديل طفيف يناسب الزمان، أما المكان والظروف فلم يتغير منها كبير شيء

فاليوم أيضا انتشرت الجريمة بشكل مخيف، و لا يكاد يمر يوم دون أن تشهد جريمة قتل أو تسمع بها أو تقرأ خبرا عنها، ناهيك عن جرائم السرقة والحرابة والخطف والاغتصاب والسلب، وهو ما يقلق أمن المواطنين ويقض مضاجعهم في كل أحياء العاصمة.

السبب الموضوعي لهذه الجرائم -في نظرنا- يعود إلى التوسع الكبير الذي شهدته المدينة بفعل خلق أحياء جديدة نقل إليها سكان الأحياء العشوائية، الأمر الذي كان يتطلب بالتزامن سياسة أمنية تسعى لتغطية الأحياء الجديدة، أضف إلى ذلك أن تغيير البنية السكانية للمواطنين، بما تتضمنه من تغيير في طبيعة المساكن و المعارف والجيران يزيد من احتمال وقوع الجرائم، بالنظر إلى ما يتيحه ثبات محال الإقامة والجيران والمعارف من استقرار أمني، كل ذلك بالتضافر مع بقاء الأسباب الأخرى المهيئة للجريمة على ما هي عليه.

انتشار الجريمة هذا هو الذي دفع السلطات الأمنية إلى الأخذ بإستراتيجية تغفل عن حقوق الناس وحرياتهم، في محاولة لرد الاعتبار وبعث الثقة في الأمن من جديد، فأقدمت على تنفيذ حظر للتجوال غير معلن ولا محدد التوقيت ولا الأماكن -على الأقل في أذهان المواطنين- وهو إجراء تعسفي غريب جدا، يباغت الناس فيقيد حرياتهم ويشوش عليهم، مما أشاع جوا من البلبلة والخوف، فلا تكاد تغرب الشمس حتى تشهد الأحياء العشوائية هلعا وخوفا من الاعتقالات العشوائية الاعتباطية، ولقد شاهدت بأم عيني صبيا يحمل خبزا لأهله وهو يلقى في مؤخرة سيارة للدرك، فحاولت استيقافهم لاستيضاح الأمر لكن دون جدوى، فهل صدرت الأوامر بنشر السكينة والأمن أم ببعث الخوف والرعب؟

أخطاء أمنية...

لقد تم اتخاذ هذه الإجراءات بطريقة شابها ويشوبها الكثير، فالدوريات المكلفة بحفظ الأمن تمركزت أساسا على الشوارع الكبيرة "المضيئة" مغفلة أن اللصوص والمجرمين لا ينفذون اعتداءاتهم عادة إلا في الطرق الضيقة والأماكن المظلمة بعيدا عن أعين رجال الأمن والدرك، كما أن السيارات التي يتم إيقافها يحتجز جميع ركابها باستثناء السائق، وهو استثناء لا مبرر له ولا مسوغ، إذ ليس الركاب بأخطر من السائق ولا بأقرب منه لارتكاب الجرائم، ثم إن اعتقال صغار السن والمسافرين الذين تعرف وجهتهم وحالهم ومن يحملون بطاقات هويتهم غير وارد هو الآخر.

ومن المثير للسخرية أن الذين يحتجزون فتملأ بهم السيارات والشاحنات ويساقون إلى المراكز الأمنية لا يلبث أكثرهم حتى يعود أدراجه بعد أن يتصل بقريب أو صديق أو حتى جار من المتنفذين، فلا يبقى في الحجز إلا الضعفاء ممن لا سند لهم في السلطة ولا يد لهم في الدولة، وهو ما يجعل العملية برمتها أشبه بعبث ولهو يقضي به الساهرون ليلهم.

إن الإجراءات الأمنية والتدابير الاحترازية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الوقت المناسب وسن من يتم توقيفه وهويته وحاله، فلا يوقف غير المشتبه فيهم وبذلك يصان وقت قوات الأمن والدرك وجهدهم عن ما لا طائل من ورائه ويتفرغون لحراسة الناس وممتلكاتهم وإشاعة الأمن والسكينة، فيحفظ حق المواطنين في الأمن دون أن ينتهك حقهم في حرية التنقل.

خرق للقانون...

إن حظر التجوال غير المعلن هذا وتقييد حرية الأفراد لساعات طويلة دون جرم أو حتى اشتباه، يعتبر خرقا صريحا لما يدعو إليه الشرع والقانون من حماية الحرية وصيانتها، وقد أكد الدستور الموريتاني على حماية هذه الحرية فقرر أنها لا تقيد إلا بقانون، ونفس الشيء أكد عليه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في بنده التاسع، فالتوقيف التعسفي محظور بالمادة 146 من مرسوم خدمة الدرك، ومجرم بالقانون الجنائي ومعاقب عليه في المادة 111 وما بعدها، ، بل إن قانون الإجراءات الجنائية صريح في أنه لا يمكن حرمان شخص من حريته إلا بمقتضى سند صادر عن سلطة قضائية، ويزداد الأمر خطورة إذا وقع الحجز على الصغار ممن لم يبلغوا 18 سنة إذ تصل العقوبة إلى 20 سنة كما نصت على ذلك المادة 54 من قانون الحماية الجنائية للطفل.
هفوة سياسية...

المفارقة أن هذا الإجراء –متعمدا أو غير متعمد- يشكل أيضا هفوة سياسية لها تبعاتها وآثارها التي يقدرها ويفهمها السياسيون -وقد ينتهزونها- وفيه محاولة لقلب السحر على الساحر فلا تعطي الحملة المتوخى منها، فاليافطات السياسية للأنظمة الحديثة تحمل عادة عنوان حماية الحقوق والحريات والعمل على إقامة دولة الديمقراطية والعدالة والقانون والمؤسسات، ولاشك أن الأزمة السياسية التي عرفتها البلاد مؤخرا، كانت بسبب عودة إشكالية الحكم الديمقراطي، وهو ما يجعل إتباع سياسات أمنية تقوم على حظر التجوال –والذي هو سمة من سمات الأنظمة الاستثنائية العسكرية- خطأ سياسي يفتح المجال على مصراعيه للأعداء السياسيين للنظام ليصفوه بالدكتاتورية والعسكرية والتعسف، خصوصا في جو ما يزال التقارب فيه بين الفرقاء السياسيين بعيدا، ونسمات الربيع العربي المبشر بالحريات لم تنقض بعد

إن الحق في الأمن حق دستوري أساسي تتعين حمايته ولكن يجب أن لا تكون هذه الحماية على حساب الحق في حرية التنقل –الذي هو أيضا حق دستوري أساسي– حتى لا ينقلب الأمن خوفا، وخط التوازن بين هذا وذاك خط رفيع يعلمه (الذين يستنبطونه منهم) وتتطلبه السياسة الأمنية الحكيمة ويدعو إليه القانون وتحتاجه الدعاية السياسية.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!