التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:06:45 غرينتش


تاريخ الإضافة : 27.03.2013 15:10:00

الشيخ البوطي: لم يترك لخصومه شيئا فحسدوه

عبد المالك ان ولد عبد الله

عبد المالك ان ولد عبد الله

أولى الشيخ الفقه والفكر كامل وقته، وآنس المنابر الثقافية وازدانت به مربيا وعالما، وصحب المحراب ليختم به مسيرته داعية وخطيبا مؤثرا، وطاف العالم حيث لمعت به المؤتمرات العلمية والجامعات العالمية، باحثا محققا، وحصيفا موسوعيا.

عرفت العلامة الشيخ الدكتور: محمد سعيد رمضان البوطي، من خلال الصورة التي نسجتها كتبه وبحوثه ومقالاته في وجداني، عندما بدأت أقرأ له، ورغم تخصصه في أصول الفقه وسيلان قلمه، فقد كان إلى جانب ذلك أحد الدعاة المربين بالقدوة، بما يجسد من سلوك رباني، وما يثير من أفكار تغري نفوسنا في التزام: الحق والمثل الأعلى، باعتبارهما الارتباط والمعيار دائما، حين يوزن الرجال بالحق ولا يوزن الحق بهم، ويعرفون به ولا يعرف بهم.

أتهم نفسي دوما بالتعصب، وأجاهدها –بتعهد- لأحملها على العدل والموضوعية، وأزعم أنني استفدت في قراءاتى من: محمد الغزالي، ومحمد سعيد رمضان البوطي، ومحمد سليم العوا، أكثر مما استفدت من: مصطفى مشهور، وسعيد حوى، ونحوهما.

ولقد أحببت في الفقيد: البوطي إخلاصه، كما خاطبه ذات مرة الدكتور: مصطفى السباعي: "ولقد أحببت فيك إخلاصك"، علق الدكتور البوطي: -بتواضعه المألوف-"هكذا يظن هو"، وما تأسفت على شيء أسفى على رحيله بهذه الطريقة المؤلمة.

ومن "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" –رسالة دكتوراه من الأزهر الشريف أواسط الستينيات- التي عكست أزهرية الشيخ بامتياز، إلى أكثر من 60 كتابا تتوزع بين الشريعة الإسلامية، وقضايا الفكر المعاصرة، والأدب، والفلسفة، والحضارة، والتربية، أضاف الشيخ البوطي وأسهم وشارك، بحكمة الداعية، وحرقة الأديب، ولوعة المربي، (فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة)، (شرح وتحليل الحكم العطائية في 5 مجلدات)، (المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني)، (شخصيات استوقفتني)، (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي)، (الجهاد في الإسلام.. كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟)، (الإسلام والغرب)، (منهج الحضارة الإنسانية في القرآن)، (الإسلام والعصر.. يغالطونك إذ يقولون).

كنت في الجزائر مع د. محمد المهدي ولد محمد البشير، وشيخنا د. محمد محمود ولد الصديق –ثلاثتنا- بما أتيح لنا من الاطلاع على سلسلة ملتقى الاجتهاد ومؤتمراته، عندما كانت تجمع أبرز أعلام الفكر والرأي المعاصرين، باحتضان الجزائر الحبيبة لها، فنكبر في هذا العالم موسوعيته، ويعجبنا في ذاك الفقيه منهجيته ودقة معلوماته، ويأسرنا باحث آخر في أسلوبه وابتكاراته، وأذكر أن شيخنا: الصديق، سألني مرة عن رأيي في بحثين حول الاجتهاد في الشريعة الإسلامية –في أحد كتب الملتقى- أحدهما للدكتور: يوسف القرضاوي – حفظه الله -، والآخر للمرحوم الدكتور: محمد سعيد رمضان البوطي، وأعطيته رأيي حينها، دون تجرد، وبعد 13 سنة، أستأذن زميلي أن أعود الآن لتغيير رأيي وتعديله.

الضيق بالرأي الآخر

أورد المبرد - في الكامل- "أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة، فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعونى وإياهم، وقد كانوا أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك، فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدودوه، فقالوا: قد أجرناك، قال: فعلمونا، فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى:(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه)، فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن"، لقد وصلت خطورة الاختلاف بين المجموعات والقوى، إلى درجة جعلت البعض – دون مبالغة - يضجر ويقلق من إخوته والمخالفين له في الرأي، مستريحا أكثر إلى "الآخر" الذي لا يجمعه معه وطن ولا دين، هذا الاختلاف الممجوج والهوى الغالب ينمو ويتضخم عند البعض، فيتملك شعور المرء ويقضى عليه حتى ينسيه المعاني الجامعة والصعيد المشترك والمقاصد والغايات، وكان أغلب خصوم الشيخ البوطي –رحمه الله- ضحية هذه المقاربة، فتناسوا سابقته ودعوته، وجهده وجهاده، وحاجة الأمة إلى علمه وفكره.

والواقع أن مصيبتنا في نفوسنا وقلوبنا، فقد اختلف سلف هذه الأمة، إلا أن تباين الآراء لم يكن سببا لافتراقهم، لأن وحدة القلوب والغايات والأهداف كانت أعظم من أن تنال منها الرؤى والمصالح، ولعامل تزكية النفس هنا دوره الذي لا يغفله متأمل –"إلا أنه كان لا ينام وفي قلبه غل لمسلم"، فاستحق البشارة بالجنة.

أحار عندما يصور البعض أنفسهم أنهم وحدهم من تربعوا على عرش الحقيقة، وهو وحدهم من يقدرون الصواب المحض في التوصل إلى مراد الشارع في قضايا الاجتهاد ونوازل العصر، ومن لم يحظ بأن يكون نسخة مكررة عنهم "فهو ضدهم".

ورغم أن هوايَ مع الحراك الشعبي والربيع العربي، إلا أن رأيي مع مذهب أهل السنة والجماعة –الذي كان الشيخ البوطي يصدع به ويلتزمه- فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، من قوله صلى الله عليه وسلم، من حديث عبادة ابن الصامت: "...أن لا ننازع الأمر أهله..."، أورد ابن عبد البر هنا، آراء وأقوال كل طائفة، وتعرض لخروج ابن الزبير والحسين على يزيد، وما حصل بين علماء العراق والحجاج، ثم أضاف: وتعلق طائفة من المعتزلة بهذا النهج لاحقا، واختاره الخوارج، ليصل إلى: "وأما جماعة أهل السنة وأئمتهم، فقالوا: هذا هو الاختيار أن يكون الإمام فاضلا عالما عدلا محسنا، قويا على القيام كما يلزمه في الإمامة، فإن لم يكن فالصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه: استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي الدهماء، وتبييت الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض، وهذا أعظم من الصبر على جور الإمام"، ابن عبد البر في الاستذكار، ولو عدت إلى الشيخين عند ما بوبا، في صحيحيهما: (الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم)، (طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق)، وما أثبتا تحت الموضوع من نصوص، لكان في الأمر كفاية وحجة.

إن غياب الرؤية الشاملة للأمور هي التي تجعلنا فريسة النظرة الجزئية والتبعيضية، المؤدية إلى التطفيف، (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، فلو لم يكن للشيخ البوطي من الحسنات إلا دعوته وتربيته وفكره وقلمه لكفاه، وكما نسر بأخطاء رموز معينة، يجب أن لا يدفعنا التعصب إلى إهدار صوابهم، واختزال تاريخهم في مجرد موقف.

حتى قناة الجزيرة –على تميزها وإكبارنا لدورها- كان أول خبر صاغته حول فجيعة الاغتيال: "مقتل البوطي..." متحررة من لقبه وتقديمه، وهي التي تعودنا أن تطربنا بموسيقى في شكل "بورتريه" مع كل نكرة بمناسبة وبدون مناسبة، لكن المشاهد لم يقرأ على شاشتها هذه المرة (ولد، تخرج، تقلد، مارس...).

من مصائبنا التعسف في التفسير

تجاوز الإعلام اليوم كل التصورات ووصل إلى حد التحكم والاختراق ومن ثم الاحتواء، ليسهم بقوة في تشكيل عقول الأفراد والجماعات، فهو يسوقنا ويحضر لنا، وينشئ القابليات، ويفقدنا ذواتنا دون أن نشعر، ومع ذلك فليس للمسلم أن يغفل أن مصدر التشريع في الإسلام: القرآن والسنة، وباقي الأدلة الشرعية، وليس اختيارات وتعسف استنتاجات في التاريخ الإسلامي، فالمصدران الأولان هما: الميزان في الحكم على فعل الناس بالخطأ والصواب، ولا يعدو الفكر الإسلامي أن يكون –في مجمله- اجتهادات بشرية لتنزيل القيم على الواقع أو تحويلها إلى فعل يصيب أحيانا ويخطئ، ولقد اختلف الصحابة والتابعون في الكثير من الأمور الاجتهادية، ثم اختلف الأئمة من بعدهم وإن لم يؤد اختلافهم إلى هوى أو شهوة أو رغبة في الشقاق، لأن أحدهم كان يبذل جهده وما في وسعه ليصيب الحق ويرضي الخالق، دون أن تكون له غاية أخرى، ولذا غلب في فكرهم وثروتهم العلمية، قاموس: "هذا أحوط"، "وأحسن"، "وهذا رأيي"، "ولا يعجبنى"، "وما به العمل عندنا"، "وأحب إلينا"، "ونكره هذا"، "وهذا ما ينبغى"، فلا تضييق ولا إقصاء ولا اتهام، ولا حجر على رأي من له من النص مستند، وإنما رحمة ويسر، وتخفيف وتعاون، وانفتاح على الناس لتيسير أمورهم وتحقيق مصالحهم، بعيدا عن التأثيم والحرج.

كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

ولمن لا يعرف فليس الفقيه: البوطي بدعا في التعاون مع نظام الحكم غير العادل، فهذا عبد الله ابن عمر، حين بويع ليزيد بن معاوية: "إن كان خير رضينا، وإن كان بلاء صبرنا"، كما يثبت ابن عبد البر في الاستذكار، وهذا: الشعبي، يلاطف الحجاج، ويعتذر إليه عندما جيء به إليه، وخاطبه: لا مرحبا ولا أهلا...، فيرد العالم والتابعي الجليل: "أصلح الله الأمير كل ما قلته حق، ولكنا قد اكتحلنا بعدك السهر وتحلسنا الخوف، ولم نكن مع ذلك بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، فهذا أوان حقنت لي دمى واستقبلت بي التوبة" فيقول الحجاج: "قد فعلت"، كما يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء، وهذا علي بن المديني: –يقول عن نفسه- "قوي أحمد على السوط، وأنا لا أقوى"، وقد أرضى ابن أبي داوود في فتنة خلق القرآن، وخاف الحاكم، وقال ابن معين: "كان علي بن المديني إذا قدم علينا أظهر السنة، وإذا ذهب إلى البصرة أظهر التشيع"، والعهدة في كل ما سردت عن الحافظ والمحدث: ابن المديني، على الذهبي.

لو راجع المتحاملون على الشيخ: البوطي أنفسهم، لحفظوا له منزلته وفضله ودوره، ولتوقفوا مع مناقشة فكره وآرائه، أكثر من النيل من شخصه ومحاولة تجريحه، فالأفكار لا تقارع إلا بمثلها، وكل إنسان يجرى عليه الخطأ والصواب، ويؤخذ من كلامه ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن "الروح الحزبية" و"تضييق" مفهوم الأخوة الإسلامية المتسع، كانا وراء حرمان الأمة من الكثير من الطاقات والكفاءات، وكرسا عدم الشجاعة على تمثل وإظهار الولاء للفكرة، حتى لا نقول: تغليب المصالح وحظوظ النفس، ولا يريد البعض أن يستحضر أن صاحب الهوى، أحد الأربعة الذين حذر الإمام مالك من الأخذ عنهم.

أدعو من صميم فؤادي، أن يتقبل الله العلامة الفقيه الدكتور: محمد سعيد رمضان البوطي في عباده الصالحين، ويجعل ما قدم للأمة في ميزان حسناته، فطالما سعى من خلال سيرته الحافلة ومسيرته العلمية، إلى دعوة الجميع بالحكمة والموعظة الحسنة، وتبصير الناس بالإسلام، والأخذ بأيديهم إليه شيئا فشيئا، لكن أزمتنا تبقى أزمة فكر بالدرجة الأولى، وقد "سئل الفضل بن موسى السينائي: ما تقول في هؤلاء الذين يقعون في أبي حنيفة؟ قال: إن أبا حنيفة جاءهم بما يعقلونه وبما لا يعقلونه من العلم، ولم يترك لهم شيئا فحسدوه".


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!