التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:21:48 غرينتش


تاريخ الإضافة : 18.05.2013 13:46:56

تراثية النص

محمد مصطفى ولد باب أحمد

محمد مصطفى ولد باب أحمد

يدل مصطلح التراث حسب اللغويين على الأشياء ذات القيمة المعنوية أو المادية التي يخلفها السلف للخلف أيا كانت ماهيتها فهو إذا بهذا المعني حلقة من حلقات التاريخية للمجتمعات الإنسانية فما المقصود بعبارة تراثية النص ..؟
هو منهج فكري أو منحى نقدي يعمد إلى تأرخة النص من خلال جعله وليد واقع زماني وموقع مكاني وحينئذ لا حرج أو لا بديل عن تجاوزه والقفز على أسواره

برز هذا المنهج مع ما عرف بعصر التنوير في القارة الأوربية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر فكان سلما للتحرر من السلطة الخارجية عن الذات حيث تمت ممارسته حينها على الكتاب المقدس في ما سموه بمصطلح "النقد الأعلى" والذي أفضى إلى العقيدة الماركسية التي تخبرنا بأن الآلهة مجرد صنيعة أقدم البشر على اختلاقها في لحظات ضعفهم ونزعوا عليها كل صفات الكمال والجلال المعدومة في حياتهم المعاشة، فكما يقول ماركس في عبارته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب "

هذا المنهج الغربي امتطته ثلة من دعاة الفكر في عالمنا العربي مسقطين ذات التجربة على النصوص الشرعية في دائرتيها القرآنية والنبوية , ولأن هؤلاء كما يقول محمد قطب مقتاتون على توابل غيرهم فقد اقتفوا الأثر ملهميهم شبرا بشبر وذراعا بذراع لذا كان من الطبيعي أن نجد نصر حامد أبو زيد : الواقع أولا والواقع ثانيا والواقع أخيرا، فالنص في ميزان هذا المنطق هو ثمرة واقع أو تعبير عن نشاط الذهن البشري كما عبر أحدهم والغريب أن يستدل أبو زيد لهذا المنهج بأن معظم الآيات القرآنية إنما نزلت نتيجة لأسباب ورود ،وهذا الاستدلال فاسد من وجهين

أولهما أن أكبر كتاب حمل أسباب النزول هو كتاب السيوطي" لباب النقول" والذي جمع فيه ما يربو على ثلاث مائة ونيف بما في ذالك الضعيف والموضوع، كل هذا في مقابل ما يزيد على الستة آلاف وست مائة آية قرنية هي آيات القرآن الكريم فهل هذه نسبة توصف بالأكثرية

ثانيهما أن خصوصية السبب لا تمنع عموم الحكم كما يقول الأصوليون لذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في ما رواه البخاري للرجل الذي أصاب من امرأة قبلة ونزل فيه آية الإسراء فظنها أن خاصة به (بل هي لمن عمل بها من أمتي )
وكم هو غريب أن يكون الإسلام نتاج واقع وهو الذي جاء للقطيعة مع الواقع بشتى صروفه ومعظم تجلياته لكن حقا إذا لم تستح فقل ما شئت .

إن الثقافة الواقعية كما سماها القرضاوي هي التي أسس لها الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:( إنك تأتي قوما أهل كتاب ....) لكن هذه الثقافة لم تولد للقضاء على النص وإنما لخدمته وتحقيق أهدافه فقدسية النص الشرعي اللازم ينعدم معه الإلغاء أو التجاوز له إلا وفق الضوابط التي رسمها النص ذاته وأجرى بها حدود سلطانه .
ربما خطأ هؤلاء أو خطيئتهم أنهم يزنون النص الديني بميزان النص البشري فعملية البناء التحتي والفوقي كما يسميها الفلاسفة والتي تجنح إلى أن النص صنيعة وعي فردي في ظل يافطة عقل جمعوي في مرحلة زمنية ما، مقبولة حينما يتعلق الأمر بحصاد الذاكرة البشرية, أما ونحن أمام خطاب ديني له ميزته وخصوصيته فإن نظرية كهذه تفقد الموضوعية والعقلانية .

إن الآلة الفلسفية التي أسسها العلماء للتعامل مع الخطاب الديني كانت ولا تزال حجر عثرة أمام دعاة التاريخية النصية ومن هنا لم يكن من الغريب أن نجد نصر حامد أبو زيد يصب جام غضبه على الإمام الشافعي في كتابه الذي سماه "تأسيس الإمام الشافعي لأيدلوجية الوسطية"
وما نقم منه إلا أن أسس علم أصول الفقه , ولعل من الطرائف هنا أن صاحب الكتاب يصف الشافعي بموالات الأمويين ومداهنتهم مع أن الشافعي قد ولد عام 150ه بينما كانت الدولة الأموية قد آلت إلى العباسيين عام 132ه فأي تنافض هذا ؟

إن ثنائية الثبات في المنطوق والتغير في المفهوم التي تحكم الخطاب الديني إنما تدور في دائرة الدلالة اللغوية التي يمنحها النص ذاته لا التي تفرض عليها خارج إطاره وفي ظل هذا الضابط تأتي مقولة علي رضي الله عنه النص "النص حمال أوجه " وليست ثمت تصادم بين إلهية النص المستوحاة من مصدره وإنسيته القادمة من وجهته كما يحاول أصحاب المشروع الكارثي حسب – حسب تعبير الدكتور محمد عمارة - أن يوهمونا , ولعلي أزيل الأمر إيضاحا في المرة القادمة إن قدر الله اللقاء والبقاء .


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!