التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:04:15 غرينتش


تاريخ الإضافة : 19.05.2013 21:44:09

المعارضة السياسية... وكيفية التعامل: رؤية شرعية

الأستاذ / محمد محمود ولد الجودة - INDB1686@GMAIL.COM

الأستاذ / محمد محمود ولد الجودة - [email protected]

كان العالم العربي قبل التغيير الذي أحدثته الثورات الأخيرة يوصف بأنه عنق الزجاجة أو النفق المظلم أو للعنة الأبدية والناظر إليه يقول إن جيل التغيير لم يولد بعد.

وكانت المعارضة الموجودة في الدول العربية مجموعة من الأحزاب التى طال عليها الأمد لا عمل لها ولا فائدة منها إلا المشاركة في انتخابات تعلم مسبقا أنها الفاشل فيها.

وفي أثناء الربيع العربي وبعده تبين أن للمعارضة مشاركة في التغيير وفي البناء وهو أمر يستدعي من الباحثين الاهتمام بها، وهو سبب هذه الأسطر التي تتحدث عن:

1- مفهوم المعارضة،
2- المبررات الشرعية لقيام المعارضة،
3- أهمية المعارضة،
4- حكم المعارضة،
5- كيفية التعامل معها.

أولا: المفهوم

المعارضة لغة: مشتقة من مادة عرض، وهي تعني المعارضة على سبيل الممانعة، تقول عارض فلانا في كلامه: أي ناقضه في كلامه وقاومه وعارضه أي جانبه وعدل عنه، والإعراض عن الشيء الصد عنه. (اللسان: 2/168).

وفي المعجم الوسيط: عرض له عارض من الحمى أصابه، ويقال سار فعرض له في الطريق عارض من جبل ونحوه: مانع. (المعجم: 2/ 599).

ويقول الجرجانى: المعارضة هي المقابلة علي سبيل الممانعة. (التعريفات: ص: 274).

والمتتبع لمادة عرض في كتب للغة وهي التي اشتقت منها المعارضة سيجد أنها لها معان كثيرة تدل عليها، أهمها ما يلي:
- المنع: فكل مانع من تحقيق الغرض فهو عارض.
- مجانبة الآخرين والعدول عنهم.
- المقابلة: ومنه معارضة الكتاب بالكتاب أي مقابلته، ومدارسة جبريل رسول لله صلي لله عليه وسلم القرآن تسمي المعارضة، لأنه يقابل حفظه على حفظه.

وغير ذلك من الدلائل لهذه الكلمة والمتمعن فيها يري بأنها معان متقاربة وكلها تجتمع في جوهر واحد هو (المواجهة والمخالفة والمنع والتحدي) (جابر قمحية / 51).

اصطلاحا:

والمعارضة بهذا للفظ في الجانب السياسي لم تكن معروفة عند المتقدمين، ولما ظهرت في الأزمنة المتأخرة عرفها الباحثون بتعريفات مختلفة ومتباينة فيما بينها، فقد عرفت المعارضة في الموسوعة السياسية بأنها: الأشخاص والجماعات والأحزاب التي تكون معادية كليا أو جزئيا لسياسة الحكومة. (الموسوعة 1/623).

ويري بعض الباحثين أن المعارضة لها معنيين أحدهما عضوي أوشكلي ويقصد به الهيئات التي تراقب الحكومة وتنتقدها وتستعد للحلول محلها, والآخر مادي وهو النشاط المتمثل في رقابة الحكومة وانتقادها والاستعداد للحلول محلها. (الدولة في ميزان الشريعة ص /270 )

إلا أن المستقرئ للكتب السياسية التي عرفت المعارضة من الناحية الاصطلاحية يرى بأنها انطلقت من أنها تعني العداوة والتنافس وشيئا من الحقد الدفين بين الطرفين المتنازعين، والنظرة الإسلامية للمعارضة تخرجها عن هذا المفهوم فهي تعني النصيحة والحب والتعاون على المصلحة العامة، ولهذا في الفقه الإسلامي المعارضة ليست هدفا يقصد لذاته ـ تعارض من أجل أن تعارض ـ وإنما هي وسيلة تقوم علي ركنين أساسين: المطالبة بالإصلاح والمراقبة، فإذا تحقق الإصلاح واتفق أهل الحل والعقد بأنه موجود لم يبقي للمعارضة حينئذ إلا المراقبة.

وعليه يمكن تعريفها بأنها: المجموعة التي تمثل الوحدة والتوحد والوقوف صفا واحدا متراصا في مقابلة الأخطار التي تعاني منها الدولة والشعب وتبحث عن المصلحة العامة بعيدا عن الفئوية والحزبية، وتسعى لإتاحة الحريات العامة وتحقيق العدل والمساواة.

المبررات الشرعية لوجود المعارضة والمشاركة فيها

لم يكن لفظ المعارضة السياسية موجودا في الفقه السياسي الإسلامي بهذا التعبير، وكانت هناك مصطلحات شرعية تمارس المعارضة من خلالها وباسمها، ويعبر عنها تارة بالنصيحة للأمراء، وتارة بالأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، وتارة بقول الحق أمام السلطان الجائر.

ومن أهم المبررات الشرعية لوجود المعارضة في زماننا أنها هي الوسيلة التي يتم بها الضغط على الحكام من أجل تحقيق العدل والقيام بالقسط بين الناس، وهو الأمر الذي قامت به السماوات والأرض، وبعث لله الرسل من أجله، يقول بن القيم رحمه لله تعالى: إن لله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض إذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع لله ودينه ورضاه وأمره... ولله تعالي لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره... فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذاتها وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد. (إعلام الموقعين: 4/373).

ومن المبررات كذلك أن المعارضة للحكام داخلة في النصيحة التي حصر النبي صلي لله عليه وسلم الدين فيها حين قال "الدين النصيحة" وذكر من ذلك النصيحة لأئمة المسلمين.

ومنكر الحكام من أخطر المنكرات ضررا لأن لله يؤاخذ به الجميع إذا سكتوا عليه، وفي الحديث إن لله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر عليه العامة أن تغيره ولا تغيره فذلك حين يأذن لله تعالى في هلاك العامة والخاصة (أحمد 17267 الطبرانى 138/17).

قال المبارك فوري معلقا على الحديث يصيبكم عامة بسبب مداهنتكم (تحفة الأحوذى 329/6).

والمشاركة في إزالة هذا المنكر من أفضل العبادات لأنها تترتب عليها مصالح العباد وخصوصا الضعفاء من المسلمين.

ومن المبررات كذلك: تحمل المسئولية التي لم يعف منها مسلم على الإطلاق، فالله عز وجل خلق الخلق لعبادته (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وعرض عليهم الأمانة فامتنعوا من حملها وحملها الإنسان، كما قال تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، وأرسل الرسل من أجل توضيح الأمانة ومعالمها وإيصالها للناس كافة، كما قال تعالى (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وهي تتمثل في الدين الذي جاء به الأنبياء وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ولا يمكن حمل بعضه دون بعض.

وقد أعلن النبي صلى لله عليه وسلم ذلك وهو في بداية دعوته قبل تأسيس الدولة حين كان يعرض نفسه على القبائل، فقال لقبيلة بني شيبان إن دين لله لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه. (الثقات بن حبان 1/70).

وقد أعلنها مفتي الجمهورية حينما أراد البعض أن تكون السياسة والمشاركة فيها ليست من صفات المومنين الصادقين، وأشيع عن طريق التعمد أنها فن الكذب ولا يشتغل بها إلا من كان من أهل التملق والنفاق، فقال عليه رحمة لله ورضوانه: دين بلا سياسة لا يستقيم، وسياسة بلا دين عار الدنيا ونار الجحيم.

ولما قرء الدكتور الريسونى أطال لله في عمره كلاما ينسب تارة إلى مالك وتارة إلى الشافعي من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن جمع بينهما فقد تحقق.

فقال هو على منواله: من تدين ولم يتسيس فقد ترهبن، ومن تسيس ولم يتدين فقد تعلمن، ومن جمع بينهما فقد تمكن.

فالمشاركة في المعارضة والتعاون عليها داخل تحت قوله تعالي: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ).

أهمية المعارضة

إن كثيرا من شعوب العالم يقضي أكثر أيامه في ظروف صعبة يسودها القمع والكبت من طرف الأنظمة الدكتاتورية، وما ذلك إلا بسبب عدم وجود المعارضة المنظمة التي حملت علي عاتقها هم الوطن والمواطنين.

والناظر في المعارضة المنظمة يرى أن أهميتها تتمثل في ثلاثة أمور:
- ضمانة ضد هلاك الدولة:
فوجود المعارضة المطالبة بالإصلاح سبب لعدم هلاك الدولة، لأنه إحياء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب قد مات فيه منذ عقود، ورسول لله كان يحدث اصحابه عن هلاك الأمم قبلهم وعن سبب هلاك هذه الأمة، وأكثر الأحاديث الواردة في ذلك تتعلق بالمنكر العام الذي يظهر في الأمة وتسكت عليه من ظلم ونحوه، (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها) أحمد 2/163.

- ضمانة ضد استبداد الحاكم:
وخصوصا في هذا الزمن الذي ضعف فيه الوازع الديني والوازع الإنساني لدى كثير من حكامنا، وكثر فيهم الهلع والجشع، ولأنه من المعروف قديما عند كل الفلاسفة والسياسيين أن استبداد الحكام وظلمهم ولعبهم بثورات المواطنين ليس أمرا وراثيا ولا قدرا نزل على شعوبهم من السماء، وإنما هو أمر تقبله الشعوب أو ترفضه، فقديما قيل لفرعون من فرعنك، قال الناس، والقرآن الكريم ذم بني إسرائيل بسبب أنهم قبلوا ظلم فرعون وإهانته لهم (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ).

- ضرورة للارتقاء بالدول المتخلفة:
لأنها تطالب وتسعى وراء إماتة السنة الفرعونية والتي تتمثل في حكم الحزب الواحد، والرأي الواحد، وهي السر وراء تأخر الدول العربية اليوم لأن كثيرا من العقول غيب عن مكان القرار والتأثير بسبب هذه السنة المقيتة (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى)

وتريد إحياء السنة السياسية التي طالب بها الخلفاء الراشدون لأهميتها وهي المفتاح الأساسي الذي انتشر به العدل في القرون الأولى، وانتصر به الصحابة في وقتهم على أعظم الدول ـ فارس والروم ـ وهي الشورى وهي التي تضمن الصواب في اتخاذ القرارات ومشاركة كل العقلاء في بناء الدولة، وآخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها.

حكم المعارضة

إن الناظر في الفقه الإسلامي يرى أن المعارضة للحكام اختلفت احكامها باختلاف مراحل الأمة في تاريخها وطبيعة من يحكمها.

فنرى في مرحلة الخلفاء الراشدين وهم فقهاء الأمة وقدوتها أن المعارضة كانت مشروعة وهم أول من طالب بها، فقد ثبت عن الصديق أنه قال: فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.

وثبت عن الفاروق رضي لله عنه أنه قال: إن رأيتم في اعوجاجا فقوموه. فقام إليه أحد الأعراب قائلا بكل حرية وأمان: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا.

كما ثبت عن أمير المؤمنين علي بن ابى طالب أنه خطب الناس فقال: فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تظنوا بي استثقالا لحق يقال لي، أو لعدل يعرض علي، فإن من استثقل الحق أن يقال له والعدل أن يعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست أعلى من الخطإ.

لكن نرى أن هذا الخطاب والمطالبة بالمعارضة لم يطل في تاريخنا، ففي عهد قريب من عهد الراشدين كان خطاب الحاكم قد تغير ومنع المعارضة، فها هو عبد الملك بن مروان يقول في خطبته في مكة: إني ولله ما أنا بالخليفة المستضعف؛ يريد عثمان بن عفان، ولا بالخليفة المداهن؛ يريد معاوية بن أبي سفيان، ولا بالخليفة المأفون؛ يريد يزيد، فمن قال لنا برأسه كذا، قلنا له بسيفنا كذا، ثم نزل (العقد الفريد 401/1).

وكان واليه الحجاج بن يوسف الثقفي يري تكفير الخارج على السلطان وطرده من الملة، ويري كذلك أن كل ما قام به في سبيل السلطان من قمع المعارضين وقتل بعضهم هو في سبيل لله يرجو ثوابه عنده.

بتغير خطاب الحاكم ومعاملته للمعارضة تغير الحكم في رأي كثير من فقهاء ـ عصور التراجع الحضاري والتغلب السياسي ـ (وصف: لمحمد عمارة).

واضطروا لتأويل أحاديث لم يؤلها أبو بكر ولا عمر ومن في زمنهم، فمنع بعضهم المعارضة، واستند على أحاديث حرفها وأخرجها عن سياقها، فاستدل بعضهم على منعها بحديث (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني).

ونسوا الرواية الأخرى للحديث، والتي هي في صحيح مسلم ونصها: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني).

فسياق الحديث يدل على أن المقصود أمير من الأمراء للنبي صلي عليه وسلم في إحدى الغزوات، ولا يعم كل الأمراء على مر التاريخ.

بل ونسوا ما هو أكثر من ذلك، وهو أن الأمير - في مصطلح عصر النبوة - هو أمير الجيش وقائد القتال... وليس الوالي والعامل ورئيس الدولة...! ولطاعة أمراء الحرب في القتال مقتضيات ومقاصد وآليات مختلفة تماما عن شورى ومراقبة ومحاسبة ومعارضة الحكام في شئون السلم والعمران...! إلى غير ذلك من الاستدلالات الباطلة وتحميل النصوص ما لا تتحمل...!.

وحقيقة حكمها أنها من أفعال المكلفين التي الأصل فيها الإباحة، وتعرض لها الأحكام الشرعية الأخرى الوجوب والحرمة والكراهة.

فتكون المعارضة واجبة إذا كانت من أجل الغضب لحدود لله من أن تنتهك أو للشريعة من أن تخالف أو تأكد لدى الفرد أن الحاكم أو من ينوب عنه يقوم بمنكرات ربما تكون سببا لهلاك الشعب أو إفساد ثروات البلد، لأن المحافظة على المصلحة العامة من الهلاك والضياع من أهم الواجبات في الإسلام.

وتأخذ المعارضة حكم الندب فيما إذا كانت الدولة الإسلامية نشرت العدل بين الناس وحرصت على الضروريات التي يحتاجها الشعب وبقيت عليها بعض الكماليات، فتندب المعارضة من أجل تحسين ظاهر الدولة.

وتكون المعارضة لها حكم الحرمة إذا كانت ترفض حكما من أحكام لله أو تعترض على أمر من الأمور التي جاء بها رسول لله صلي لله عليه وسلم، لأن مثل هذه الأمور لا تحتمل المعارضة.

وتنال حكم الكراهة في حالة ما إذا وقع الحاكم في أمر يستوجب الإنكار عليه ولكن ظروف الدولة لا تسمح بوجود رأي آخر بسبب مجاعة أو حرب أو عدم استتاب الأمن مثلا، فإن المعارضة في هذه الحالة تتريث وتنظر في أخف الضررين؛ الصبر علي الحاكم حتى تمر هذه الفترة، أو الإنكار عليه وتحكم القضية بفقه المرحلة.

كيف يتم التعامل مع المعارضة:

من المعروف في التاريخ الإسلامى أن أول معارضة وجدت يمكن أن توصف بأنها معارضة منظمة لها مطالبها وأهدافها هي المعارضة في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي لله عنه وأرضاه.

وقبل ذلك وجدت معارضة من أفراد كما وقع لسعد بن عبادة مع الصديق، وكانت معارضة فردية صامته، أو من جنود كما وقع للجيش الإسلامي بعد الفتوحات في زمن عمر، وكانت معارضة قوية حتى كان عمر يسأل الله أن يعينها على أهلها ثم حسم أمرها بعد ذلك بالمشورة.

ولذلك سنقف مع المعارضة في زمن عثمان رضي لله عنه وكيف تعامل الخليفة الراشد مع مطالبها والمشاكل التي رفعتها، وكيف شارك كبار الصحابة في إيصال هذه المطالب إلى الخليفة، ودخلوا في المشاورة معه مما يلزم العلماء في كل زمان ومكان أن يتحملوا هذه المسؤولية، وينظروا في المطالب التي ترفعها المعارضة، ويكونوا واسطة بين الأطراف حفاظا على المصلحة العامة للبلد.

والناظر في هذا التعامل يرى أنه مر بمرحلتين أساسيتين:

المرحلة الأولي: تعامله مع المعارضة وهي لم تنتظم بعد ولم تصل إلى عاصمة الدولة الإسلامية لكنها استعملت وسائل الإعلام في بلدانها، وأشاعت الأمور التي تريدها وتلاحظها على الخليفة حتى وصل أمرها وخبرها إليه.

المرحلة الثانية: تعامله معها بعد أن انتظمت وتجمعت من ولايات إسلامية متعددة، وانتقلت من أماكنها للقاء الخليفة.

المرحلة الأولي:
أ‌- التحقق مما تقوله وتطالب به:
فأول ما فعله عثمان رضي لله عنه بعد ما بلغه التذمر في بعض الأقاليم والشائعات التي تقال عنه وعن حكمه هو أنه أرسل رسله لتقص الحقائق، فأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، ومحمد بن مسلمة للكوفة، وأسامة بن زيد للبصرة، وعبد لله بن عمر للشام، ليتأكدوا له مما يقال ويشاع.

ب - الاجتماع بالولاة والوزراء والتحقق مما يقال في جهة كل واحد منهم:
فقد بعث عثمان إلى ولاته على الأمصار ليتحقق مما يقال ويشاع عنهم من الظلم فقدموا عليه؛ عبد لله بن عامر من البصرة، ومعاوية بن أبي سفيان من الشام، وعبد لله بن سعد من مصر، ومروان كان في المدينة، وأدخل معهم عمرو بن العاص.

فقال: ويحكم ما هذه الشكاية، وما هذه الإذاعة، إني ولله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم، وما يعصب هذا إلا بى، فقالوا له ألم تبعث ألم نرجع إليك الخبر عن القوم، ألم يرجعوا ولم يشافهم أحد بشيء، لا ولله ما صدقوا ولا بروا ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، وما هي إلا الإذاعة لا يحل الأخذ بها ولا الانتهاء إليها... (الطبري 2/620).

ج ـ الاجتماع بالبرلمان والتراجع عن الأخطاء:
فقد اجتمع عثمان رضي لله عنه بالبرلمان والذي كان يمثله في ذلك الوقت أهل الشورى الذين عينهم عمر بن الخطاب، وهم طلحة وسعد وعلى والزبير للتشاور معهم في المستجدات والتذمر الذي بدء في بعض الولايات الإسلامية، ومن أسبابه التي أشيعت أن الخليفة أعطى بعض أقاربه كثيرا من الأموال ـ وهو رضى الله عنه كان رجلا غنيا وقد أعطي بعض أقاربه من ماله لا من مال الدولة ـ ومع ذلك لما اجتمع بالبرلمان اعتذر لهم عن الأموال التي أعطاها اجتهادا منه، وقال: (رأيت أن ذلك لي فإن رأيتموه خطئا فردوه فأمري لأمركم تبع، قالوا: أصبت وأحسنت، قالوا: أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد ومروان وكانوا يزعمون أنه أعطي مروان خمسة عشر ألف وابن أسيد خمسين ألف فردوا منهما ذلك وخرجوا راضين (الطبري 2/650).

د ـ الاستجابة لطلبات الشعب:
فالوالي هو الممثل الشرعي للحاكم، ولما تحرك أهل الكوفة وطالبوا بخلع الوالي عنهم، وهو سعيد بن العاص خلعه عثمان رضي لله عنه لأنه يعلم ان الشعب لا ينبغي أن يحكمه ويتولى أمره إلا من يريده، وكتب إليهم في ذلك كتابا قال فيه: أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، والله لا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه ولا شيئا كرهتموه لا يعصى لله فيه إلا استعفيتم منه أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم علي حجة (الطبري 2/644).

هـ ـ تحرك العلماء والدعاة وأهل الشأن من أجل التحقق:
وهو ما يثبت من هذا الخبر الذي رواه عمرو بن دينار قال: لما ذكروا من شأن عثمان الذي ذكروا، أقبل عبد الرحمن بن عوف في نفر من أصحابه إلى عبد لله بن عمر، فقالوا يا أبا عبد الرحمن ألا ترى ما قد أحدث هذا الرجل، فقال: بخ بخ... (ابن أبي شيبة في المصنف: 37692).

عثمان والموقف من القمع:
في الفقه السياسي الإسلامي لا مكان لقمع المعارضين الذين يطالبون بالحقوق المشروعة والمساواة بين أبناء الدولة لأن رسول لله صلي لله عليه وسلم وهو في بداية بناء الدولة وجد معارضة قوية من حزب عبد لله بن أبي ومن معه من المنافقين، وكان خطرها على الدولة الإسلامية واضحا، ومع ذلك لما استشير النبي صلي لله عليه وسلم في قتلهم قال: لا، بل نحسن صحبته لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه (البخاري ح/3518).

بهذا الفقه السياسي ربي محمدا صلي لله عليه وسلم أصحابه، ومنه أخذ عثمان موقفه من قمع المعارضة لما استشاره أمير مصر عبد لله بن أبي السرح في أن يعاقب عمارا ومن معه من قادة المعارضة في مصر، فقال له عثمان: بئس الرأي رأيت من أن آذن لك بعقوبة عمار وأصحابه، فأحسن صحبتهم ما صحبوك، فإذا أرادوا الرحلة فأحسن جوازهم، وإياك أن يأتيني عنك خلاف ما كتبت إليك (تاريخ المدينة 3/1123).

بهذا التعامل الحضاري الراقي عامل عثمان المعارضة، ووقف من القمع موقفه الواضح، وحذر واليه من قمع من هو في حوزته من رجال المعارضة، وأمره أن يحسن صحبتهم ما داموا معه فإذا أرادوا الرحيل فليحسن جوازهم.

عائشة والموقف من القمع:
تأتي وسيلة إعلامية كاذبة توصل خبرا إلى أمنا أم المؤمنين عائشة رضي لله عنها مفاده أن عثمان قتل المعارضين الذين قدموا إليه من مصر، فتقول أمنا كلاما يؤخذ منه رأيها في المعارضة وموقفها من القمع.

قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ يقتل قوما جاءوا يطلبون الحق ويرفضون الظلم ولله لا نرضى بهذا (الطبري 3/7).

المرحلة الثانية
المعارضة الآن قد انتظمت في ولايات مختلفة مصر والعراق وتمت المواصلات فيما بينها وحددت وقتا لخروجها إلى عاصمة الدولة الإسلامية للاجتماع بالخليفة، وكان يتزعمهم جماعة من الصحابة عبد الرحمن بن عديس البلوي، وهو ممن بايع النبي صلي لله عليه وسلم تحت الشجرة، وعدي بن حاتم الطائي، وعمر بن حمق الخزاعي، وجندب بن زهير الغامدى، وجندب بن كعب الأزدي.

وكان معهم من كبار التابعين من سادات العرب وقرائهم لأشتر النخعي، وكميل بن زياد، وعمر بن الأصم، ومحمد بن أبي بكر، فهذه جماعة من الصحابة والتابعين كانت تمثل المعارضة السلمية التي لها مطالبها وأهدافها.

فما كان من عثمان رضي لله عنه إلا أن استقبلهم احسن استقبال وجلس معهم على طاولة الحوار، وسألهم عن اعتراضاتهم وبلغ به الأمر رضي لله عنه أن قال لهم إن وجدتم أن تضعوا رجلى في قيد فضعوها (تاريخ بن خياط 171).

وفي رواية: (هاتان رجلاي إن وجدتم في كتاب لله عز وجل أن تضعوهما في القيود فضعوهما (بن حبان 6919).

ثم دعي عليا وجابر بن عبد لله للحضور للاجتماع مع المعارضة والسماع منها، وكانت مطالبها تتمثل في الآتي:

المساواة بين أهل المدينة وغيرهم في العطاء:

قال عثمان: ما تريدون، قالوا: ألا يأخذ أهل المدينة عطاء فإنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد صلي لله عليه وسلم (الطبري 2/655).

ثم وقع الاتفاق على وثيقة سياسية بين فيها المعارضة بحضرة علي بن أبي طالب، وكان جابر بن عبد لله شاهدا عليها ومفوضا من قبل أمير المؤمنين عثمان، فقال لهم علي بن أبي طالب تعطون كتاب لله وتعتبون من كل ما سخطتم، فأقبل معه ناس من وجوههم، فاصطلحوا على خمس أن المنفي يقلب والمحروم يعطى ويوفر الفيئ ويعدل في القسم ويستعمل ذو الأمانة والقوة، وأن يرد بن عامر علي البصرة وأبو موسي علي الكوفة وكتبوا بذلك كتابا (بن خياط 169).

والناظر في هذه الوثيقة يري بأنها تضمنت الأمور التالية:
- الالتزام بالمرجعية الدستورية والقانونية للدولة في الأمور العامة وهي الكتاب والسنة.
- استعمال ذو القوة والأمانة في الوظائف العامة (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
- المساواة والعدل بين الرعية في العطاء.
- عدم إعطاء المال العام إلا لمستحقه.
- عدم حرمان المعارضة أو أحد أفرادها من حق يستحقه.
- أن يرد عثمان الولاة الذين عزلهم والناس يريدونهم.

وقبل الخليفة الراشد رضي لله عنه مطالب المعارضة، ووقع على هذه الوثيقة، ثم تكلم بعد ذلك وشكر المعارضة وبين فضلها، فقال: ما رأيت ركبا خيرا من هؤلاء، والله إن قالوا إلا حقا، وإن سألوا إلا حقا (بن أبي شيبة في المصنف 7/520).

في تعامل حضاري رفيع تحتاج إليه أمتنا اليوم في وقت تعود الحكام فيه على قمع المعارضين والمطالبين بأبسط الحقوق ووصفهم تارة بالجرذان وتارة بالعجزة.

وكان كل هذا قبل ظهور الأيادي الخبيثة التي ظهرت بعد ذلك.

استرشد الغرب بالماضي فأرشده *** ونحن كان لنا ماض نسيناه


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!