التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:12:29 غرينتش


تاريخ الإضافة : 05.09.2008 08:07:17

تحالف الشمـال .."أنا أو الطوفان"



المصطفى ولد البح – باحث في العلوم السياسية
[email protected]

لم يخف على الرأي العام الوطني من أول يوم من انقلاب 6 أغسطس أسبابه الداخلية الشخصية في غالبيتها والسياسية لمدبريها ، فقد جاء الانقلاب في سياق أزمة سياسية مفتعلة أريد لها أن تكون غطاء لهكذا انقلاب على شرعية الجمهورية الرابعة في موريتانيا حديثة التأسيس بل لا أعتقد أن الجنرال كلف نفسه - لما وضع السلطة الفتانة بطبعها نصب عينيه التواقتين لها- سبر محاذير الفشل أو استشراف مخاطر تداعيات انقلابه المتحيز ضد مصلحة موريتانيا بالتحالف على حسابها باسم الجيش والأمن الوطنيين الذين ثاروا يوما على السلطة المدنية لوقف الحرب ، لكنه استغل الفرصة السانحة بالتأكيد زمن اللحظة المواتية ليجد نفسه مع من حوله من بباغاوات من يحكم طوعا أو كرها (المحكوم بهم ) وقود معركة قديمة جديدة لا ناقة لموريتانيا فيها ولا جمل بين المغرب وجيرانه في خارطة إقليمية معقدة قد تدفع بالبلد من جديد إلى أتون أزمة خرجتها الدولة منذ وقت طويل، وذلك ما غاب عن كثير من المحللين لدوافع وسياق الانقلاب أردت تسليط الضوء عليه في هذه المعالجة .
سياسة الحياد إزاء النزاع في الصحراء الغربية :
عرف عن موريتانيا منذ انقلاب 10 يوليو 1978 في سياستها الخارجية حيادها الرسمي في الصراع المزمن بين المغرب وجبهة البوليزاريو في قضية الصحراء الغربية التي خرجت منها كما هو معلوم إثر الانقلاب المذكور بعد ما أشرفت الدولة الموريتانية الفتية علي الانهيار بسبب حسابات خاطئة في حرب استنزاف كادت أن تقضي علي الطرف الأضعف في سياق التنافس التقليدي بين الجارين الجزائر والمغرب
ومنذ ذلك التاريخ والسياسة الخارجية الموريتانية تتشبث بأهم ثوابتها الإقليمية هذا " الحياد " الذي لم يتغير رغم تبدل الأنظمة المتتالية التي كانت في جلها عسكرية صرفة أو مدنية بعد خلع البزة العسكرية كما هو الحال مع نظام ولد الطايع، وقد استطاعت موريتانيا بذلك أن تحفظ مصالحها القومية وتحافظ علي علاقاتها المغاربية في وجهتها الصحيحة ، فهي يكفيها أن خسرت القضية ابتداء ، لكنها لا تتحمل أكثر من ذلك وإن كان بعض المحللين يرون أن الرئيس الراحل المختار ولد داداه باتفاقه مع المغرب على تقسيم الصحراء أجهض على الأقل مزاعمه التاريخية نهائيا في التوسع الجنوبي والمطالبة بالأراضي الموريتانية ولو أن ذلك لم يتم باتفاقية ترسيم للحدود بين البلدين كما هو الحال مع الجزائر التي وقعت معها موريتانيا اتفاقية ترسيم الحدود حسب الوضع الموروث عن المستعمر الفرنسي أبرمها البلدان 13 ديسمبر 1983 بالجزائر.
مصالح الجزائر ومطامع المغرب :
إن هذا الاختلاف في طبيعة العلاقة القانونية والسياسية بين موريتانيا وجارتيها الشماليتين يشير إلي فرق جوهري لم يزل يوجه التداعيات المستمرة في الوضع الموريتاني إلي اليوم
فالمغرب لا يزال يتعاطى مع الشأن الموريتاني بعلاقات خاصة تستبطن مطامع ترابية وإستراتجية ليس أقلها أن تكون موريتانيا حظيرة خلفية للمغرب تقطع الطريق أمام طموحات الشعب الصحراوي في التحرر ولو ضمن الحكم الذاتي الذي يقدمه المغرب من طرف واحد ويرفضه الصحراويون في المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة اليوم بين الطرفين ، ولأجل ذلك لم يتورع المغرب وهو العارف بدقائق التنوع الاثني والقبلي الموريتاني بالتدخل في السياسة الداخلية الموريتانية بدعم هذه المجموعة أو تلك ، أو حتى الوقوف وراء الانقلابات العسكرية الموالية له كالمحاولة الانقلابية الفاشلة في 16/مارس 1981 ناهيك عن إصرار المغرب إلي الآن على تأجيل قضية الحدود مع موريتاينا التي يخشى أن تقود إلي مطامع جديدة خاصة في شبه جزيرة " لكويرة" التابعة لداخلة نواذيبو، يعزز ذلك ما نقلته بعض المصادر الإعلامية مؤخرا من طلب المغرب من الرئيس ولد الشيخ عبد الله المشاركة في تسيير ميناء انواذيب المستقل (جريدة الخبر الجزائرية العدد 5417 -03/09/2008 ) ، وما نشرت بعض الصحف المغربية ( يومية "الجريدة الأولى" في عددها 78 بتاريخ / 17 /08/2008) من أن " الانقلاب الأخير كشف أن المغرب لا يمكن أن يدير ظهره لما يستجد في موريتانيا ما بقى مشكل الصحراء قائما, وأن إرسال المغرب مسؤول المخابرات العسكرية ياسين المنصورى أظهر ابراغماتية موصولة في التعاطي مع تطورات الداخل الموريتاني., فالمغرب - دائما حسب الصحيفة - لا يهمه ديمقراطية الحكم في التأثير في الشأن الموريتاني. بقدر ما تهمه حماية مصالحه التي قد تتضرر عند الانتصار لهذا الطرف أو ذاك لذلك تريث المغرب قليلا وانحاز للمعسكر الفائز حيث التأييد المغربي غير المعلن له ثمن يتعين على الحكام الجدد تسديده وتصريفه في مواقف لنيل ثقة بلد يملك الكثير من العناصر – على حد قول الصحيفة المغربية - " ولذلك كانت أول الإقالات في مجلس وزراء المحكوم بهم تنحية مديري شركة المحروقات وميناء نواكشوط المستقل باتجاه إحكام سيطرة تحالف الشمال على مراكز الطاقة ومنافذ النقل خدمة للمطامع المغربية وتحجيما لما تحقق في الحقبة الماضية من توازن في الشراكة الاقتصادية والتجارية للدولة ومؤسساتها حسب مؤشرات المصلحة الوطنية ومزايا التعاون المتنوع إن مع الجزائر أو الصين أو فرنسا أو دول الخليج .
بينما تتميز العلاقة مع الجزائر بأنها مستقرة - إذا ما استثنينا الجمود الذي طبعها سنوات القطيعة الثلاث فترة حرب الصحراء (1976/1979 ) وهي علاقات ذات مردوية نوعية على الاقتصاد الموريتاني في غالبيتها، فقد دعمت الجرائر منذ الاستقلال الشعب الموريتاني في أهم قراراته السيادية ليس في قضية استقلاله لما كانت المغرب تعرقله عقدا من الزمن ، بل وأيضا في قرار تأميم " MIFERMA " الذي كانت فرنسا تعارضه وكان الريس الجزائري الأسبق هواري بومدين كما نقل عنه الرئيس الراحل المختار ولد داداه في مذكراته مستعدا حتى للتدخل العسكري لحماية قرار التأميم في حال عرقلته من فرنسا ، كما دعمت الجزائر قرار إنشاء العملة الوطنية الأوقية ...ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أنه لا مصالح للجزائر في موريتانيا بل إن الدارسين يدركون البعد الاستراتيجي لموريتانيا بالنسبة للجزائر فهي النافذة الأهم لها على الموانئ الأطلسية والتواصل مع إفريقيا الغربية عبر نواكشوط وانواذيبو، بل لا تخفي الجزائر تاريخيا مصالحها التجارية مع موريتانيا في استغلال وتسويق السمك مقابل الطاقة المحتاجة لها موريتانيا ( الغاز، البنزين ..) وقد وجدت تاريخيا نماذج من ذلك كالشركة الموريتانية الجزائرية للصيد ALMAP، والشركة الجزائرية الموريتانية للغاز Somagaz كما تعتبر موريتانيا بالنسبة للجزائر الجارة الجنوبية التي تمس أمنها الإقليمي في خضم الصراعات المتجددة بين الطوارق ودول المنطقة ذات الأقلية الطارقية كالجزائر والنيجر ، والخطر المشترك من الجماعات "الجهادية" المسلحة في المنطقة تماما كما المغرب في نزاعه مع الصحراوين ، غير أن هذه المصالح في مجملها متبادلة وكثيرة المزايا الاقتصادية لموريتانيا دون أن تتطلب منها تنازلا عن المصلحة الوطنية ولا إرادة جزائرية للاستغلال خاصة إذا تمسكت موريتانيا بحيادها الايجابي الذي يتصور قضية الصحراء الغربية مسألة نزاع بين طرفين هما وحدهما من يضع ملامح حلها وأن موريتانيا مثلما الجزائر لهما الدور الايجابي في المساعدة والمراقبة ضمن بعثة الأمم المتحدة ليس إلا ، وهو تماما ما يتطابق مع الموقف الجزائري المعلن رغم أن الصحراوين وجدوا في البلدين ملاذا يعوضهما مرارة الظلم المغربي المتنكر لحقهم في تصفية الاستعمار كباقي شعوب المنطقة ، وكما يقول المثل الموريتاني " الل ما اختر عنك غير نفسه ما تنشا ف اعليه " ولو كان لموريتانيا أن تتدخل في الصراع لكان لصالح استعادة إقليم واد الذهب وهو ما ضربت عنه السياسة الخارجية الموريتانية صفحا منذ توقيعها اتفاقية الجزائر أغسطس 1979 التي انسحبت بموجبها من إقليم واد الذهب واعترفت بالجمهورية الصحراوية مثل أغلب المجموعة الإفريقية ، ولكنها بالمقابل لم تدعم الجبهة في مواجهة المغرب كالجزائر .
الانفتاح الاقتصادي والحياد السياسي :
كما أسلفت استطاعت موريتانيا حتى مع أيام ولد الطائع الأخيرة التي قلا فيها الجزائر ولم يرض المغرب أن تحافظ على الموقف الوسط ولم يفتح ولد الطائع لها جبهة ساخنة في الشمال كما فعل في الجنوب بل لعب بذكاء أحيانا في المساحة الفارغة فاستفاد من مساعدة الصحراوين لما فتح لهم الشمال ( انواذيب وازويرات ) وزودهم بالوثائق الموريتانية في الاستحقاقات الانتخابية ووجد المغرب في ذلك فرصة للتشويش علي معايير الاستفتاء الذي كانت الأمم المتحدة بصدد تنظيمه ، وكان يكفي لأي نظام مدني منتخب أن يكتشف بوضوح ضرورة الحفاظ علي مصالح موريتانيا واستقلالها تجاه الأطراف بمواصلة الحياد وتفعيله أخذا بعين الاعتبار أهمية الاستقرار في المنطقة الشمالية التي تمر بها خطوط نقل خامات الحديد الوطنى عبر الصحراء إلي ميناء نواذيب ودور هذا الاستقرار الايجابي في الاستفادة المتوازنة من مقدرات موريتانيا وعلاقاتها الإستراتجية المغاربية وهذا ما نقمه الانقلابيون ربما من الرئيس ولد الشيخ عبد الله فاختاروا مصالحهم الذاتية النفعية المرتبطة بامتدادات قبلية يتقربون بها للمخزن ونشاط التهريب والسلاح علي حساب المصالح العليا للشعب الموريتاني
لقد بدا الرئيس المنتخب في علاقاته المغاربية أكثر اهتماما من الأنظمة السابقة بتفعيل الحياد الايجابي في مشكل الصحراء الغربية واستغلال علاقات التعاون الثنائية مع الدول المغاربية في جوانبها الاقتصادية وتحاشي التجاذب السياسي غير المفيد الذي ارتهن له ولد الطايع ففك عقدة الخلاف مع النظام الليبي واستعاد الدفء للعلاقات مع تونس الحليف التاريخي لموريتانيا ، واكتشف أهمية الانفتاح الاقتصادي على الجزائر خصوصا في مجال الطاقة بمنحه رخصة التنقيب عن النفط لشركة سوناطراك الجزائرية ذات الخبرة الإفريقية في تسويق واستخراج النفط في الشمال الموريتاني ، ولم يخف ولد الشيخ عبد الله اهتمامه الكبير بالمغرب خصوصا في التعاون في الصيد والنقل والاتصال والتجارة رغم تأخير الملك مرارا لزيارة موريتانيا لأسباب لم يفصح عنها لكن المتتبعين لسياسة المغرب لم يستبعدوا امتعاضه من الانفتاح الاقتصادي لموريتانيا علي الجزائر التي لا يزال المغرب يطالب بفتح حدوده معها المغلقة منذ 1994 بينما نجحت موريتانيا فى الاتفاق مع الجزائر على دراسة وتمويل أهم طريق لها نحو ضفتي المتوسط سيربط بين مدينة شوم وتيندوف ويفك العزلة عن مدن البلاد الشمالية ، فهل وجد المغرب فرصته المواتية لاستغلال الأزمة السياسية في موريتانيا لصالح القضية الصحراوية بدعمه الجنرال ولد عبد العزيز وتجاهله مصالح الموريتانيين في التنمية والديمقراطية لما أظهر موقفا منحازا لمساندة الانقلاب المرفوض في الداخل والخارج ، في حين اختارت الجزائر مساندة خيارات الشعب الموريتاني المتمثلة في شرعية نظامه السياسي حين وجدت أن من يمثل الشعب هو من يحسن الرهان عليه ، والأكيد أن الموقف الجزائري هذا – عن تجربة - يمنح هدية خالصة للساسة الموريتانين لو استخلصوا منها الدروس تحذر من مخاطر الانزلاق المترتب علي الانقلاب على الديمقراطية وخيارات الشعب من طرف جنرالات سمحوا لأنفسهم أن يدرسوا خيارات الأمة ويرهنوا قرارها السياسي لمصالحهم الذاتية
أنا أو الطوفان :
أخيرا وعلى ضوء نتائج وأسباب الانقلاب المتحيز ضد مصالح موريتانيا التقليدية التي شكلت عقيدة الجيش الموريتاني منذ انقلاب 10 يوليو 1978 ها هو الواقع يعيد سيناريوهات أزمة حرب الصحراء العابرة ولكن بتعقيدات متراكمة منها ما هو داخلي يتعلق بالنسيج الاجتماعي المتصدع ، فئات واسعة من الشعب الموريتاني عانت ظلم ذوي القربى وهو أشد مضاضة وطبقات اجتماعية مهمشة تزداد فقرا واتساعا يوم بعد يوم ومسيرة تنموية معطلة مذ 30 سنة بإرادة حفنة مردت على الفساد واحتكرت لنفسها اسم ورسم موريتانيا حتى بعد أن شهد الجميع – لسوء حظها - على إرادة الشعب في اختيار الوحدة والديمقراطية والتعايش الوطني ضمن عقد المواطنة والديمقراطية وهو ما يبرر سر اهتمام الخارج بمآلات تجربة ديمقراطية ساهم في تأسيسها يوم كانت هذه الحفنة تستدر التمويلات الخارجية للنهب كعادتها مما يضيف عاملا خطيرا يصعب تجاهله إذا ما تمادى مغتصبوا السلطة هؤلاء في غيهم أو باشروا سياسة " أنا أو الطوفان " متجاهلين المخاض الخطير للوضع الداخلي على ما ذكرنا وتدعيات التدويل الخارجي بانعكاساته الإقليمية سابقة الذكر على أننا لم نتطرق فيها للجيران في الجنوب حيث الامتداد العرقي المشترك والمصالح الوطنية في الاستقرار والتنمية التى وضع لها الرئيس المنتخب ثوابت قوية بعودة اللاجئين على ما فيها من نقائص
فهل سيدرك الوطنيون المخلصون من أبناء شنقيط حساسية اللحظة التاريخية ويجنبوا البلاد مخاطر العنف والانقسام بالتداعي إلى حل للأزمة السياسية يعيد الاعتبار للدستور ويفتح المجال أمام الانقلابيين أن يراجعوا أخطاءهم فى حق الوطن قبل أن يجنوا على قومهم ما لا قبل لهم به.



Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!