التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:21:40 غرينتش


تاريخ الإضافة : 25.05.2013 12:23:46

يوميات سوق المظالم: ميكانيزمات التوازن... والمنافسة الاحتكارية

الشيخ محمد المامي اسلام - elmami202@yahoo.fr

الشيخ محمد المامي اسلام - [email protected]

بعد أن عرفنا سوق المظالم في المقال الأول بأنها سوق يتبادل داخلها المظلومون مع الحاكم العادل ويأخذون فيها حقوقهم فيما ينصرف اهتمام ذلك الحاكم إلى شراء المظالم جميعها، وبالتالي تسود العدالة والمساواة لما لهذا التدخل من أثر في رفع الظلم و الحيف وإحقاق الحق وإنصاف المظلومين.
في هذه الحلقة سوف نحاول أن نتناول موضوعا مهما على مستوى هذه السوق شأنها فيه شأن أي سوق أخرى، يتعلق الأمر بإشكالية التوازن الذي يعني من الناحية الشكلية أن السوق قد انعقدت في حين يعكس جانبه الضمني أن البائع راض بما حصل من عائدات والمشتري راض بما اقتناه من مواد، كذلك لا بد من الإشارة إلى إشكال آخر لا يقل أهمية على مستوى سوق المظالم وهو الاحتكار أو المنافسة والسؤال الذي يطرح نفسه دون غيره هو هل سوق المظالم الموريتانية سوق متوازنة أو بعبارة أخرى هل كلا الطرفين فيها راض بما حقق من بيع إن بيعا و من شراء إن شراء؟ هل يشعر المظلومون بنوع من الحرية في طرح قضاياهم أو بعبارة أخرى بنوع من المنافسة التامة في طرح مظالمهم وسهولة وصولها إلى الحاكم أم أن ثمة مضايقات تنعكس في صورة من صور الاحتكار في هذه السوق؟

للحديث عن التوازن على مستوى السوق لابد أن نمر ولو مرور الكرام بمفاهيم تتحكم في العملية، يتعلق الأمر بميكانيزمات تعمل وفق تلقائية تامة لتجعل السوق تقترب من التوازن إن لم نقل تتجه إليه، فالبائع يعرض بضاعته بثمن مرتفع جدا (يطلب المظلوم حقه وفي بعض الأحيان يطلبه وزيادة) بينما يقدم المشتري ثمنا أقل من ذلك بكثير وحينها تنشأ آلية تجعل تلك الأسعار (التعهدات والالتزامات والثقة بشكل عام على مستوى سوق المظالم) في صعود وهبوط من خلال المفاوضة والمساومة إلى أن يصل الطرفان إلى ثمن يجعل كلا منهما يقبل التنازل للآخر عما بيده وهذا الثمن بطبيعة الحال أقل من الثمن الذي عرض به صاحب العرض بضاعته وأكبر من الثمن الأولي الزهيد الذي تقدم به المشتري كثمن لتلك السلعة (المَظلَمة).

من خلال نظرة فاحصة لسوق المظالم الموريتانية نجد أن المواطنين من مختلف أنحاء العاصمة انواكشوط يفدون إلى هذا المكان ومنهم من يفد من الداخل إلى السوق ليعرض مظلمته على رئيس الجمهورية.

لتحليل هذه الظاهرة لا بد من الخوض في مضامين سياسية حاولنا أن ننأى بأنفسنا عنها لكننا بمقابل ذلك سوف نتبنى لتحليلها نهجا علميا نتناول فيه بالنقد الذي نأمل أن يكون موضوعيا مختلف وجهات النظر الرافضة والمؤيدة للفكرة.

يتمثل الإجراء الذي تتبعه السلطات للتعامل مع المظالم المعروضة على مستوى السوق، في أخذ نسخة من العريضة المظلمية إن صح التعبير وتعهد بتسليمها إلى الرئيس لينظر فيها ويتخذ القرار المناسب من خلال الاتصال بالوزارة المعنية ومطالبتها بأن تعيد النظر في هذه القضايا وإما من خلال التدخل المباشر لحلحلة القضية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كثيرين يعارضون وجود هذه السوق ويعبرون عن مواقف مختلفة منها. في حين يعتبرها آخرون مظهرا طبيعيا لثقة المتقدمين بمظالمهم في المعاملة التي سيلقونها بحسب وجهة النظر هذه.

ترى وجهة النظر الرسمية أن رئيس الجمهورية بتبنيه لشعار رئيس الفقراء وعمله على تفعيله وتكريسه واقعا من خلال تفضيل عناصر هذه الطبقة (الأقل دخلا) وتغليبهم على غيرهم وبالتالي لا ترى غضاضة في اتصال هذه الشريحة بمن سبق أن أعلن قربه منها واستعداده التام لخدمتها وتستشهد على ذلك بأمثلة كثيرة من بينها الرعاية التي يوليها لمن يرتادون السوق لعرض مظالمهم وتكوين خلية مستشارين لهذا الغرض ضمانا لانسيابية وصول أولئك الضعفاء إلى حقوقهم دون أن يشعر أي منهم بالتمييز ينضاف إلى ذلك غير الضعفاء (الأرفع دخلا) الذين يفدون إلى السوق عارضين مشاكل عجز نفوذهم ويُسر حالهم وقوتهم عن جعلها تراوح مكانها فيلجأون إلى السوق ويتبنى الرئيس قضيتهم ويتصرف بما يراه مناسبا بحكم ما هو متاح.

على النقيض من وجهة النظر الأولى ترى وجهة نظر من لا يشاطرون النظام الكثير من الأفكار ومن بينهم المعارضة أن الأمر لا يتعلق بمظالم تطرح على الحاكم لكي يتدخل فيها بل يتعلق بأحادية كرسها بحسبهم رأس النظام وبالتالي ما عاد لا لوزير ولا لمسؤول عادي من سلطة أو نفوذ كي يتدخل من أجل حل مشكل معين وبالتالي جمع رئيس الجمهورية بحسب وجهة نظرهم دائما السلطة بيده وهو يتصرف بها على هواه ومزاجه شأنه في ذلك شأن أي ضابط عسكري تولى مقاليد أمر مدني بحسب ما مر به البلد من تجربة. وبالتالي يجب أن يغادر الحكم كي يتوزع ذلك النفوذ وتلك السلطة بين المعنيين بالأمر وعليه تختفي سوق المظالم وإلى الأبد ذلك أن كل من له حق وجد حقه.

لكن هذه النظرة الأخيرة لا تأخذ في الحسبان أنه في السنوات الماضية كانت التظاهرات تتم تارة أمام مبنى البرلمان وتارة أخرى أمام مبنى الحكومة، وأذكر من أمثلة الحالات التي قضى أهلها فترة طويلة جدا من الزمن دون أن يجدوا حلا لمشكلهم "مدرسوا محو الأمية بالإذاعة" حيث أمضى هؤلاء زهاء العام والنصف إن لم أقل بأكثر من ذلك دون أن يحل مشكلهم إضافة إلى مشكل عائلات المعتقلين السلفيين بصرف النظر عن أحقيتهم في ما يطلبون لكن مشكلهم استمر طويلا قبل أن يحل ولو على الصعيد الجزئي حلا يتضمن بعضا مما كانت تطلبه العائلات وبعضا مما كانت تصر عليه السلطة الحاكمة (توازن جزئي على مستوى السوق).

بيد أن النظرة الأولى هي الأخرى لا تخلو من عيوب فانتقال المواطنين مشيا على الأقدام من ازويرات وانواذيبو للتأكيد على أحقيتهم بما يطلبون أمر غير مقبول بل يكفي أن تعرض تلك المشاكل على مستوى السوق الجهوية للمظالم ومن خلال الربط المباشر بين مختلف الأسواق الجهوية والسوق المركزية تصل تلك المشاكل (المظالم) إلى المشتري الذي يبادر بحلها بصفة جذرية إن أمكن وبالتالي يتحقق بين الحاكم والمحكوم نوع من التبادل الرفيع يعبر فيه الأخير عن درجة رضاه بمن يحكمه ويبني عليه الأول استراتيجياته المستقبلية الخاصة والعامة على سبيل المثال تلك المتعلقة بالترشح وغيره.

للحديث عن المزاحمة في السوق لا بد من الحديث عن نوعي السلوكيات التي تسود السوق والتي تغير اتجاهها وتحيلها تارة إلى اللا توازن (تموجات السوق الانفجارية)، يقصد بهذه السلوكيات: المنافسة التامة أو الخالصة والاحتكار ولتوضيح مفهوم الاحتكار لا بد من الإشارة إلى أن الاحتكار يمكن أن يتم من طرف البائع كما يمكن أن يتم من طرف المشتري، فعندما تقوم مجموعة من العارضين بعرض بضاعة لا يشتريها إلا مشتر واحد، ففي هذه الحالة نحن أمام احتكار المشتري أو احتكار الطلب والاتحاد الأوروبي خير مثال على ذلك حيث يحتكر شراء بعض السلع أو بالأحرى المواد الأولية من بعض البلدان النامية. فيما تنحصر الصورة الأخرى للاحتكار في بائع و احد أو باعة محدودين مقابل عدد هائل من المشترين، وفي هذه الحالة نحن أمام صورة من صور الاحتكار تدعى احتكار البائع. فهل تعيش سوق المظالم في موريتانيا حالة منافسة أم حالة احتكار؟

ترى وجهة النظر الشكلية أن ثمة احتكارا واضحا من خلال مقارنة عدد الطالبين لحقوقهم أو بعبارة أخرى أصحاب المظالم بعدد من يستقبل تلك المظالم معبرا عنه بشخص واحد هو رئيس الجمهورية أو الحاكم وبالتالي تصور الأمر على انه احتكار الطلب. بينما ترى وجهة النظر الضمنية في الرئيس تجمعا كبيرا لعدد هائل من المسؤولين وأصحاب المناصب ومن يهمهم الأمر وبالتالي تقارن هذه المجموعة بمجموعة المظلومين لتستنتج أن الطرفين متكافئان من حيث العدد وبالتالي ترى السوق سوق منافسة تامة وتستشهد على ذلك بدرجة الحرية التي تتاح لرواد السوق وانسيابية التعامل معهم وعدم استخدام العصى الأمنية إلا في حالة نادرة.

تقسم الرؤية الرسمية المشاكل إلى مشاكل عابرة تجد بسرعة طريقها نحو الحل بينما يجب أن تنتظر المشاكل الهيكلية فترة كافية حتى تجد طريقها هي الأخرى نحو، وتضرب للأخيرة مثلا: مشكل إصلاح التعليم.

بينما يرى رافضو وجهة النظر هذه أن استمرار بعض المشاكل في الظهور دون حل يعبر عن عدم الاهتمام بها أو العجز عن إيجاد حل لها وعليه يلزم إشعار المواطن بالأمر حتى لا تهدر طاقاته المادية والمعنوية وهو ينتظر حلا سيستمر سنوات طويلة.

وللخروج من هذه الديمومة لا بد من القول للأمانة والإنصاف إن مشاكل كثيرة وجدت طريقها نحو الحل بعضها يتعلق بالعمل (العمال غير الدائمين، الحمالين، حركة أنا علمي...) وبعضها يتعلق بالأحياء العشوائية، فيما يتعلق جانب آخر منها بحالات منفردة... ويبقى الكثير ممن لم يقتنعوا بعد بعرض مظالمهم في السوق والذين من بينهم على سبيل المثال لا الحصر سيد تحدث باسم مالكي سيارات أجرة "على طول الطريق" المعروفة محليا بـ"تودروا" إلى إحدى الإذاعات الحرة بانوا كشوط قبل يومين مهددا بنقل المشكل إذا لم تتصرف وزارة النقل التصرف الملائم إلى سوق المظالم لطلب تدخل رئيس الجمهورية.

على هامش السوق، ألقي كعادتي نظرات على الشعارات وألاحظ تلك التي تصمد منها طويلا ومدى إصرار المطالبين بحقوقهم إلى غير ذلك.

مما لفت انتباهي مجموعة من السيدات قدمن مع نهاية شهر سبتمبر أو بداية شهر أكتوبر من العام الماضي 2012 لرفضهن التخلي عن أراض قلن إنها شرعت لهن وبقوة صاحب نفوذ تم تحويلهن عنها وبالتالي قدمن إلى الرئيس لإنصافهن، لكن الحظ في بادئ الأمر لم يبتسم لهن بل خبأ لهن الكثير من البرد القارس والرياح الجافة والمناخ غير الملائم، ذلك أن فترة مكوثهن في السوق ورفضهن الرجوع إلى منازلهن إلا بعد أن يحل هذا المشكل طالت بسبب إصابة الرئيس بطلق ناري في الـ 13 من أكتوبر من نفس السنة فما كان من هؤلاء النسوة إلا أن قمن بإنزال الشعارات المطالبة بالإنصاف وأحللن مكانها شعارات تطلب الشفاء له حتى أني و في أحد الأيام مررت بالقرب منهن وأصغيت لما يرددنه فوجدت البعض منهن يقرأن آيات قرآنية والبعض الأخر يقرأ صلوات على النبي صلى الله عليه وسلم فخففت من مشيي لأسمع إحدى العجائز تتضرع إلى الله أن يشفي الرئيس ويعيده إلى أهله سالما، تابعت خطوي باتجاه عملي وفي المساء عدت وهذه المرة وجهت لإحداهن السؤال: ما خطبكن فحكين لي قصتهن وأرينني وثائق تتحدث عما يطلبنه فسألت لهن الله التوفيق وتابعت مسيري فسألنني في أي مرافق الدولة أعمل قلت: "أعمل من أجلكم". وتمر الأيام القارسة والنسوة رافضات للعودة باحثات طوال النهار بين نواحي المكان عن مخبإ للظل وفي المساء يذهبن إلى مكان لا وجود فيه لبعوض الملاريا حتى إذا ما حل الصباح عدن من حيث بدأن للنضال، أعمار هؤلاء النسوة بين الـ 40 والـ 50 من العمر وقد تركن أطفالا وراءهن وأزواجا وحوائج كثيرة سوف تتضرر بدون شك ببقائهن في هذا المكان لكنهن فضلن الإصرار والصبر حتى ينجلي المشكل وهو ما تم بعد عودة الرئيس من العلاج حيث اختفين ولم أسمع لهن من ذكر بعد ذلك.

ملاحظة أخرى لا تقل شأنا وتعكس مدى إصرار وتضحية البعض من أجل حل مشاكلهم، تتمثل في كون بعض رواد السوق لا يفدون إلا عندما تكون الظروف المناخية مواتية وعندما يخرجون يتركون نفايات مواد غذائية ثمينة إضافة إلا أن هؤلاء عندما يفدون تمتلئ المنطقة بالسيارات الفارهة وبعد أن يحتسوا الشاي ويشربون يقومون بترديد بعض الشعارات ورفع بعضها الأخر على الأيدي وربما تجد شخصا يتجول داخل المجموعة يؤطرها ويطالبها بترديد شعارات معينة والقيام بحركات ورقصات تعبيرا عن الرفض... في الوقت الذي تجد فيه البعض الآخر يفد فجرا ويكتوي بالشمس الحارقة ومن بين من تجدهم في مقدمته عجزة ثيابهم بالية رثة وأصواتهم تكاد لا تسمع إن لم أقل مبحوحة ويستمر نضالهم ومرابطتهم بالمنطقة حتى تنجلي مشاكلهم فيختفون بشكل تام وتجد في الغد فريقا جديدا قدم لعرض مظلمة جديدة.

ومما حز في نفسي وآلمني كثيرا أنني كنت في أحد الأيام عائدا من مكان عملي فلاحظت السوق خاوية على عروشها وقوارير مسيلات الدموع منتشرة ذات اليمين وذات الشمال، عناصر الأمن مدججون بأسلحتهم وقد قدموا بخيلهم ورجلهم وكأن أمرا جللا قد حدث فما كان مني إلا أن سألت منكتا أحد رجال الأمن: مساؤكم سعيد... هل تطلب التدخل كل هذه الأمور؟ وهل كان رواد الساحة غير مهذبين أو بالأحرى كانوا مشاغبين؟ فأومأ إلي أحدهم برأسه مشيرا أن الشغب قد حصل فأردفت من كان هنا فلم يجبني، وبعدها بساعات علمت أن الحمالين هم من كان هناك. فتألمت كثيرا وتمنيت لو حل المشكل في أسرع وقت وهو ما حصل بفضل الله.

ملاحظة أخيرة هي أن سوق المظالم ضمت في جانب منها سوقا موازية، فنظرا لكون البنك المركزي يمثل الهيأة الضامنة للعملة النقدية وبداخله تنعقد مختلف صفقات بيع النقود ورؤوس الأموال على الآماد القصيرة والمتوسطة والطويلة إلا أن ذلك لم يمنع سوقا موازية من نوع آخر من الظهور هي سوق النقود التالفة. يقوم البعض بجمع النقود التالفة أو التي فقدت أجزاء منها كي يجلبوها إلى البنك المركزي ليعوضهم عنها وبالتالي نشأت بنفس الحيز سوق نقدية من نوع آخر مختلفة عن السوق النقدية ما بين المصارف، سوق الغرائم القابلة للتفاوض وبورصة الأوراق المالية إنها سوق النقود التالفة التي تتخذ مكانا في سوق تضم سلعا تالفة (مظالم) لا يرغب بها إلا من حمل راية العدل والإنصاف والمساواة وألغى وإلى الأبد تاريخ صلاحية وانتهاء بضائع تلك السوق ليستقبلها في كل وقت بصدر رحب مهما كانت تقادمها أو أقدميتها.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!