التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:21:48 غرينتش


تاريخ الإضافة : 25.05.2013 13:05:01

نواكشوط... العاصمة الملغومة

الأستاذ / المختار نافع - moktarnava@gmail.com

الأستاذ / المختار نافع - [email protected]

تتميز لحظة الاستقلال في التاريخ الموريتاني بسمة لا تكاد توجد في أي استقلال آخر، فإذا كان المعروف في الدول الأخرى أن حدث الاستقلال يعد بداية "الدولة الوطنية" بما ترمز له من قطيعة مزدوجة مع فترة الاستعمار من جهة، ومع الشكل السياسي لما قبل الاستعمار من جهة أخرى، فإن حدث الاستقلال في موريتانيا هو أول علاقة على الإطلاق لهذا البلاد بثقافة الدولة، وهي التي عاشت قطيعة تاريخية – ثقافية واجتماعية- مع كل ما يمت للحكم السياسي المستقر، بل العمران والتحضر باستثناء النادر الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها.

لذلك السبب كان على قادة دولة الاستقلال البدء في بناء الدولة من الصفر بما يتطلبه ذلك من تحديات وبما يتسبب فيه من صعوبات في حسم بعض الخيارات المتعلقة بهذه الدولة الجنين.

وقد كان من بين ما احتاج من قادة الاستقلال إلى الحسم اختيار عاصمة الدولة الناشئة، وهو ما وقع أخيرا باختيار نواكشوط عاصمة للجمهورية الإسلامية الموريتانية على ما لهذا المكان من مميزات استفادت منها الدولة الناشئة، وما عليه من ملاحظات برز مع الوقت تأثيرها، فهل جاءت اللحظة لمراجعة الخيار أو السعي على الأقل للتقليل من التأثير السلبي لهذه السلبيات؟

في البدء "لم يكن أي شيء"

ولعله يفيد في هذا الصدد التذكير بأن مسألة اختيار العاصمة كان يحتاج بالفعل للكثير من التفكير واستعراض الخيارات، ليس لكثرة هذه البدائل وإنما على العكس تماما إن لم نقل لانعدامها، خاصة أن موريتانيا المستعمرة كانت عاصمتها "خارجها" تماما بالمعنيين الجيوسياسي والسوسيو ثقافي (مدينة سين لويس السنغالية).

كما أن الاستعمار لم يهتم بإخراج البلاد من حالة البداوة التي وجدها فيها، بل خرج منها كما دخلها، فلا هو أقام مدنا جديدة ولا هو أحيا المدن القديمة، هذا باستثناء بعض المراكز العسكرية والإدارية التي أقامها في بعض النقاط على الخارطة البدوية للبلاد والتي قام حول بعضها أنوية مدن.

لذلك حين استقلت البلاد داخليا وطرح موضوع العاصمة كانت هنالك عدة خيارات مطروحة سواء عند الفريق الذي أشرف على "تسلم" الاستقلال ممثلا في الأحزاب التي كانت غير بعيدة عن السلطات الاستعمارية، أو الأحزاب المناهضة للاستعمار والتي ناضلت ضد الاستقلال الشكلي بمرحلتيه الداخلية والتامة.

وفي حين كان الطرح "المثالي" يصل ببعض الفريق الأخير إلى تحبيذ اختيار إحدى المدن التاريخية – وخاصة شنقيط التي ارتبطت باسمها هوية البلاد العربية الإسلامية - كنوع من الخروج الرمزي من فترة الاستعمار، فإن الطرح الواقعي عند الفريق الأول –(وهمهم كما تبين لاحقا كان منصبا على متطلبات بناء دولة عصرية من تحت الخيام) كان يميل إلى مكان له مميزات جغرافية أو اقتصادية تؤهله ليكون عاصمة لهذه الدولة.

وكما قلنا كانت الخيارات المثالية ذات طبيعة رمزية ومرتبطة بدواعي البحث عن استقلال تام، وخروج رمزي من عباءة المستعمر يعوض المرارة النفسية جراء لحظة الاستقلال الموهوب، وهو أمر يتأكد حين نتذكر أن المدن التاريخية المقترحة لا يمكن لها من الناحية العملية أن تكون أي منها عاصمة بسبب بعدها من كافة مناطق البلاد، وقلة سكانها، وعدم ارتباطها بمراكز الإقليم، (يستثنى من هذا الوصف مدينة أطار التي كانت في ذلك الوقت تشهد ازدهارا نسبيا) فهي تمثل مرحلة تاريخية قديمة انتهت منذ قرون باندثار نمط التجارة الذي كانت مركزا له (تجارة القوافل).

أما الخيارات الواقعية والتي كانت تتميز بأن متبنيها هم الذين يشرفون على "مشروع الدولة" فكانت كما قلنا تبحث عن مواصفات اقتصادية وجغرافية معينة أهمها أن تكون العاصمة المستقبلية في موقع متوسط في البلاد ليكون إشعاع العاصمة وفرصها في "مكان سوى" لجميع سكان البلد، أو أن تكون على شاطئ المحيط ليقام لها ميناء تجبى إليه عبره بضائع العالم وهي المحتاجة لكل شيء لتبنى من العدم.

ولم يكن هذان الشرطان متوفرين معا في أي من الأماكن المقترحة، بل كان للأول خياراته (ألاك، المجرية، كيفه) وللثاني خياراته (نواذيبو، نواكشوط) فكان لا بد من الاختيار بين الاثنين فكان أن حسم الأمر لصالح الخيار الثاني متمثلا تحديدا في نواكشوط.

تمييز ولو غير مقصود

وإذا كان لخيار القرب من الشاطئ مدعماته في ذلك الوقت، فإن الوقت أثبت أن عدم توسط العاصمة كانت له سلبيات كثيرة، خاصة في ظل نمط التسيير الذي سارت عليه البلاد، والذي كان من الصعب أن لا تسير عليه؛ وهو المركزية الشديدة؛ بل "التمركز" الذي بموجبه صارت العاصمة هي كل شيء في البلاد، وما عداها من المدن مهمشة ومقصية من كل الفرص، فقد نتج عن هذا حالة تمييز لصالح ولاية الترارزه المحيطة بالعاصمة من كل الجهات، حيث أن استفادة سكانها من إشعاع العاصمة وفرصها لا تقارن بحال من الأحوال، وهو أمر بدأ منذ الوهلة الأولى عقب الاستقلال، حيث كان بإمكان الكثير من سكان هذه الولاية الانتقال بسهولة للعاصمة، والحصول على قطع أرضية ومساكن فيها، ثم استمر ذلك في التعليم والثقافة وحتى الصحة.

ومع أن هذه الجهة تعاني هي نفسها مما تعاني منه غيرها من المناطق الداخلية من تهميش ونسيان، إلا أنها تستفيد أكثر منها بسبب قربها من العاصمة، وهذا وإن لم يكن تمييز مقصود إلا أنه في النهاية عدم تساو في الفرص، وكل حالة عدم مساواة تحمل في طياتها نذرا غير مبشرة على وحدة البلدان، ولغما كامنا قد ينفجر يوما في وجه وحدتها ليتركها شظايا حيث يبدأ الأمر امتعاضا من عدم التساوي، ثم يصير مع الوقت تذمرا، وربما يصل إلى حالات أقوى إن لم يعمل على إزالة هذا التمييز

إعادة نظر.. أو لا مركزية

وإذا كان الوضع الحالي لا توجد فيه ولله الحمد مؤشرات كبيرة على أن هذا الإشكال قد يتسبب في أمر من هذا القبيل، فإن ذلك لا يعني أن أمرا من هذا القبيل لن يطرح في المستقبل ليكون إحدى المشاكل التي تخدش الوحدة الوطنية، خاصة حين تقع متغيرات سياسية كبيرة أو تمر البلاد بمنعطفات خاصة كما هو واقع في ليبيا حاليا بإثارة مسألة العاصمة والفيدرالية بعد الثورة، فطبيعة هذا النوع من الحساسيات أنه يظل كامنا حتى ينفجر دفعة واحدة.

ولكن ما هو سبيل الحل لهذه المعضلة التنموية والاختلال في ميزان الفرص؟ قد يظن أن الحل التلقائي لها هو تحويل العاصمة إلى مكان وسط البلاد خاصة أن المدن التي كانت مطروحة في ذلك الوقت واستبعدت بسبب عزلتها قد فكت عزلتها اليوم وأصبحت مرتبطة بكل مناطق البلاد أو تكاد، قد يكون هذا حلا وخاصة إذا فرضت ظروف خاصة اللجوء إليه.

غير أنه يمكن لحلول أكثر واقعية وأقل تكلفة وأبعد من "الميكانيكية" في التساوي في الفرص أن تعوضه وهي حلول مدارها على اللامركزية في الحكم، و"اللاتمركز" في التنمية، ولذلك أمثلة عديدة منها الأقطاب التنموية الجهوية في الاستراتيجيات التنموية، ومنها مجالس الحكم المحلي في الإدارة، ولو عمل به الأساليب لرسخنا حالة من المساواة في الفرص لن تبقى بعدها العاصمة امتيازا كبيرا.

نقلا عن أسبوعية الأخبار إنفو


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!