التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:19:14 غرينتش


تاريخ الإضافة : 09.06.2013 14:03:16

ملاحظتان حول ذكرى الثامن من يونيو

د. عبد الله ولد بيان

د. عبد الله ولد بيان

إطلع القارئ الكريم خلال اليومين الماضيين - و ربما قبل ذلك - على الكثير من التعليقات على أحداث انقلاب 8 يونيو 2003؛ من خلال الصحافة الوطنية و مواقع التواصل الإجتماعي. فلن أطيل الحديث في هذا الموضوع، فقد قرأنا عن جميع جوانبه، خبراً و تحليلاً و عاطفةً في كثير من الأحيان. و سأكتفي بالملاحظتين التاليتين:

- تتعلق الأولى بمشكلة عامة، لها صلة بالموضوعية و التجرّد في تناول الأحداث التاريخية لهذا البلد. حيث لا تكاد تجد نقلا متجردا لتاريخنا بسبب الخوف من أن يؤدي ذلك إلى إثارة الحساسية في مجتمع تعوّدَ الكثير من أفراده التصدي لمن لا يقدّم لهم "ما يطلبه المستمعون". فالمتابع هذه الأيام يلاحظ أن الكثير من المعلقين على إنقلاب يونيو، وحتى على مدى السنوات الماضية، يحاول أن يقتصر في تعليقه و يركّز على الذين سقطوا في هذه الأحداث (بحسن نية أو بدونه، الله أعلم)، و يرى أن القيام بغير بذلك أو الحديثَ عن أية جوانب أخرى للمحاولة الإنقلابية، إنما يسيءُ إلى أرواح هؤلاء المواطنين - رحمة الله عليهم - و يتجاهلُ مشاعر ذويهم و أصدقائهم... و هذا لا يقتصر - للأمانة - على هذه الحادثة فحسب، فعندما يسمعُك مثلا أحد أفراد أسر القادة أو الجنود الذين استُشهدوا في حرب الصحراء تتحدث عن بعض الجوانب السلبية لتلك الحرب و عدم جدوائيتها، سيعتبر ذلك في الغالب إهانة شخصية بالغة. و عندما تتحفظ على مشروع الدولة الذي كان يحمله قادة 16 مارس، سيعتبر الكثيرون ذلك نوعا من الرّضا عن الأحكام الصادرة بحق قادة هذا الإنقلاب و سيكون عليك أن تُدافع عن ولد هيداله و تتحمل أوزار فترته من الظلم و الإضطهاد و الإستبداد. و في نفس السياق، فإن المعلِّق السياسي لا يمكن أن يتحدث - في بعض الأوساط - و لو من باب سردٍ للأحداث العرقية (نهاية ثمانينيات و بداية تسعينيات القرن الماضي) عن محاولة انقلابية في نفس الفترة، بدون أن يكون مبارِكا للتمييز العنصري و التصفية العرقية التي صاحبت ذلك...
ومما لا شك فيه، بأن رحيل أي مواطن من هؤلاء أو من أولئك سيظل صورة قاتمة تتراءى لنا جميعا و لذويهم بصفة خاصة إلى الأبد - و حُقّ لهم ذلك - كلما تناول أحد هذه الوقائع التاريخية، و لكن ذلك لا يمنع من الحديث عن جوانب أخرى لهذه الأحداث كان لها تأثير أساسي على مسار الدولة و المجتمع. فعلينا أن لا نسمح للعواطف و الحساسيات أن تؤثر على كتابة تاريخ بلدنا بشكل دقيق، و هو ما يقع في أغلب الأحيان للأسف، حتى على مستوى أحداث ما بعد قيام "الدولة الحديثة". فلا تزال مذكرات الرؤساء السابقين و الفاعلين الوطنيين و الدراسات التاريخية و الإجتماعية تتجنب التعرض للوقائع بشكل متجرّد؛ و لا تزال العاطفة هي المسيطرة عند تناول الأحداث الوطنية التاريخية.

- أما الملاحظة الثانية: فبما أنني لا أرضى لمدني أن يمجّد انقلابا عسكريا ناجحا كان أو فاشلا (مع أن الجميع يفعل ذلك للأسف)، فسيقتصر طلبي للإخوة الذين يتناولون هذه الأحداث - عن طريق تحليل الوقائع التي تلتها و المسار السياسي للشخصيات الفاعلة فيها بعد ذلك - أن لا يقرؤوا التاريخ بشكل رجعي، و أن يتذكروا الوضعية التي كانت تعيشها مؤسسات الدولة و الحكم، و السياق التاريخي لهذه المحاولة الإنقلابية. و لن أتحدث عن جميع مظاهر ذلك، لأن غالبيتكم لا تحتاج إلى تأريخ لأحداث عشتم الكثير من تفاصيلها، و لكنني سأقترح على الجميع - و خاصة المهتمين منكم آنذاك بتغيير الوضعية التي و صل إليها البلد و القلقين يومها على مستقبله - أن يعيدوا شريط الذاكرة إلى يوم 7 يونيو 2003 و مشاعرهم في ذلك الوقت، و أن يتذكروا: وضعية الجيش يومها، و الحياة السياسية، و عشرات الآلاف من المواطنين المهجّرين في الدول المجاورة و المطاردين السياسيين في الخارج، و السجون الملأى، و أن يتذكروا وضعية "العقيدة و القبيلة و الغنيمة" (على حد تعبير الجابري)، والعلاقات مع إسرائيل التي كانت سبب تحرك هؤلاء الضباط سنة 2000 (و التي ربما يكون قطعُها لإسكات الأصوات المنادية بذلك في الجيش و ليس "لأعين" الشعب كما يتوقع الكثيرون)... إلى غير ذلك من القضايا التي يمكن للمعلِّق المتجرِّد أن يحلل - بشكل أكثر موضوعية - مدى تأثّرها بتلك المحاولة الإنقلابية و أخواتها، و أن يتناول الوضع السياسي "الإنقلابي" الذي عاشه البلد بعد ذلك بسنوات و آثاره السلبية و الإيجابية، و هو ما سيكون أكثر إفادة للقارئ و للكاتب على حد سواء.

وفي النهاية، تبقى هذه الذكرى و نظيراتها تدفع إلى الإيمان بضرورة إبعاد الجيش عن العملية السياسية. و إلا فإننا سنظل كباقي الدول التي سلّمت مستقبلها لأهواء أصحاب النياشين، نحمِلهم على الرؤوس أبطالا عند "انتصار" مخططاتهم الإنقلابية (حتى لو قتلوا في سبيل ذلك وشَرّدوا، فأعذارُ المنتصرِ مقبولة دائما، و الجميع يتذكر عُذر الولايات المتحدة بعد أن قتلت و شوّهت مئات الآلاف بالأسلحة النووية بأن ذلك كان لتجنّب إراقة مزيد من الدماء!)، وإن فشِلَ هؤلاء الإنقلابيون فإننا نحمّلهم كل صفات الخيانة و العمالة و الهمجية و "نضع على رقابهم" جميع مساوئ تلك الأحداث، هذا طبعا إن سَلِمت تلك الرقاب من مشانق سيد القصر.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!