التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:17:38 غرينتش


تاريخ الإضافة : 05.07.2013 12:54:14

الأكاذيب الكارثية

الأستاذ / عبد الرحمن ودادي

الأستاذ / عبد الرحمن ودادي

" اكذب كذبة كبيرة ثم حاول تبسيطها وكررها، في النهاية ستصدقها".
أدولف هتلر

في الساعات الأولى من صباح 21 مارس 1968 بدأت طلائع القوات الاسرائيلية في التوغل عبر محاور ثلاث على حدودها مع الأردن حاشدة لذلك واللواء المدرع 60 ولواء المظليين 35 ولواء المشاة 80 وعشرين طائرة هيلوكبتر لنقل المظليين وخمس كتائب مدفعية 155 ملم و 105 ملم عبر محاور جسر الحسين وجسر الأمير عبد الله وجسر الأمير محمد وغور الصافي.

سارعت قوات الاستطلاع الى الاتصال بالعقيد مشهور حديثة قائد الفرقة الأولى في الجيش العربي و الذي بادر الى الزج بمقاتليه الى ارض المعركة و أمر الضباط بأن يتقدموا جنودهم لتبدأ ملحمة عسكرية انتهت بنصر مؤزر للقوات الاردنية و الفدائيين الفلسطينيين ليخسر الاسرائيليون قرابة 70 جنديا و 45 دبابة و خمس طائرات.

الظريف في الأمر أن منظمة التحرير الفلسطينية أطلقت آلاتها الدعائية الضخمة مصورة أن المعركة معركتها فقط وقللت من الدور الأردني رغم أن كل عاقل يعرف ان الجهد الاكبر في المعركة كان على الجيش الأردني، وبلغت المبالغة حدا قدم فيه الراحل ياسر عرفات على شاشات التلفزة عصا للرئيس هواري بومدين مدعيا أنها سلبت من أحد الجنرالات الإسرائيليين من قتلى المعركة والمضحك أن أي جنرال لم يقتل في المعركة كما أن الجنرالات الإسرائيليين لا يحملون العصي بل يحملها الماريشالات.

المهم ان هذه الكذبة أدت الى انصباب سيل من الاموال العربية على منظمة التحرير الفلسطينية التي صورت لهم قدرتها على تحقيق نصر عجزت عنه الجيوش العربية المشتركة وحدثت حالة من الغرور بين منتسبي فتح وانتشار حالة من الاحتقار للجيش الأردني بشكل تجاوز كل حد وأصبحت الاعتداءات على الأردنيين في وسط دولتهم أمرا مألوفا وانتهت الكذبة بمحاولة منظمة فتح الاستيلاء على السلطة في الأردن بعد أن تأكدوا بأن تحرير فلسطين لا ينقصه إلا تحييد السلطة الأردنية.

انتهت المحاولة بأحداث أيلول الأسود التي تحولت الى كارثة على منظمة التحرير الفلسطينية اذ استطاع الجيش الأردني القضاء عليهم في ساعات وانتهى الأمر بانسحاب قائدها متسللا إلى خارج الأردن بثياب نسوية.

إنها النتيجة الطبيعية للأكاذيب وخلق الأساطير الذي أدى في النهاية إلى تصديق جماعي.
*****
أمس انقض الجيش المصري على تجربة رائدة في الديمقراطية والكارثة أن أحد أسباب نجاحه في الانقلاب صورة وهمية خلقتها وسائل الاعلام لهذا الجيش عبر عقود من الزمن مما جعل بعضا من الشعب المصري ينجرف في تأييد هذا الانقلاب.

خاض الجيش المصري ثلاث حروب في تاريخه، حرب 48 وحرب 67 وحرب أكتوبر 1973 وبعض المناوشات في ما اصطلح على تسميته بحرب الاستنزاف أو الهجوم على ليبيا في نهاية السبعينات.

نتيجة حرب 48 معروفة للجميع وهي ضياع جزء كبير من فلسطين، أما حرب 67 فانتهت باحتلال بقية فلسطين بما فيها القدس، ومعها أرض سيناء المصرية والجولان السورية.

أما حرب 73 فانتهت بمحاصرة الجيش الثالث وتطويق مدينة السويس غرب القناة.

نعم أراد الجيش المصري تحرير شرق القناة فحوصرت السويس غرب القناة والجيش الثالث بالكامل الذي لم يجد المصريون بدا من إنقاذه عبر مفاوضات الكيلو 101 التي كان من أهم بنودها تزويد الجيش الثالث المصري بالغذاء والماء.

انتهت الحرب برجوع القوات الإسرائيلية إلى مقرها في سيناء المصرية وانسحاب القوات المصرية إلى إمكانها غرب القناة.

بكل المعايير العسكرية تعتبر حرب 73 هزيمة ولكن الآلة الدعائية الضخمة للدولة المصرية صورتها كنصر مؤزر وتمالئ في هذه الأكذوبة المثقفون والكتاب والإعلاميون لتنتهي القصة بأسطره جيش من أردأ جيوش العالم.

الكارثة لم تمتد الى الجانب العسكري فقط وضياع فلسطين والاضطرار إلى الانبطاح لاسترجاع سيناء وإخراج مصر من المعادلة الدولية بل امتدت لتشمل تدمير مصر على كل الصعد انفصل السودان وتحولت مصر من سلة غذاء العالم إلى المستورد الأول للقمح وأحد أكبر بؤر التهاب الكبد الوبائي وأمراض السرطان في الكرة الأرضية، وأما التجارب الاشتراكية فانتهت بتعفن الاقتصاد المصري الذي كان يوازي الاقتصاد الكوري الجنوبي في نهاية السبعينات ليصبح الإنتاج القومي لمصر اليوم أقل من قيمة أسهم شركة سامسونغ الكورية وحدها.

وأما الريادة والقيادة للعالم العربي فانتهت بدولة مترهلة يقودها حسني مبارك ونجله جمال ويرسم سياساتها طبال سابق يدعى أحمد عز.

تحالفت المؤسسة العسكرية مع قائدها مبارك في مشروعه لتدمير مصر ووصل بها الامر الى القبول بتوريث جمال مبارك الذي كان سيتم لولا ثورة 25 يناير التي حاول العسكر بعد تأكدهم من نجاحها محاولة الاستحواذ عليها، ولعل الجميع يتذكر محاولات المشير طنطاوي وبقية القيادات العسكرية لإقناع الثوار بالانسحاب من ميدان التحرير ومحاولة تخويفهم بالطائرات الحربية والدبابات وجهودهم بعد ذلك للالتفاف على الثورة عبر مرشحهم أحمد شفيق.

لا أحد يشك في شجاعة المقاتل المصري وإبائه ولا قدرته الفائقة على التضحية ولا صدق الحديث النبوي "مصر خير أجناد الأرض" ولكن الحقيقة المرة أن القيادات العسكرية كانت على الدوام موطن الداء ويكاد يجمع المؤرخون على أن السبب الرئيسي لهزيمة 67 تدني المستوى العلمي لقائد الجيش المصري عبد الحكيم عامر الذي عرف بتعاطي الحشيش ومطاردة الفنانات وسبق له قبل ذلك أن أدى الى تدمير مشروع الوحدة بين مصر وسوريا وكانت ورقته الوحيدة لتبوأ المنصب الذي لا يستحق محبته المتمكنة من قلب صديقه جمال عبد الناصر.

كما يعرف الخبراء أن هزيمة 73 لم يؤدي لها ضعف الأداء للمقاتل المصري بقدر ما أدت إليها قرارات الرئيس السادات البعيدة كل البعد من الاحترافية.

الحقيقة المرة أن الجيش المصري ـ مثل بقية زملائه من الجيوش العربية ـ كارثة حقيقة وسبب رئيسي للهوة العميقة التي وصل إليها عالمنا العربي والإسلامي والمصيبة أن هذه الحقيقة محجوبة بعواصف من الأكاذيب والدعايات، وها نحن نرى اليوم الجيش المصري يعيد تجربة تكررت في أغلب بلدان إفريقيا وفي تركيا، البرازيل، البرتغال، أسبانيا، الأرجنتين، وجل الوطن العربي ولم تنجح لمرة واحدة.

إنها سيطرة الأكاذيب والأساطير التي رسمت صورة مغلوطة حولت الجيوش الرديئة في أذهان العامة إلى أبطال وهو ما جعل بعضهم ينقاد في سذاجة إلى تأييد الجيوش في انحدارها بأوطانها نحو هاوية بدون قرار، يحدوه تصور مغلوط ساهم فيه تقاعس النخب المثقفة عن عرض حقيقة هذه الجيوش مجاملة للغوغاء ومحاولة لرفع معنويات شعوبهم التي أثقلتها الهزائم ودمر قدرتها على المحاكمة العقلية السليمة انتشار الجهل والأمية.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!