التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:15:29 غرينتش


تاريخ الإضافة : 15.07.2013 11:44:26

النظام العالمي المنظور بعد غياب المحظور

د.سيدي المختار أحمد طالب

د.سيدي المختار أحمد طالب

قديما بني علماء نظريات وفرضيات على وجود صراع بين مكونات الطبيعة منها الداروينية التي تلخص مبدأي الصراع من أجل الحياة والاصطفاء الطبيعي في البقاء للأصلح (بمعنى الأكفأ وليس الأقوى). وجاء آخرون واختزلوا ذلك الصراع في مواجهة عدائية بين الإنسان والطبيعة واعتبروا أن عداء الطبيعة هذه يتجلى في حرها وبردها وعواصفها الثلجية والرملية وفي ندرة المياه في بعض الأماكن وفيضها في أماكن أخرى وفي تضاريس قد يصعب على الإنسان التعامل أو التكيف معها‘ ومن تجليات ذلك العداء يذكر أيضا أثر العوامل البيئية على الإنسان وأثر الحيوانات والنباتات الضارة على صحته وأنشطته الاقتصادية والتنموية وأخيرا أثر عموم الكوارث الطبيعية على حياته.

وصدق عند بعض الناس من قال بأن الطبيعة المعنية هنا قد سخرها خالقها ومدبر أمرها للإنسان عساها تمكنه من القيام بالرسالة التي خلق من أجلها وبأن الصراع في حقيقة أمره هو بين الإنسان وأخيه الإنسان‘ والمتأمل قليلا في مسيرة الجنس البشري منذ أن وجد على كوكب الأرض يلاحظ أن الصراع المذكور بدأ بين الجيل الأول من ذرية أبي البشرية الثاني نوح عليه السلام وأنه لا يزال يتواصل ويحتدم باستمرار. كما يجدر التذكير باستخدام الإنسان للطبيعة والوسائل التي نتجت عن محاولات تطويعها لإرادته في أهداف منحرفة ليس فقط بالنسبة للأديان السماوية عموما وإنما بالنسبة أيضا للفطرة التي فطر الله الناس عليها وقد تعني هذه الفطرة عند البعض الطبيعة بمفهومها الأصلي وقبل التلوث الذي طرأ عليها ماديا ومعنويا والاختلالات التي أصابتها جراء أنشطة الإنسان وغيرها من العوامل.

وليسمح لي المتخصصون من علماء الأنثوروبولوجيا (علم الإنسان) وغيرهم اعتبار بداية مرحلة أخرى من الصراع عندما تأسست مجموعات بشرية في أماكن مختلفة على وجه الكرة الأرضية وبدأت تغزوا بعضها البعض لتوسع مساحات نفوذها وتعزز من مصادر قوتها ضمن كيانات أكبر عددا وأكثر عدة وعتادا. ومع تطور هذا الصراع على مر الأزمان أدرك الجميع حقيقته لاسيما عندما عمدت تحت مبررات كثيرة ومتنوعة بعض الدول في القرون الماضية إلى استعمار دول أخرى وإلى احتلال مناطق غنية أو استراتيجية غير مأهولة تبعد عنها مسافات بعيدة أحيانا. وتوجد مراجع كثيرة ومتنوعة خلفها الأقدمون وتناولها المعاصرون من مؤرخين واجتماعيين وسياسيين اشتهروا بخبرتهم في العلاقات الدولية ودراسة الأحقاد التاريخية.

و في فترة غير بعيدة ظهر وجه آخر لذلك الصراع في شكل حركات تحررية تطالب بالاستقلال عن الوافد المستعمر أدت في مجملها إلى تسليم زمام الأمور إلى جيل تم تأهيله ثقافيا وسياسيا مسبقا‘ جيل يعتبر بمثابة الحاضر الغائب لكنه كان قادرا على إسكات واستكانة السكان المحليين وعلى القيام بدور الغائب الحاضر (المستعمر) ورعاية مصالحه والحفاظ عليها نيابة. ولا ننكر وجود استثناءات تمثلت في دكتاتوريات وطنية وثورات شعبية أراد قياديوها إبعاد المستعمر وممثليه وخلق جيل جديد على أساس انتماءات وطنية وقومية ضيقة أو مبادئ أخرى عقائدية أممية. ولكن كلنا نعلم كيف تم التصدي لؤلئك الخارجين على النظام وأتباعهم من بعدهم أمثال باتريس لومامبا وآميلكار كابرال ونيلسون مانديلا في إفريقيا السمراء وعمر المختار وعز الدين القسام وحسن البنا وعبد الناصر وبومدين وياسرعرفات في الوطن العربي ومهاتما غاندي وهوشي منه في آسيا وتشيكو جيفارا وسلفادور أليندي وفيدل كاسترو ومارتن لوثر كينغ في أميركا.

والذين صمدوا من هؤلاء حتى تركوا فكرا وشبه نظرية أو نموذجا للحكم كان ذلك بفضل القطبية حيث خلقت الحرب الباردة بين الغرب والشرق هامشا من الحرية قد لا يتعدى حدودا معينة رسمت معالمها سرا أو علنا من طرف القطب الذي يدار في فلكه.

وبعد التجارب المرة التي عرفتها البشرية مع الأشكال المعلنة وغير المعلنة للاستعمار المباشر والاستعمار الجديد ابتلي الناس مع نهاية القرن العشرين بشكل آخر سموه أصحابه العولمة وقدموه على أنه فرص لا متناهية للتنمية عن طريق التكامل الاقتصادي وشبه السياسي للدول والتكتل ضمن كيانات محلية وإقليمية وعالمية وهو ما يعني ضمنيا دمج رأس المال العالمي ومداولته ونقل وتوطين التكنولوجيا والمعارف والتجهيزات داخل فضاء مفتوح لا متناه. وعبر هذا بالنسبة للكثيرين عن تمكين الشركات العالمية من الولوج إلى الدول العاجزة عن استغلال ثرواتها الطبيعية وإمكانياتها الخدمية ومدها بمصادر بشرية تتولى وضع استراتيجيات للتخطيط والتطوير والتنفيذ تخدم تلك الشركات ودولها.

وهناك من رأى أو توقع وجها آخر للعولمة عبر عنه بإرادة خفية للدول العظمى والشركات عابرة القارات في السيطرة عن بعد على الدول بعد أن يتم صهرها في أنواع مختلفة ومتعددة من التكتلات والتحالفات وأن تفرض عليها أنظمة ديمقراطية وتمنع من امتلاك أنواع معينة من الأسلحة‘ ومن وراء ذلك كله يرجى تسهيل عمليات المراقبة والاحتواء السياسي والاقتصادي والعسكري. ويرجع الدور الأكبر في هذا التوجه لمؤسسات ابريتنوود المانحة (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) وللتكنولوجيا الجديدة ولسياسة الحد من امتلاك أسلحة الدمار الشامل وللإعلام والاتصال ولمنظمات المجتمع المدني والإعلام‘ وهذه المؤسسات المدنية نراها مستقلة تارة وممولة من الخارج تارة أخرى ولكنها كلها وسيلة في حد نفوذ الدولة وفي إظهار انحرافاتها والمساهمة أحيانا في تطويعها للإرادة الخارجية المهيمنة.

وقد يقول المتطرفون من بين معارضي العولمة بأن هذا المفهوم الذي يقاد إليه العالم شيئا فشيئا يهدف في النهاية إلى القضاء على الحدود والسيادة الوطنية وطمس الخصوصيات الثقافية وقد يخطوا به أصحابه في النهاية نحو توحيد ديانة سكان المعمورة أو جلبهم للتخلي عن الدين نهائيا بغية تسهيل عملية ولادة مجتمع لا توجد فوارق بين مكوناته. وهذا التشاؤم زاد منه تزامن رفع شعار العولمة مع غياب القطبية إثر ربيع دول حلف وارسو سابقا مع سنة 1989 وما أصاب روسيا من تراجع في النفوذ ثم تباطأ الصين في المواجهة والقيام بدور على المستوى العالمي.

وبينما نحن بين مصدق لأصحاب العولمة وآمل في قطف ثمارها وبين متشائم حالم بمنقذ (منقذ آخر الزمان المنظور) إذ خرج علينا التونسي بوعزيزي 2010 وحرق نفسه بنار أحرقت فيما بعد أمل العرب والمسلمين في إقامة دولتهم القومية أو الدينية. فمثلما أحرقت ناره ذلك الحلم عبر ما سمي تباعا بالربيع العربي فقد أحرقت أيضا حلم دعاة الفوضى الخلاقة وهم الذين أرادوها مرحلة امتداد لما ابتغوه من وراء غزو العراق 2003 أي جر شعوب المنطقة العربية إلى تغيير أنظمتها واستبدالها بأخرى أكثر تناغما فيما بينها وأكثر ولاء وانسجاما اتجاه الدول الأجنبية الوصية تقليديا. فراهن الكثيرون على أن حادثة سيدي بوزيد هذه ستحقق للغرب ما خطط له مع غزو العراق وتابع العمل على إنجازه من خلال مسوغ الفوضى الخلاقة لا سيما عندما أزيح القذافي بطريقة صدام ورحل زين العبدين ومبارك وعبد الله صالح وأريد للأسد أن يرحل. لكن كان ما كان وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن ورأينا هذه الأيام من تأمل الحاضر واستشرف المستقبل بناء على ما يلوح في الأفق يقول "رحم الله الحجاج ما أعدله" و "كان الله في عون من سعوا إلى إعادة صياغة خريطة المنطقة العربية بما فيها الهلال الخصيب حسب مفهوم اتفاقية سايكس بيكو".

نعم إنما أصاب أمة العرب والمسلمين جراء أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتفاقم مع ما يسمى بالربيع العربي استوقف كل المفكرين في الشرق والغرب وشكل لديهم حدثا يجمعون على أنه سيخلف آثارا جديدة على مستقبل عالم يتخبط في أزمة اقتصادية ومالية منذ 2007 ويعيش بوادر العودة لحرب أقل برودة بين قطبي الأمس ويوجد تحت صدمة أكذوبة العولمة وزيف الديمقراطية التي طالما تغني بها البعض أكثر من دعاتها.

ولا مبالغة في اعتبار ما تقدم ذكره والتطورات الجارية في مصر إعلانا صريحا لنهاية النماذج الاقتصادية والسياسية المتداولة ولميلاد نظام عالمي جديد يغيب فيه كل محظور. ويمكن تصور بعض مقومات هذا "النظام العالمي المنظور في غياب المحظور" فيما يلي:

أولا: العودة إلى اعتماد القوة العسكرية تصديقا لمقولة "البقاء للأقوى" وقانون الغاب وشريعته محاكاة لنظرية "البقاء للأصلح" وهو ما يعني أن القوة هي الضمانة الوحيدة للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية ولحماية المكتسبات آنيا ومستقبلا‘ وعليه فإن قوة الدول ستقاس من الآن فصاعدا بقدراتها العسكرية ومستوى انتشارها في العالم وسهولة استخدامها أينما تطلب الأمر بعيدا عن السياسة التي تعتمد على الردع أو الدفاع.

ومن تداعيات اعتماد القوة العودة المحتملة إلى الاستعمار المباشر بعد فشل الإخراج المسرحي والعمليات التجميلية التي قدم بها الاستعمار والاستعمار الجديد والديمقراطية والعولمة وهي نظم وطرق للحكم انخدعت فيها الشعوب ردحا من الزمن.

ثانيا: التوجه نحو اعتماد "شرعية الثورة" و"الشارع" "وجمع التوقيعات عبر المواقع الاجتماعية" بدل صناديق الاقتراع أي الإعلان الصريح لإفلاس النماذج التي انبهر لها البعض وانخدع فيها وبها البعض الآخر مثل الرأسمالية الغربية والاشتراكية الشرقية والديمقراطية إلى غير ذلك من النماذج المتداولة في العالم. وفي هذا الإطار يخشى الناس أن يؤدي البحث عن إعطاء دور جديد للأقلية الخاسرة كل مرة في الانتخابات إلى حد دسترة النسبية في الانتخابات الرئاسية بغية تقاسم السلطة في هيئة الرئاسة والحكومة وباقي دوائر الإدارة‘ ومن النتائج المحتملة لهذا التوجه دسترة دور الحكم بالنسبة للجيش حتى يتمكن هو الآخر من التدخل بطريقة شرعية كلما تعثر الوفاق بين الفرقاء السياسيين خلال ممارسة الحكم.
ولا بد هنا من التذكير بالخطر الكبير الذي ستشكله "شرعنة الثورة والشارع وعملية جمع التوقيعات" بالنسبة للدول التي توجد فيها أقليات مهاجرة بأعداد تفوق عدد سكانها الاصليين وذلك من منظورين اثنين أولها احتمال الخروج إلى الشارع والمطالبة بالتغيير وثانيهما التخطيط المحتمل وغير المعلن في الدوائر الأممية لتقنين حق هؤلاء الوافدين في الترشح والانتخاب في الدول التي يقيمون فيها لفترة محددة.

ثالثا: العودة إلى تعدد الأقطاب لكن بصيغة تختلف عما كانت عليه الأوضاع قبل 1989 مثل استحداث منظمة أممية لكل قطب‘ فالكثير من دول العالم بحاجة ماسة إلى تعدد أقطاب النفوذ والاستقطاب بعد مرارة تجربة القطب الواحد. والمؤمل ليس أن يصبح بإمكان كل دولة فعل ما تريد وإنما إيجاد مساحة أوسع للتعاطي مع القضايا الوطنية وفي التعامل مع الغير بأقل الخسائر.

وقد يرى المتأثرون بعلم الخيال أن القطبية ستؤدي لا محالة أولا إلى العدول عن التوجه نحو التكتلات الكبرى الإقليمية والدولية حيث أصبحت الأولى أداة لتبرير قرارات الثانية وتبين إخضاع الثانية لإرادة القوي والأقوى وثانيا إلى عزل الدول داخل كل محور بسياج منيع أو حائط من الإسمنت والفولاذ أو بحراستها من طرف جنود أمميين؛ والأولوية هنا ستكون لا محالة للدول الواقعة في المناطق الساخنة حاليا من العالم. ومن بوادر هذا التوجه السياج الموجود بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكزيك وبين المملكة العربية السعودية واليمن والحائط الذي يفصل دولة فلسطين عن إسرائيل والتفكير في عزل منطقة الساحل في إفريقيا ومندناو في الفلبين وفطانيا في تيلاد والشيشان في القوقاز.

ومهما يكن من أمر ـ أعني تحقق النظام العالمي المفترض أو بقي الحال على ما هو عليه ـ فعلى العرب والمسلمين المقتنعين بالدولة المدنية وحلولها الوعي بالتحديات التي تواجههم وبضرورة مسايرة قافلة المتمكنين تكنولوجيا وعسكريا في عالمنا والانخداع لهم حتى يا أتي الله بأمره. وأما الذين معالم طريقهم الجهاد وإقامة الخلافة فجهلي مقالتهم يمنعني عذلهم ويفرض علي عذرهم‘ وعلى الرغم من هذا كله فقد يبقى لدي الحق في دعوة أمة الإسلام إلى الاطلاع على ما كتبه الموريتاني الحسن محمد ماديك بخصوص فقه المرحلة التي يعيشها المسلمون حاليا في دولهم وفي ديار الغربة معتمدا في ذلك ومبررا فعلتي لكون الدين النصيحة.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!