التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:01:25 غرينتش


تاريخ الإضافة : 26.07.2013 09:17:58

رحم الله عبد الله محمود با

محمد ولد حمدو: كاتب وصحفي موريتاني

محمد ولد حمدو: كاتب وصحفي موريتاني

رحل بهدوء كما عاش.. أبى أن يرحل، إلا بعد بعد أن أكمل عمله اليومي، وعاد إلى بيته، ليغادر الدينا، وفيا دقيقا في معاملاته، وصافيا في علاقاته بالجميع، كما كان دائما.. رحل بعد أن أدى ما عليه لربه، صلى الفجر، ويمم وجهه شطر الخالق، شأن المؤمن الموقن بالمغفرة والرحمة..

ذلك هو المرحوم عبد الله محمود با، كما عرفته وعرفه كثيرون، نحسبه كذلك ، ولا نزكي على الله أحدا..

لي مع هذا الأخ والزميل والصديق المغفور له، قصة طويلة.. عرفته عن بعد، وأنا في سنوات المراهقة والشباب الباكرة، كما عرفه كثيرون منكم، ومن أبناء هذا الوطن، عبر نشرات الأخبار في الشاشة الصغيرة، وشاءت الصدف السعيدة والأقدار الجميلة، أن أزامله سنوات، بعد ذلك في التلفزة الموريتانية.

من أول لقاء، وكنت وقتها في بداية الطريق، أحسست أني أعرف الرجل، منذ زمن بعيد، " سرى التيار" بيننا بانسيابية فائقة.. لم يحل بيني وبينه - كما يحدث عادة، في مثل هذه الحالات - سياج الشهرة الذي كثيرا ما باعد بين النجوم، وغيرهم من الناس العاديين..

واكتشفت لاحقا أن هذا الانطباع، هو الذي يتشكل لدى كل من عرفه او اقترب منه.. كل من عرفوه وزاملوه، أصدقاء خلص له، جميعهم بدون استثناء، وبدون تمييز..

رحمه الله، كان يفتعل نوعا من الخشية المحببة في أحاديثه معي "توجسا" من طبائع أهل اكيدي، وكلامهم المعمى المرسل على غير عواهنه، كما كان يقول، ويتبع ذلك في كل مرة، بقهقهة عفوية محببة.

كان رقيققا ودودا معي.. بل كان كذلك مع الجميع - يشهد الله - مع الشباب والشياب، ومع الزملاء والزميلات من كل المناطق، فقد كان يجد لكل واحد منهم، ما يداعبه به، مستغلا بعض الخصوصيات، أو معرضا بتحبب - وهو الموريتاني الذي يملك صداقات وازنة وممتدة عبر كل جغرافيا وديمغرافيا البلاد - ببعض ما عرف عن هذه المنطقة أو تلك، من البلاد من سجايا أو صفات..

كان صاحب دعابة، لا تجرح ولاتسيئ، ونكتة حاضرة متدفقة، عفة "تنطرح للجماعة"
كانت الفصحى حاضرة على لسانه متدفقة، لا تشوبها شائبة، حتى في أحاديثه العادية، بعيدا عن الشاشة، إنه بالفعل غصن من تلك الشجرة الأصيلة، وارفة الظلال التي مدت العربية والدين الإسلامي إلى ربوع بعيدة في إفريقيا، بكل نكران للذات، ودون صخب ولا مزايدات.. قامت بواجبها في هدوء، رافعة لواء الفلاح، دنيا وأخرى..
كان عف اللسان مقبلا على شأنه، لا يهتم بمالا يعنيه، ويجتهد في عمله باخلاص وتفان.

وكان مثقفا، كثيرا ما عاد في أحاديثه معي إلى سنوات شبابه وتحصيله العملي، التي قضاها بين لبنان والكويت، وهي سنوات وسعت آفاقه، وأخصبت ذهنه، وزادت معارفه وأصلتها، فأثرت الزاد الذي أخذه باكرا من رفقة الوالد الحبر، محمود با رضي الله عنه، وفي بيت العائلة، وفي ربوع " جول " التي كان لها - يجب أن نقول ذلك - في قلبه مكانة خاصة، لا تدانيها ربما سوى كنكوصة، التي انتخب منها رفيقة عمره، أطال الله بقاءها.

كان كثيرا ما حدثني عن جول وكيهيدي.. وما حولهما من معاهد الطفولة والشباب، و عن رحلاته في الإجازة، رفقة الأسرة إلى كنكوصة والقرى القريبة منها، حيث أخوال أولاده الطيبين.
ولست أدرى كيف قيضت لي الأقدار، بعد سنوات من عدم اللقاء، أن أودعه مواجهة عصر أحد الأيام الأولى من هذا الشهر الفضيل، أمام مكتبة رياح الجنوب في العاصمة، وذلك قبل أيام فقط من رحيله عن هذه الدار الفانية.
لا شك أنها صدفة خير من ألف ميعاد، فقد أتاحت لي، دون أن أعرف، أن أودع عزيزا غاليا، لن أراه للأسف الشديد، أبدا بعد تلك الأمسية..

وبذلك انقضت صداقة طويلة، زاملته سنوات عدة منها، خبرته فيها عن قرب، واختبرته في المواقف الصعبة، وتحت ضغط ظروف العمل التلفزيوني - وكلكم زملائي تعرفون ما ذا يعني ذلك الضغط - كان هو هو.. لا يتغير، لايفارقه هدوءه،ولا يخونه ثباته، وهو يخطو بتوأدة إلى الاستوديو، مستعدا لموعده الثابت مع المشاهدين... وكان يستعد لذلك الموعد المتجدد، يؤازره صوت جهوري عميق، ونطق فصيح للغة القرآن، وتمكن من قواعدها، وخبرة ومراس طويل مع العدسة والميكرفون..
رحم الله فقيد العدسة والميكرفون.. بل فقيد الإعلام عامة، وفقيد الصداقة والصدق والزهد والتفاني ونكران الذات.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!