التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:11:57 غرينتش


تاريخ الإضافة : 13.08.2013 15:08:22

العلمانية.. التحيز ونزع القداسة عن العالم(الحلقة الثانية)

عبد الله ميارة

عبد الله ميارة

يرى البروفسور عبد الوهاب ألمسيري وهو باحث متمرس في العلمانية وله كتابات رصينة عنها أن العلمانية انتهت بشكل تدريجي إلى صياغة عقل تحليلي يخضع للاعتبارات المادية المحسوسة والحسابات الكمية ويستبعد كل ما هو مركب وغير قابل للتحليل الكمي.

كما قلنا بداية توجد مشكلة في تعريف العلمانية فالدكتور ألمسيري يقول إنها لا تعني فقط فصل الدين عن الدولة والمجتمع وليست العلمانية إلحادية بدليل إن أبريطانيا توجد فيها علمانية غير إلحادية عكسا لفرنسا التي كانت منطلق العلمانية الملحدة المخاصمة للدين أما العلمانية الأوروبية فلم تظهر بشكل متكامل، وإنما ظهرت بشكل تدريجي حيث بدأت بالفلسفة الإنسانية (humanistic) ثم فلسفة التنوير (Enlightenment) ثم الفلسفات الرومانتيكية ثم الدارونية والفرويدية وتمت علمنة العلوم الاجتماعية الأوروبية أي بمعنى الإيمان بفكرة التقدم وحتميته وهي فكرة علمانية أصبحت في السنوات الأخيرة محل تساؤل وخاصة في العلوم الاجتماعية.

المنظومة العلمانية تغلغلت في النسيج اليومي للأوروبيين ولكن هذا كما يقول البروفسور ألمسيري ظل الأوروبي محكوما بالمقاييس الدينية فهو يتاجر بالعلمانية ويسير الدولة على الطريقة العلمانية ولكنه يحب ويتزوج ويموت ويدفن في الإطار المسيحي الديني.. فأضحى الأوروبي يعيش نوعا من عدم التوازن ويقترح الدكتور ألمسيري تعريف العلمانية باعتبارها "الدولة المطلقة" لأنها أصبحت مرجعا لذاتها وبذاتها، العلمانية ترفض المرجعية وتنكرها فهي دهرية بتعبير القرآن.. كما أن الصراع عنصر أساسي في هذه العلمانية وذلك عائد إلى الجذور الإغريقية واليونانية للفكر الأوروبي وللعقلية الأوروبية.

العلمانية هي نزع للقداسة عن العالم أي يصبح العالم ماديا أي يصبح محايدا ليس فيه خير أو شر وإنما جميع الأمور متساوية أو بعبارة أخرى "تشييء العالم" أو "توثين العالم" أو أن يصبح العالم والإنسان كالوثن يعبده الإنسان من دون الله لأن المرجعية هنا مرجعية كامنة. ونزع القداسة تعني انطباق النماذج الهندسية الكمية على الإنسان وبالتالي سهولة إدارته.

الحضارة الأوروبية حضارة التوحيد "Standardization" وهي حضارة قطع الغيار حضارة السطح.. هذه النظرة العلمانية كالتشيؤ والمرجعية الكامنة والرؤية المادية الأحادية هي في جوهرها عملية تحكم بالمجتمع الإنساني وبالمادة الطبيعية أي يصبح العالم جزء من المادة الطبيعية (د. عبد الوهاب المسيري، العلمانية وإشكالية التحيز، مجلة العالم اللندية، العدد 520 يوليو 1994 ص 36-37).
العلمانية عملت على تهميش الخالق ووضع الإنسان في مركز الكون فأصبح الحديث عن العنصر الأبيض بدل الحديث العن الجنس البشري ومن هنا اصبح التلازم بين العلمانية والإمبريالية فالعمانية هي النظرية والإمبريالية هي التطبيق والامبريالية كانت مجالها الأول في الداخل الأوروبي حيث ظهرت القومية والدولة ومرجعيتها علمانية فحددت الحدود وهمشت الكنيسة وجسدت الطاقة في الإطار المادي وباشرت الإصلاح الديني الذي كان يهدف إلى خلق إنسان غير متوازن مع نفسه ثم كانت المرحلة الثانية الامبريالية الخارجية حيث إزالة المؤسسات الوطنية، القضاء على الأسرة حركة الفينيزم "المركز حول الأنثى" القضاء على الخصوصيات تأكيد القيم المادية، العلمانيةن مثل الرمال المتحركة لا تعرف البكاء ولا الضحك ولا الخير ولا الشر لا تعرف إلا البيع والشراء والربح الوفير.,

أما البروفسور جين كين الباحث من مركز الدراسات الديمقراطية بجامعة أكسفورد فيعود بالعلمانية على كتاب توماس بين "عصر العقل" ويرى أنه إنجيل العلمانية الأول وهو يرى أن العلمانية تقترح معاني التسييد، العنف الجهل، العداء للمرأة.. وبالتالي أصبحت العلمانية مذهبا قمعيا جديدا بعد ارتباطها بالديكتاتورية وانعدام القانون والعنف وتدمير الثقافة والعلمانية كما يقول جون كين وكما أفهمها - والكلام دائما له - هي عملية إخضاع الدين لمنظور اجتماعي).

أما عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر فيرى العلمانية عملية إزالة للمعتقدات والممارسات والفلسفة الدينية عن هذا العالم.
العلمانية في التعبير القرآني "الدهرية" أي الاكتفاء بالشأن الموضوعي المادي والكف عن كل أشكال التمثل والاستلهام الغيبي وهي في الثقافة الأوروبية نزع القداسة عن العالم والكف عن كل التأملات الدينية والاعتماد على سلطة العقل باعتباره أداة الإدراك ومرجعية التأويل المرتبطة بمفاهيم النزعة الإنسانية والعقلانية والتقدم والعلمانية باختصار هي ما عرف بعصر الحداثة الأوروبية كما صور وصاغه عصر التنوير في القرن الثامن عشر كما يقول الباحث التونسي رفيق عبد السلام
جاءت العلمانية الأوروبية كنوع من التسوية التاريخية لإشكالية علاقة الدين بالدولة أي كنوع من محاولة ضبط المعطى الديني والتحكم فيه واستبعاده من الحقل السياسي في ضوء تجربة أوروبا في إخضاع الدين للكنيسة بفعل إكراهاتها ورهاناتها الخاصة.

والعلمانية في هذا المعنى تختلف باختلاف المحا ضن التاريخية لولاداتها والسياق السياسي والديني، فالعلمانية الفرنسية تعني معاداة المعطى الديني والعمل على محاربته حتى على مستوى الاعتقاد الفردي باعتباره نوعا من الأوهام ولكونه أداة للسلطة الثيوقراطية ولهذا تقترن العلمانية الفرنسية السياسية بالدعوة إلى الإلحاد.

أما العلمانية الأنجلو سكسونية فتكتفي بتحييد المعطى الديني وحصره في البعد الفردي في المستوى الشخصي والأخلاقي وذلك يعود للمصالحة مع إرث الحركة الإصلاحية الدينية لكل من مارتن لوثر وجون كالفن حيث حاولتا ضبط وظيفة المعطى الديني والحقل السياسي وهذا ما يعكسه النظام السياسي والديني القائم الآن والمشبع بقدر من هذه الاستمرارية الشرعية التاريخية.

لقد أدت العلمانية في التاريخ الأوروبي إلى تصدعات هائلة في النسيج النفسي للإنسان ا الذي عرف اختناقات قيم الحداثة ونبذ عصور التنوير وبروز أشكال الحكم الشمولي وسيطرة الاستلاب والعبثية كما نجد عند هوسرل وفوك وجاك ديريدا وهبرماس، صحيح أن العلمانية الأوروبية قد نجحت في عقلنة المجال الفكري والسياسي ووفرت شروطا لضبط الصراعات حول السلطة "النظام الديمقراطي إلا أن ذلك صاحبته اختلالات وتشوهات بارزة مثل دمر النسيج الاجتماعي وانهيار نظام القيم وتفكيك الأسرة واشتداد النزعات الفردية رغم ما تبذله مؤسسات الترشيد الجماعي والدوائر العلمية والأكاديمية والرقابة غلا أن نوازع التفكك والتصدع الداخلي البنيوي تزداد اتساعا.

إذا كانت العلمانية الأوروبية قد أحدثت ثورة في التاريخ السياسي باعتبارها استجابة واقعية لترويض الدين الكنسي والتحكم فيه وقادت إلى النهضة الأوروبية فإن المسلمين يمتلكون مشروعا مغايرا للعلمانية ويعتمدون مرجعية مضادة للعلماينة تستطيع لو تم تطبيقها ان تجنبهم الحاجة على العلمانية وغلى نتائجها التي أدت تشظي الأوروبي نفسيا أما حصادها في العالم العربي فدق كان حصادا مرا لدرجة أننا نتساءل أي علمانية هذه التي زرعت في العالم الإسلامي وما مسوغات استمرارها في شكل الأنظمة الحاكمة التي تنتمي إلى القرون الوسطى.

العلمانية في التجربة العربية والإسلاميين.. الحصاد المر
دخلت العلمانية العالم الإسلامي منذ القرن 19 في فترة تضعضع الدولة العثمانية على مختلف المستويات، وبعد فشل محاولات الإصلاح العثماني بدأ من 1839 مرورا ب 1876 الذي أدخل العلمانية في صلب النظام القضائي والتربوي والإداري ثم تسارعت العلمنة على يد جمعية تركيا الفتاة الذين هيمنوا على الحياة السياسية التركية (1908-1918) ثم في فترة مصطفى كمال الذي ألغى الخلافة الإسلامية واستبدل الشريعة بالدستور (القانون المدني السويسيري وقانون العقوبات الإيطالي والقانون التجاري الألماني)، وألغى الحروف العربية وترجم الأذان والقرآن إلى التركية، واستبدل عطلة الجمعة للأحد وحرم الحجاب، وألغى وزارة الأوقاف.
وأغلق المدارس الإسلامية والتكايا الصوفية، واستبدل التقويم الهجري بالتقويم الميلادي (أنور الجندي: العالم الإسلامي والإستعمار السياسي والإجتماعي والثقافي).
أما إيران فقد كانت عملية العلمنة بطيئة بسبب نفوذ الحوزة العلمية والمرجعية الشيعية فلم تتعمق مع أنها تسربت شيئا فشيئا في فترة الشاه الذي أطاحت به الثورة الإسلامية عام 1979م.

وإذا كانت تركيا قد انفردت بتبني النظام العلماني دستوريا لأول مرة في العالم الإسلامي فإن بقية بلدان العالم العربي الإسلامي بقيت دساتيرها تنص على مرجعية الإسلام، وإن أدخلت المؤسسات الإسلامية ضمن النسق الحكومي والجهاز البيروقراطي، كما هو الحال في تونس التي انفردت بتطبيق النموذج الأتاتوركي الراديكالي العلماني، حيث أحكمت الدولة التونسية قبضتها على الدين محتكرة هذا المجال الحيوي ومأممة الحقل الديني برمته بتأسيس دار الفتوى ومجلس الدعوة الإسلامية مستلهمة تجربة تركيا وسيرا على نهج بورقيبة التحديثي في رؤية تونس مندفعة إلى الحضن المتوسطي، تجسيدا للنموذج العلماني الفرنسي الراديكالي.

أعطى بورقيبة وخليفته الجنرل بن اعلي النخبة التونسية المتبلدة الحق في تفسير الدين إلى الحد الذي يقوض دعائم الدين، فأصبح بورقيبة المجتهد الأعظم فاستغنى عن العلماء، فقام بالإفطار في رمضان ودعى الناس إلى المجاهرة بالإفطار وفرضه على الموظفين، وسخر في خطبه من الجنة والنار واستهزأ بالقرآن، وأنكر معجزات الأنبياء وأغلق جامع الزيتونة، وحرم الحجاب وظهر للناس بملابس السباحة مع زوجته واعترف صراحة بأنه يمارس الجنس خارج الزواج وصادر الأوقاف وقلص عدد الحجاج.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!