التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:11:44 غرينتش


تاريخ الإضافة : 19.08.2013 10:17:02

الانتخابات وفرص البدائل المتاحة

عبد الصمد ولد أمبارك

عبد الصمد ولد أمبارك

تخضع الدول عادة خلال مسيرتها السياسية لمجموعة من التطورات السياسية والدستورية، لكي تستقر في نهاية المطاف على نظام يعكس الإرادة العامة لشعبها ويكفل له الاستقرار.خلال مراحل التطور هذه، تشهد الدولة نظما دستورية مختلفة، نتيجة اختلاف الظروف والعوامل التي كانت تحيط بها ، حيث يسود في كل مرحلة النظام الذي يلائمها، ولاشك أن التطور الدستوري في مختلف الدول يعتبر سمة العصر حيث لا يمكن أن تظل الدولة محكومة بنظام واحد دون أن تخضع لسنة الحياة التي تفرض التغيير والتبديل.

فالنظام الذي يلائم الدولة في وقت من الأوقات قد لا يلائمها في وقت آخر، ومن جهة أخرى فإن لكل مجتمع مفهومه الخاص لطبيعة نظام الحكم الذي يريد أن يخضع له هذا النظام، الذي يكون مستمدا من تقاليد المجتمع وظروفه والعوامل التاريخية والاقتصادية والسياسية التي تحيط به وتتحكم فيه، كما أن التطورات الدستورية للدول الأخرى قد يكون لها تأثير في الأنظمة الدستورية للدولة المجاورة، الأمر الذي يعطي الانطباع بوجود قنوات للتأثير المتبادل ولو بشكل غير مباشر بين مختلف الأنظمة السياسية في العالم.

هكذا فقد مرت موريتانيا بتطورات سياسية ودستورية هامة ، عكست مدى ما تحظى به فكرة الديمقراطية من احترام داخل أوساط النخبة السياسية التي تعاقبت على الحكم في هذا البلد منذ نشأة الحياة السياسية في موريتانيا في إطار الإتحاد الفرنسي سنة 1946 م ،مرورا بوضع أول دستور للبلاد سنة 1961 م، الذي أقر نظام الحزب الواحد، محتكرا المجال السياسي طيلة عقدين من الزمن حتى سنة 1978 م، ونتيجة لتردي الأوضاع والظرفية الدولية التي وجدت فيها البلاد مما حذي بنخبة عسكرية شابة إلى الإطاحة بالنظام المدني وتعليق الدستور وحل جميع المؤسسات الديمقراطية، لتشهد البلاد حقبة جديدة قوامها السيطرة والاحتكار السياسي من طرف الجيش ، عرفت خلالها فترة من عدم الاستقرار السياسي إثر تداول الانقلابات بين النخبة العسكرية الحاكمة.

استمرت الحالة حتى مطلع التسعينات ونتيجة للتحولات العميقة التي عرفها العالم والمتجسدة في رياح التغيير التي اجتاحت العالم وخصوصا المعسكر الشرقي واندثار حائط برلين وتراجع الأنظمة الأحادية في إفريقيا وقمة لابول في فرنسا، الشيء الذي أرغم النخبة العسكرية الموريتانية إلى قيادة البلاد نحو نظام ديمقراطي لم تكن الظروف مواتية لاستقطاب مثل هذا الحدث في بلد يعاني من العوائق المتراكمة ما يحول دون استنساخ نظام سياسي بعينه.

أثبتت التجربة الديمقراطية الأولى عدم جدوائيتها وعدم قابليتها لتأقلم مع ضرورة إشراك الجميع في عملية التحديث السياسي الوليد، مما أوصل البلد إلى طريق مسدود أوجب من الجيش التدخل سنة 2005 م، عندما لقي ترحيب وإجماع كافة القوى السياسة ومباركة فعلية للمجتمع الدولي ، ومرت البلاد بفترة انتقالية قوامها تصحيح المسار الديمقراطي، أفضت فيما بعد إلى انتخابات تعددية أوصلت رئيسا بطريقة ديمقراطية إلى سدة الحكم ، إلا أن النظام الجديد سرعان ما تعثر بفعل أزمة ثقة بين الجهاز التنفيذي والتشريعي أفضت هي الأخرى إلى حركة تصحيحية في أغسطس 2008 م ، دخلت أثرها البلاد أزمة دستورية تم بمقتضاها تعليق مؤسسة الرئاسة وانطلاقة المنتديات العامة للديمقراطية كآلية للحوار والنقاش بين مكونات الشعب رافقها فيما بعد اتفاق دكار بين كافة الفرقاء السياسيين.

تجدر الإشارة إلى أن الحوار أسلوب ديمقراطي بل وحتى حضاري يتم اللجوء إليه وفقا لضوابط ومؤهلات حسب ظروف الزمان والمكان، لحل الإشكالات المطروحة لتجاوز العقبات القائمة وتذليل الصعاب بين كافة الأطراف، مهما كان مصدرها ومرجعيتها الإيديولوجية وحتى خلفيتها السوسيوإقتصادية.

في موريتانيا أثبتت التجارب المنصرمة ميل الكيان الموريتاني إلى الحوار والتفاهم، انطلاقا من عدة مؤشرات ، يأتي على رأسها العامل الديني والتركيبة الاجتماعية والبنية الاقتصادية للمجتمع الموريتاني. فالقاموس السياسي المحلي يؤكد خيار الموريتانيين للحوار كأسلوب مدني مكنهم في الماضي من الجلوس على طاولة واحدة، لسد الثغرات والهوة القائمة بين كافة الفرقاء السياسيين كما برهنت على ذلك مجمل الأحداث التي عرفها البلد ، مثل مؤتمر ألاك، الحوار مع حركة الكادحين ، الحوار الاجتماعي مع مختلف التنظيمات النقابية ، الأيام الوطنية للتشاور ، المنتديات العامة للديمقراطية ، اتفاق دكار .

هذه محطات تاريخية من مسيرة بلد لم يعمر طويلا من ناحية التجربة السياسية على الرغم من كثرة الأحداث وصناعتها خارج سرب التاريخ في الذاكرة الجماعية لشعب متعطش إلى التغيير والتجديد ، بل سمته الأساسية البحث عن الحل والترحال وفقا لمنظومة الأمن والاستقرار .

إن أجندة الانتخابات البلدية و التشريعية الحالية تفرضها أكثر من ضرورة، بفعل الحاجة الماسة لقيام مؤسسات منتخبة عقب نتائج الحوار، و تطبيقا لخارطة الطريق المعتمدة من قبل جل الطيف السياسي الوطني،كما أنها ضرورة تمليها طبيعة المرحلة من الظرفية الزمانية ،مع التمعن في إشكالية أزمة انتخابات عليها أن تنظم مراعاة لمصلحة الجميع أغلبية و معارضة .

مما يتطلب دخول اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات على الخط لإيجاد حل توافقي يفضي إلي تنظيم انتخابات مرضية للجميع ،تحيط بمشاركة اكبر قدر ممكن من الفرقاء السياسيين في العملية الانتخابية مع توفير ضمانات الشفافية و النزاهة مع الكفاءة لنيل ثقة الفاعلين السياسيين، للخروج من المأزق القائم نحو حلحلة الأزمة السياسية برمتها،مع ما يتطلب ذالك من إرضاء منسقيه المعارضة الديمقراطية و أحزاب المعاهدة و الأغلبية الرئاسية المحاورة، بشكل جدي يتجه إلي تحديد السقف الزمني مع الشروط و الضوابط القانونية المتاحة، لتجاوز الفراغ السياسي الحاصل بفعل الأمر الواقع من تناقضات الساحة السياسية التي تتطلب قدرا كبيرا من المرونة و الحكمة .

في الوقت الذي أبدى فيه رئيس الجمهورية استعداد حكومته لتقديم كل الضمانات اللازمة من أجل تنظيم الانتخابات التشريعية و البلدية في ظروف شفافة و حرة، كتوسيع اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات مع إنشاء مرصد وطني يضم الأحزاب السياسية و المجتمع المدني، لمراقبة الانتخابات و هي إشارات واضحة تنم عن حسن النية و الإرادة الصادقة، قصد التوصل إلي التفاهم حول مجمل القضايا العالقة قبل فوات الأوان و الانزلاق نحو المجهول في الأجندة الأحادية،التي تعيد البلاد إلي مربع الانطلاقة وطريق الاحتقان المسدود .عكس النهج الذي اعتاده الرئيس و الذي انطبع منذ البداية بالحكم الرشيد و الإصلاحات الاقتصادية و تامين البلد مع الانفتاح علي العالم الخارجي.

فلقد مضي الآن على إصدار الدستور ودخول موريتانيا في سياق الديمقراطية التعددية نحو ثلاثة عقود من الزمن ، إنه بدون شك مجال زمني كافي للتجريب ومعالجة النماذج وحقل ميداني لمراقبة الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين في بلد لا يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة كموريتانيا ، إنه باختصار مناسبة لتقييم الديمقراطية والحداثة السياسية في مجتمع لم يكن مهيأ تماما لذلك.

نحاول الخوض هنا في الإطار المؤسسي الذي ولدته الديمقراطية الفتية وما خلفته من بنية فوقية استلهمت هموم المواطن وانشغالات الساسة ،حتى برهنت على هشاشة النظام القائم وأدت إلى قطيعة واضحة في معالم ممارسة الديمقراطية مادامت لم تحرك الساكن الأصلي ، كما برهن الأداء المؤسسي للديمقراطية عن قصور القيادات السياسية وإخفاق المؤسسات في تحقيق واستيعاب تطلعات الجماهير العريضة والمترامية الأطراف داخل خندق مظلم أهلك طموح الجميع في النظرة المثالية لواقع البلد .

فالمتتبع لمسار الأحداث الوطنية الأخيرة يدرك بجلاء الإرادة القوية والموقف الشجاع لقرار النظام الحالي في مسعاه إلى حوار وطني توافقي، حول مجمل القضايا الوطنية دون شرط ولا سقف قد يشكل عائقا أمام منسقيه المعارضة الديمقراطية في ظل خارطة طريق، حددت من خلالها الإجراءات العملية وشكل وبرنامج الحوار قصد الوصول إلى اتفاق سياسي يعتبر الإطار التوافقي لقيادة البلاد في المرحلة المقبلة ، يضمن التناوب السلمي على السلطة من خلال انتخابات ذات مصداقية تشكل درعا وحصنا متينا للنظام الجمهوري تمنعه من التغيرات الغير دستورية وتوفر للبلد الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي .

هكذا نجح الجميع أغلبية ومعارضة في حدث فريد من نوعه في تاريخ البلد المعاصر ، والتأم الفرقاء السياسيين حول جملة من الإصلاحات الدستورية (التنفيذية ،التشريعية،القضائية) تعتبر في حقيقة الأمر إنجازا يتماشى وروح العصر الذي تنتابه متغيرات عدة ، يحدق بها الربيع العربي وما ولده من إفرازات إلى الأنظمة العربية والإقليمية وفي مقدمتها الحراك الشبابي الخجول حتى الساعة، مع بصيص أمل التغيير المنشود و انتهاء بالأزمات العربية المستعصية و ما ولدته من انتشار للفتن و الحروب الأهلية التي يتطلب الخروج منها بعض الوقت مع فارق الزمن المظلم .

على الرغم من ذلك تبقى إشكاليات مهمة تطرح نفسها حول الحاضر والآفاق المستقبلية للنظام الديمقراطي وتجذر مقومات الدولة في ظل مختلف هذه التحولات، فمن الممكن وجود ثروة من المصوغات في غياب نسبة من الشعب عن هذه الممارسة السياسية ، فهي لا تنتمي إلى مخياله الاجتماعي ولم تولد في ذهنه كمحصلة لمجموعة من الشروط التاريخية والاجتماعية ، من هنا تنبثق ميكانيزمات القطيعة بين الشعب والديمقراطية، قصد استتباب مجموعة من الضوابط الأساسية لأي عمل سياسي.

ولعل من أكبر الأولويات المطروحة معالجة قضايا التنمية بكل إرادة ونزاهة وشفافية حيث الإشكالية الاقتصادية بما فيها حسن التسيير وعقلنة عائدات ثرواتنا الطبيعية وصيانة المال العام ومحاربة الرشوة والفساد بالإضافة إلى معالجة الفقر والأمية والرفع من مستوى التغطية الصحية ومستوى التمدرس وضرورة مشاركة الشباب والنساء في عملية اتخاذ القرار بصفة حقيقة بعيدا عن التزييف والتحريف ، كما أن إشكالية التمثيل السياسي بصفة عادلة وديمقراطية، ستعطي للعملية الديمقراطية طعمها الحقيقي ومسلكها الشرعي .

فالديمقراطية إن كانت تعني حكم الشعب، فلذا يجب إشراك كافة أطياف هذا الشعب في العملية برمتها دونما تمييز ، كما أن خيرات هذا البلد يجب أن تنصب لصالحه وفقا لمعادلة متوازنة وحكيمة ، وهنا تطرح عدة أسئلة نفسها في سبيل استخراج هذه الصورة المثالية للدولة التي نصبوا إليها ، فهل تتحقق أمنيات الجميع في تعايش وأمن وأمان ؟ وهل تحقق النخبة الحالية ما عجز عنه آخرون وقصرت عنه رؤية الكثيرين ؟ أم أننا سنظل نطارد المرعى بمعزل عن العالم من حولنا دون تحقيق أي إصلاحات جذرية ؟ وهل جميعا موحدين سنخلق المعجزات لهذا الشعب أم أن حاضرنا امتداد طبيعي لماضينا والمسلك الوحيد للمستقبل ؟


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!