التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:09:47 غرينتش


تاريخ الإضافة : 22.08.2013 09:38:29

من وحي "إلهام المحظرة"

محمد ولد حمدو

محمد ولد حمدو

قبل أيام، تفضل الأخ الفاضل، الأستاذ الحسن ولد يسلم، بإهدائي مشكورا، ديوان إلهام المحظرة، لصاحبه المغفور له، يسلم ولد أكيبد.. وهو جانب من خلاصة عقود من العطاء الشعري لأحد فرسان هذه الجامعة التقليدية، التي حفظت على مدى قرون للبلد، وجهه الثقافي المشرق، في هذا الركن القصي من دار الإسلام، البعيدة عن المراكز الحضرية العربية والإسلامية الكبرى " المتنكبة عن حواضر العلم الكبرى وأسواق الثقافة النافقة ومرابد الشعر والأدب الأولى" كما قال الكتور يحيى ولد البراء في تقديمه الرائع والمستفيض لهذا العمل الرائد.

لساعات غصت بين صفحات هذا العمل، وأغراني مضمونه المرتب، وتتالي الأغراض الشعرية فيه، وما تقدمه القصائد وما رافقها من هوامش، على مواصلة الغوص.. ولم تطاوعني نفسي أن أتوقف قبل اكمال آخر سطر منه.

ودون أن أشعر، أحسست عناصر المشهد المحظري، تتراقص أمامي، حية كأنما نشطت من عقال، محتجة على عقوق الأبناء، حيال إرث الآباء، وعدم اكتراثهم بهذا التراث الثري، الممتد في الزمان والمكان، منذ مئات السنين..الشيوخ الأحبار المنقطعون للتدريس، لا يريدون جزاء ولا شكورا، ونوابغ التلاميذ يحرصون على النهل من معينهم الذي لاينضب، الأنظام والمقررات الدراسية في المحظرة، التنافس بين التلاميذ في ميادين اللغة والفقه، وشحذ الذاكرة في صراع يومي، زاده الإجتهاد، وهدفه التألق بين الرفاق، حياة الشظف والقلة التي يعيشها التلاميد، سواء كانوا "دولة" أو "مؤبدين"، الصراع الأبدي في محيط المحظرة، من أجل توفير أبسط مقومات الحياة، في وسط بدوي صعب المراس، تقل فيه المؤونة، ويندر فيه كل شيئ، إلا الزاد المعرفي، والإخبات لله الواحد الأحد.

وهذه الملامح التي يفيض بها الكتاب، هي ذاتها التي شاهدت نماذج منها، قبل أكثر من ثلاثين سنة، وأنا في طفولتي البعيدة، هناك في قرية الدار البيظه المحروسة، على أطراف إكيدي الجنوبية، في حضرة المرحوم العلامة أحمد بابا ولد اليدالي، تلميذ ونجي المغفور له، العلامة محمد سالم ولد ألما، أحد من جمعهم التحصيل بصاحب الديوان، الذي عاش متنقلا في مناطق شمال اكيدي ولعقل، وتخوم آوكار، بين عناوين المحاظر، ذائعة الصيت، وفيها زامل أسماء بارزة، وقوية الأثر في التاريخ العلمي في المنطقة والبلاد.

وجدتني إذا عبر هذا البساط الشعري الغزير والقوي، أعود إلى طفولتي، قبل أن تنشب العولمة والحداثة المتوحشة، أظفارها في البقية الباقية حينها من المحظرة، وهو عالم حمت لنا الروايات المتواترة الكثير من تجلياته، وأحسن الشاعر العودة بنا إليها، فعبر عنها بلسان مبين، شعرا متدفقا سلسا، في أكثر من موقع في هذا الكتاب، كما في هذه الرسالة المرسلة بالبريد المضمون إلى من يهمه الأمر:

ياراكبا قاصدا أرض العقيلات بلغ إلى حيها أسنى التحيات
وأخبرنه بأنا عاكفون لدى يحظيه من سبله سبل الهدايات
ويواصل الشاعر بقوة، رفدنا بعناصر جديدة من عالم المحظرة، تعكسه إخوانياته ومساجلاته، المتدفقة عذوبة وطرافة في ثنايا الديوان، خاصة مع خله ورفيق دربه، الشاعر المفلق، ابوه ولد أسياد، أوبينه وبين زميله وابن شيخه، اتاه ولد يحظيه رحم الله الجميع.. وكما في حواره مع ناقته الحلوب " أم كراع " وقد أكثرت من الطياش، حتى كادت تلهيه عن هدفه الأصلي:

لا تراعي أم الكراع وراعي غرض الشيخ والذي الشيخ راع
حضرة الشيخ لازمي واستقيمي قد دعتنا للشيخ ويك الدواعي

أوكما في وصفه لعريش التلاميذ:

وبيت كبيت العنكبوت وظله كظل حسام قابل الشمس غريه ظللت به في فتية أي فتية ينال بهم من مشرب العلم عذبه
إنه عالم كامل لا سيادة فيها لغير الكلمة و" الفتوة" في أبهة صورها، ولا قانون يعلو الموسوعية الحقة، والتنافس المتواصل في ميادين المعرفة!!
وكأنما هو الذي قصده الشاعر حين وصف العلامة لبحر ولد عدود في ثنايا الديوان:
وبحر محيط بالمعارف والعلى وبحر علوم ليس يدركها الحصر ليس بوسعي رغم أني لست بناقد أدبي، وبضاعتي متواضعة في هذا الشأن، إلا أن أنوه بنفس شعري طويل لدى الشاعر، تلمسه في مختلف مواد الديوان، وقدرة فائقة على الوصف، تلامس في بعض الأحيان، بعض الفنون الجديدة في مجال التقرير الصحفي، نرى نموذجا واضحا من ذلك، في هذه القطعة التي يصف فيها ليلة في ضيافة آل حمينا:
فجئت للحي في ظلماء قاتمة فيها رياح وتهتان من المطر
فأسرع اتاه نحوي حينما سمعت أذناه صوت سلام طارق حذر
فأدخل الرحل قبلي ثم أدخلني هنيئا مع الترحيب والبشر
نادى، أميلود بادرني على عجل فجاء ميلود قبل اللمح بالبصر
وأوقد النار والمصباح وانتصب الــ مغراج يعلو بمسمار على قدر
من منا يقرأهذه الأبيات، ولا تتجسد أمامه الصورة بكل تفاصيلها، فكأنما الشاعر، أراد أن يكسر مفعول الظلام، في تلك الليلة الماطرة، فنقل لنا المشاهد متتالية، بدقة فائقة في الوصف، تجعلنا نعيش معه التجربة كاملة.

صور ومشاهد جعلتني، على مدى مائة وثلاثين صفحة – تمنيت أن تكون أكثر - أستعيد عالم المحظرة، الذي كان الديوان تعبيرا أمينا عنه، فاستحق دون شك ماوسمه به المحقق "إلهام المحظرة"
والحق أني تنميت أن تكون صفحاته أكثر، حتى أبقى، ولو لبعض الوقت، بعيدا عن حياتنا الضاغطة، البعيدة كل البعد، عن إلهام المحظرة، وأجوائها العبقة بالتصميم على توطين المعرفة، وترسيخ التقاليد الثقافية العالمة، في بيئة بدوية سمتها الترحال والشظف وقساوة الطبيعة، وهو ما جعل صحراء شنقيط استثناء، من المنظور الخلدوني لارتباط العلم بالعمران والإستقرار، لم وقد لا يتكرر!!
تنميت بالفعل – من خلال هذا الديوان - أن يتاح لي وقت أكبر في كنف المحظرة، تلك المنظومة الإستثنائية الشاملة لمجموعة من القيم والآليات والتجليات والدلالات عز نظيرها، والتي هي اليوم تكاد تكون جزءا من ماض، يحث الخطى نحو الإنقراض والإندثار، للأسف الشديد، ونحن نرقب ذلك باستكانة.. وربما سلبية مريبة ومتواطئة!!
فشكرا للأستاذ الحسن ولد يسلم، على هذه الهدية الرائعة، والتحقيق الوافي والدقيق، وأملنا أن تكون الطبعة الثانية أشمل، وأن تحمل إلينا المزيد من "إلهامات المحظرة" خاصة وأنه أشار إلى أن الديوان، لا يحصر كل إنتاج المرحوم، الذي ما زال الكثير منه – حال انتاج كثير من سكان هذه البلاد – متفرقا بين الكنانيش الشخصية والمجاميع العائلية، والمكتبات الأهلية المطمورة بالنسيان، في أغلب الأحيان، لم يجد طريقه بعد إلى النشر والإشهار.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!