التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:09:41 غرينتش


تاريخ الإضافة : 25.08.2013 15:55:07

فكر التنمية بعد عقد من الصوم عن الكتابة

محمد الأمين ولد أبتي fikrettenmiyya.blogspot.com

محمد الأمين ولد أبتي fikrettenmiyya.blogspot.com

مضت سنوات و سنوات من الصمت، عشنا فيها لحظات درامية من الشوق إلى الكتابة و التواصل مع الجمهور، لكننا كنا - كمريم العذراء - قد نذرنا للرحمن صوما عن الكلام. كنا - كما كانت - نشعر بغربة عميقة و عجز مطلق عن التفاهم مع آخرين كل المؤشرات تدل على أن لا مجال للتفاهم معهم و أننا لا نتكلم معهم نفس اللغة، والحوار معهم حوار صم.

اليوم أجدني مجبرا على أن أطل على عالم تغير جوهريا منذ بدأت أكتب، عالم لم يعد ذاك الذي خاطبته في الصحافة التنظيمية السرية للحركة الإسلامية في موريتانيا، من خلال المجلة السرية التي كنت أرأس تحريرها بعنوان "مطلع الفجر"، و كنت أوقع فيها باسم حركي هو "ابن القدس". و قد توقفت عن الكتابة في ذلك الموقع السري، الأقرب إلى "دار الأرقم ابن أبي الأرقم" – بالمعنى القطبي، نسبة إلى سيد قطب – عام 1986. و هو الموقع البعيد عن العلنية المطلقة التي نعيشها اليوم في ظل مجتمع الحريات الديمقراطي و مجتمع التبادل عبر الانترنت.

أطل على القراء في عالم لم يعد كذلك ذلك الذي خاطبته و لسنوات عديدة من على صفحات الصحافة الوطنية المستقلة، و خصوصا منها جريدتي "البيان" و "القلم"، يوم كنت أستشرف أفق ربيع "عربي" أو "عالمي" قادم، و أتلمس وراء تساقط الأنظمة الدكتاتورية الثورية في أوربا الشرقية و إفريقيا أملا بغد أكثر إنسانية و عدالة و حرية.

أطل على هؤلاء القراء في عالم لم نعد فيه بحاجة إلى انتظار الربع الأخير من الليل و انتهاء سحب ال500 أو ال1000 نسخة التي تسمح لنا بها المطبعة الوطنية، للتوجه بعد ذلك إلى وزارة الداخلية التي لا تسلمك ترخيص التوزيع قبل الظهر.

ما يسمح لك - في الأخير و في أحسن الأحوال - بأن تسعد بلذة "الروح الرواقية"، و أنت تتخيل "الرأسمال المعنوي" الذي بنيته لدى العدد القليل من قراء "النقطة الساخنة". تلك كانت الشروط التي أحاطت كتاباتنا في سنوات 1991 – 2000، أيام كانت تلك المنطقة المركزية في العاصمة، ربعا خصيبا لباعة الصحافة المكتوبة، لا تجد فيها أثرا للباعة المتجولين للهواتف الجوالة و بطاقات الشحن.

اليوم - أزيد من عقد بعد توقفي عن الكتابة - أعود للتواصل مع القراء، دون الحاجة – هذه المرة - للمرور عبر تأشيرات المؤسسة الإعلامية، و لا عبر إدارة الحريات العامة بوزارة الداخلية، و لا عبر البروتوكولات الكثيرة الأخرى - التي يطول ذكرها - و التي اضطرتني كثرتها إلى الصوم عن الكتابة قرابة العقد من الزمن. اليوم قررت أن أكتب بتجرد تام من الذات، و بامتطاء متحرر لأمواج التواصل في بحر الانترنت المهيمن على عالم القرية الالكترونية الكونية.

و بالطبع هنالك "مآرب" عديدة وراء هذه العودة إلى الكتابة، لكن من أهما سيطرة الوعي بالمواطنة العالمية. أكتب منذ اليوم كمواطن عالمي يعي ما يرتبط بمثل تلك المواطنة من مسؤوليات و واجبات، على رأسها مسؤولية التنوير و التحذير في مواجهة التجاوزات و المخاطر و الكوارث، المساهمة في تصور برامج التنمية و التحذير من أشكال الفشل التي تتهددها. و منذ شهور تتملكني رغبة قوية في الإمساك بالقلم مجددا نجحت في كبتها بتعلات كثيرة، لكن تلك الرغبة انتصرت اليوم، و قهرتني و حررتني من ترددي في مواجهة الدرس المصري الدامي، المكتوب بصمغ احمر قاني.

أقول ذلك و أنا أعي تماما أنني لن أكتب بالارتكاز إلى موقع سياسي أو إيديولوجي متحيز. أعي أن الزاوية التي سأطل على القراء منها هي الزاوية الفكرية و الفلسفية، التي تركز على الإنساني و الأخلاقي المشترك بين الجميع. لكنني أنطلق بالمقابل من أن التأملات و التحليلات الفكرية و العلمية و الفلسفية لم تكن يوما في ماضي الإنسانية و لا يجوز أن تكون يوما من أيام حاضرها أو مستقبلها في موقع الحياد السلبي، و موقع الاستقالة من كل مسؤولية "مواطنية" أو مدنية.

في فجر تاريخ الفلسفة – و هي أكثر الفروع المعرفية بعدا عن الارتباط باليومي و المعيش – اعتبر أفلاطون الكلام و الحوار أدوات أساسية للمحافظة على السلم الأهلي و للوقاية من انتشار العنف في الجمهورية. و كشفت محاورات أفلاطون التي يرد فيها على السوفسطائيين أن التلاعب بالحقيقة و نفي و جودها و التعامل مع الكلام و الخطابة كمجرد أدوات لتمرير و تلميع الحقيقة التي ينتجها من لديه القوة و السلطة – اعتبر أن ذلك – يفقد الحوار قيمته و يؤسس للصمت و للعنف و الحرب بين الممسكين بالقوة.

في تلك السنوات من القرن السادس قبل الميلاد كان السوفسطائيون يروجون تجارة الخطابة و البلاغة اللفظية، و يبررون في ذات الوقت حكم الثلاثين طاغية الذي وأد الديمقراطية الشعبية لنبلاء أثينا في مهدها.

و بالمقابل نعيش اليوم تحت رحمة "سوفسطائية" و "مركنتيلية" الإعلام السمعي البصري و "ثورات الفوتوشوب"، التي قادت الحوار بين شركاء الثورة من إسلاميين و علمانيين إلى طريق مسدود، و فتحت الباب لتبرير احتلال القناصة و الدبابات و الطائرات العسكرية للميدان العام.

سادتي مواطني عالم جاءتنا "مليونياته" و "ساحات تحريره" حبلى بالوعود "المليونية" بغد أفضل، لكنه أغرقنا بسرعة في بحر من الدماء و أزكم أنوفنا برائحة الجثث المشتعلة و المتعفنة، اسمحوا لي أن أتطفل على الفكر و الفلسفة و حوارات العمق، في لحظات تضيق فيها المساحة على شيء آخر غير المآتم و المحاكم الثورية و ردود الفعل الانتقامية.

واسمحوا لي أن أحيطكم علما بأنني تعلمت مع فوكو "أن الحقيقة ليست بنت الخلوات الطويلة، و إنما هي من هذا العالم و تولد في أتون صراعاته". و أنني خلصت إلى أن ما نحن مطالبون به قبل كل شيء آخر، هو أن نفكر و أن نتفلسف تحت هذا العنوان، الذي قد يكون الأفضل لتلخيص و تعريف أولويات فكرنا الحاضر، و هو "فكر التنمية".


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!