التاريخ: 20.09.2024  التوقيت:02:30 غرينتش


تاريخ الإضافة : 15.10.2013 10:14:27

رحلة الترحال والرحيل

د. سيدي المختار أحمد طالب

د. سيدي المختار أحمد طالب

يعتبر الموريتانيون من أكثر العرب بداوة من حيث التمسك بأنماط العيش القديمة وبالنظم الاجتماعية كالانتماء للقبيلة والأثينية والجهة وما ينجر عن ذلك من سلبيات وإيجابيات في العلاقات الاجتماعية والسياسية وفي أداء الخدمة العمومية ضمن الدولة الحديثة إذ ما نزال نجد من يعيش تحت الخيمة البدوية الأصيلة متنقلا وراء قطيع من الأنعام منتجعا الكلأ و مساقط الغيث غير مكترث بما تخطط له الدولة المركزية وتقوم به في الداخل والخارج.

و يلاحظ أن لأهل كل منطقة من موريتانيا رحلة شتاء وصيف في حيز معلوم؛ حتى كسبوا من أجل ذلك، أو أكسبوا أنفسهم، لقب "الرحالة" ونطقت حكمتهم المأثورة بالقول: "الرحاله ما هي عماره".

ومن طغيان الطابع البدوي لدى الموريتانيين محاولتهم الدائمة تطويع خصوصيات الحياة في المدن لما عرفوه واعتادوه في صحرائهم الشاسعة وكذلك سعيهم المستمر إلى خلق نمط عيش مزيج بين البداوة والحضر، ومن تجليات الأنموذج الذي يحاول البدويون الوافدون على الحضر تطويره خيمة مضروبة في فناء قصر فاخر شيد وفق أحدث معايير الهندسة المعمارية أو شويهات غنم تتناطح قرب سيارة من آخر الموديلات أو تتعارك فوقها، ومن تجلياته أيضا أساليب وممارسات عدة أخرى تضر الناس في عيشهم و تسيء إلى صورة بلدهم داخليا وخارجيا.
.

وفي المجال السياسي نتذكر جميعنا توزع الموريتانيين ابتداء بين مجموعة قليلة من الأحزاب، عندما أرغمت بلادنا على الديمقراطية والتعددية الحزبية كغيرها من دول غرب إفريقيا مع نهاية الثمانينيات بموجب اتفاق لابول بفرنسا، ولكن سرعان ما رأيناهم لاحقا يتنقلون من حزب لآخر في مناسبات خاصة وتحت أسباب عديدة ومختلفة، وقد يكون السبب الحق الكامن وراء ترحالهم كون الاستقرار في مكان ما مرهون دائما في مخيلة أي بدوي بتوفر ذلك المكان على متطلبات المواشي التي يعتمد عليها في حياته وهو شرط تستحيل معه الإقامة في مكان واحد مدة طويلة لا سيما في بلد صحراوي ما زالت تتعاقب عليه موجات الجفاف.

وكانت عملية انشطار المعارضة التي خاضت وخسرت انتخابات 1992 قد شكلت إحدى التجليات الكبرى لحركية الموريتاني البدوي ودينامكية تغيير ولاءاته، فلا أحد يجهل أن معظم الأحزاب التي تتنافس الآن في الساحة الوطنية جاءت عقب تلك العملية الانشطارية لقطب المعارضة، ولا أحد أيضا ينكر انشطار أحزاب الدولة بعد كل تغيير لرأس هرم السلطة إذ تنشط الآن في الساحة السياسية أحزاب عدة في المعارضة وفي الأغلبية جاءت كلها بعد انقلابي 2005 و 2008 من رحم الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي أو من حزب "عادل" وقد تنبئنا الأيام أن الاتحاد من أجل الجمهورية ليس بدعا من الأحزاب ولا شاذا عن القاعدة.

وقد كان انقلاب 2008 مناسبة استعادت فيها المعارضة الموريتانية بعض عافيتها وظهر ذلك في جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية تأسست حول نواة ممن تعاونوا مع مختلف الأنظمة السابقة وكسبوا الشهرة والمال في حضنها وعبر انضمام مجموعة من السياسيين و أصحاب المال للمنسقية جاءوا بعد اتفاق دكار ليشدوا عضد من سبقوهم في عملية سد طريق الفوز أمام من سماه بعض "زعيم الانقلاب" واعتبره آخرون "زعيم حركة تصحيح" ومرشح موريتانيا الأعماق والتغيير، والمهم في هذا السياق موجة الترحال التي عقبت هذا الانقلاب وتغيرت بمناسبتها مواقف قياديين عرفوا في السابق بالتصلب في وجهات نظرهم وهجر إثرها آخرون أحزابهم خوفا وطمعا كما انجر الكثيرون أثناء انتخابات 2009 وراء طعم "محاربة الفساد والمفسدين" و"تغيير الطبقة السياسية" و"إعطاء الأولوية للطبقات المهمشة والفقيرة" إلى غير ذلك من وعود البرنامج الانتخابي للرئيس محمد ولد عبد العزيز .

والحدث الأهم في سيرة الترحال السياسي جاء بعد تصاعد الاحتجاجات في الوطن العربي وعندما ما حاولت موريتانيا استباق الأحداث وقررت إجراء حوار سياسي شامل تشارك فيه كل القوي السياسية الوطنية والمجتمع المدني، وإثر هذا الحدث شهدت الساحة السياسية الوطنية ترحالا آخر لنوع آخر من طبقتها السياسية وصفوتها الثقافية، فرحلت أحزاب بكاملها من منسقية المعارضة الديمقراطية لتشكل خطا وسطيا في الطرح اختزل وصفه في "المعارضة المحاورة" كما ارتحل بين أحزاب الأقطاب الثلاثة الرئيسة في الساحة السياسية الكثير من الأفراد والمجموعات لهم في ذلك دوافع شتى. والحوار الذي تم تنظيمه في النصف الثاني من عام 2011 والذي سعى أساسا إلى جبر خاطر من وقعوا اتفاق دكار وعقدوا عليه آمالهم شكل أيضا مناسبة ميز فيها الموريتانيون بين من يمارس السياسة ليساهم في تطوير الممارسات الديمقراطية في البلد ولأجل مصالحها العليا وبين من يمتهنها لحاجة في نفسه أو لمن يرعاه.

وفسر النظام والمحللون السياسيون بأن ذهاب زين العابدين ومبارك والقذافي وعبد الله صالح تحت ضغط شعوبهم سيل لعاب زعماء من معارضتنا وجعلهم يغيبون عن حوار 2011 ويرفعون في ربيع 2012 شعار الرحيل مطالبين ولد عبد العزيز بالتخلي عن الرئاسة طواعية قبل أن يرغمه "الجيل الثالث" على ذلك إن تعذرت تعبئة الجماهير العمياء واستحال دفعها بدينامو الشباب إلى القصر الرئاسي. وظن أهل الرحيل أنهم قادرون على تحقيق ما أرادوه بعد إصابة رئيس الجمهورية برصاصة شاردة وبعد ما تلا تلك الحادثة من تطورات وشائعات أصاب برصاصة قاتلة هذه المرة مصداقية المعارضة والإعلام الحر الوطني بمختلف أصنافه و أطيافه، ومن أبرز مظاهر الترحال السياسي في هذه المرحلة انضمام ضباط سابقين بارزين لمنسقية المعارضة وإنشاء حزب الحراك الشبابي من أجل الوطن وتزايد الطلب على إنشاء الأحزاب السياسية وما صاحب ذلك من عمليات انسحاب من أحزاب وانضمام إلى أخرى.

ويجمع المراقبون اليوم على أن الفشل الأخير لما سمي تارة بالحوار وتارة بالمشاورات بين الأغلبية الرئاسية ومنسقية المعارضة الديمقراطية زاد من فرص بقاء النظام وخلق موجة جديدة من الترحال زادت من قوة مدها مقاربة الاتحاد من أجل الجمهورية في اختيار مرشحية للبلديات ثم القضاء قانونيا على ما كان يسمى بالترحال السياسي وعلى الترشح الحر، وموجة الترحال هذه تميزت أيضا هذه المرة بتنوع اتجاهات المرتحلين حيث ذهبوا أولا من أو إلى المعارضة (المحاورة والراديكالية) والأغلبية وتدافعوا ثانية داخل أحزاب كل من القطبين.

وفي المنظور القريب يخشى الكثيرون من موجة أخرى من الترحال عند اختيار مرشحي الانتخابات التشريعية ومن انشطار أحزاب كان أصحابها يراهنون على قوة تماسكها إذ يمكن لقرار مقاطعة انتخابات 23 نوفمبر المقبل أن ينعكس سلبا على المهتمين بوحدة صف منسقية المعارضة فيما قد تضر المشاركة بالبراغاماتيين وبمن وصفوا دائما بالمؤدلجين الذين لا يتزحزحون عن مبادئهم.

وأختم للسادة القراء قصة الترحال والرحيل في موريتانيا بالقول: رحل وترحل ابن بطوطة برا ونال لقبا وشهرة بين الناس وحذا حذوه بحار الخليج الأكبر ابن ماجد واشتهر مثله في مجاله وارتحل سياسي من المعارضة إلى الموالاة وعين وزيرا وارتحل سياسي آخر من الأغلبية إلى المعارضة ونعت بالمفسد وارتحل تكنوقراط ذهابا و جيئة بين الأغلبية والمعارضة وسمي انتهازيا وحاول نحوي تصريف فعل "رحل" في السياسة فرحل عن المستقلين و ارتحل بين الأغلبية والمعارضة في رحلة قادته في النهاية إلى أن "كل ما اشتق من الفعل يعمل عمله ولكن لا يؤدي ضرورة إلى النتيجة المنشودة من القيام بالفعل". فوفر عليك طاقتك يا عبد الله واعقلها وتوكل واعلم أن رزقك سيأتيك غير منقوص في وقته مثلما سيأتيك قطعا ملك الموت عليه السلام في الزمان والمكان المحددين أزليا.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!