ما إن تتجاوز ملتقى طرق مدريد وسط نواكشوط بأمتار قليلة جنوبا، حتى تتنازعك وجوه شاحبة، لفحها الهجير، تتسابق للفوز برضاك ثم بنقودك..كل يعرض أفضل ما عنده، هذا يقسم لك أن في غنمه غايتك وهي تطابق معايير "الواجب" الديني والاجتماعي.
يسترق آخر السمع لكلامه فيحرك حباله حركة خاطفة تلفت انتباهك إلى استعداده للتكفل بما تنوي شراءه، بدء بحمله في السيارة وحتى تقطيع آخر أوصاله.وأنه لن يأخذ منك إلا مبلغا زهيدا أو تمنحه ما تعارف عليه الأقدمون.
وما أن يدرك هؤلاء من حديثك أن فكرة الشراء مؤجلة لديك، وأنك صحفي جئت لرصد الواقع والتعرف عليه قبل عيد الفطر المبارك، حتى يجتمع عليك من في "المربط" يتسابقون لسرد هموم الشرطة والجمارك والرشوة والبلدية وارتفاع الأسعار وما إلى هنالك.
الأخبار " نزلت إلى مربط كارفور أياما قبل عيد الفطر، والتقت مختلف الفاعلين في هذا الصعيد المحاذي لأكبر ملتقى طرق العاصمة.

بهذه العبارة حاول المختار وهو شيخ في الستين من عمره أن يختصر ما أسهب فيه زملاؤه، وأخذنا إلى نعاجه الثلاث قائلا: منهن أريد أن أعيل أسرتي،ومنهن يريد الشرطي ووكيل البلدية والدركي والجمركي أن يفعل ذلك، وهن لسن سوى ثلاث نجاع.
ليتدخل الشيخ أحمد الذي قدم نفسه على أنه رئيس المربط" شارحا ما أجمله المختار: نحن هنا منذ أكثر من خمسة عشرعاما، نعرض غنمنا في هذه الساحة ، صحيح أننا لا نحوز ترخيصا رسميا، لكنا لسنا وحدنا في ذلك، ولا نتحمل المسؤولية عنه،فكلما تقدمنا إلى أحد المكاتب الحكومية، عاملونا بازدراء.. وكأن عملنا مشين، في كل يوم تقريبا، تأتي الشرطة بأمر من بلدية لكصر وفي الغالب من المجموعة الحضرية،وتطلب منا المغادرة وتفرق أغنامنا في الشوارع فيضيع منها جزء ويموت جزء اصطداما بالسيارات، ونؤخذ نحن إلى المخافر، فصرنا نحتال على ذلك بدفع رشاوى لهم، نعرف أنه خطأ أن تدفع رشوة للسلطة، ولكن لا خيار لنا، فأغلب من يعلمون هنا مستوياتهم التعليمية ضعيفة.

ويضيف الشيخ أحمد" طالبنا بترخيص مكان لنا ولو في "تنويش"( 15 كلم شرق وسط العاصمة) فالمربط الموجود في الميناء استحوذ عليه رجال أعمال كبار.
ووفق ما تواترت عليه تصريحات الباعة فإن أسعار الغنم تتراوح بين 15-22 ألف أوقية، لا يبدو السعر مبالغا فيه إذا قدرنا المناسبة، لكن محمد الذي يستجلب الأغنام من باسكنو في أقصى شرق موريتانيا يرى أنه يفترض أن يكون السعر أقل من ذلك، لولا الإتاوات التي تفرض على مستجلبي الغنم، فهم ملزمون بإدخال أيديهم في جيوبهم من باسكنو وحتى نواكشوط.
محمد بدا متحمسا وهو يفصل الأمر لنا: فالشاحنة تؤجر من النعمة بـ450.000 أربعمائة وخمسين ألف أوقية) وهي تحمل 170 رأسا من الغنم، يضاف إليها 40 -50 ألف نفقة القطيع من الحشائش، وضرائب الشرطة والدرك التي لا حصر لها..هذا ما يفسر ارتفاع الأسعار.

محمد سعيد بائع حشائش في "مربط كارفور" طلب منا أن نطلع الرأي العام على ما وصفه بمأساة الحشاشين، فهو مثلا يشتري هكتارا من حشائش الأرز ب50.000 أوقية من شمامه، يؤجر له سيارة ب 60-70 ألف أوقية، ويقول"أدفع للدرك لدى مغادرتي روصو 5000 أوقية، وفي تنكل أدفع 5000 للشرطة و 3000 أوقية للبلدية،أستلم وصلا من البلدية لكن الشرطة لا تسلمني وصلا عن المبلغ، وفي الكلميتر السابع عشر أدفع 2000 أوقية للجمارك، رغم أن بضاعتي محملة من موريتانيا، وغير بعيد من هنالك أدفع 5000 اوقية للدرك، وفي مدخل نواكشوط أدفع 6000 أوقية للشرطة ، كل ذلك دون أن أستلم وصلا واحدا، وحين أحتج يهينوني بألفاظ نابية، ويوقفون السيارة، فتزداد علي كلفة تأجيرها، وهذا حال أعيشه منذ خمسة أعوام ولم يتغير حتى اليوم.
وحين أصل هنا أكون مضطرا إلى إدماج تلك التكاليف في سعر رزمة الحشيش، وهذا يؤثر في أسعار الأغنام.

في زاوية قصية من المربط" تجلس ثلة من الشباب يستظلون بظل خفيف لسيارات معروضة للبيع في البرصة المجاورة، يترصدون السوق، يتسابقون إلى كل مشتر متنافسين في عرض الخدمات، فهذا يعدك أن "يحسن الذبحة" ويجزء الشاة كما ترغب وأن لا يتقاضى أكثر من ألف أوقية، أو ما تعارف عليه الأولون من جلد الذبيحة ورقبتها، وجزء من أحشائها، وما جادت به يمينك بعد ذلك فزيادة خير لا ترد
محمد يجاور مربط كارفور منذ عامين جاء من مدينة أمبود لا يخفي امتعاضه من تعامل السلطات مع شريحته، فتارة يدفعون مجهود يومين أو ثلاث للبلدية بسبب شكاوى جيرانهم من طبيعة عملهم، وهو يطالب بتشريع مسلخ لهم على مقربة من "المربط"وهم مستعدون حينها لدفع الضرائب التي ستفرضها البلدية عليهم.
كل هذه العوامل تشكل أطراف معادلة يتوجب فهمها لمعرفة طبيعة أسعار الأغنام في "مربط كارفور" الذي يصر أصحابه على مواصلة استغلاله، وتصر السلطات على منعهم، وبين الإصرارين ترتفع وتيرة الأسعار لتصل مستوى لا يناله إلا من بسط الله له في الرزق.

حرصا من وكالة أنباء الأخبار المستقلة على إعطاء الفرصة للطرف الثاني لإبداء رأيه حول الموضوع عطلت نشر التقرير أربعة أيام من أجل أخذ وجهة نظر المجموعة الحضرية، فقد أحلتنا سكرتيريا رئيس المجموعة إلى المدير الفني، وبعد تردد يومين على مكتبه، أعطى موافقته المبدئية على الحديث لنا عن الموضوع، لكنه اشترطها بموافقة مكتوبة أو شفوية من رئيس المجموعة الحضرية، ولدى عودتنا إلى رئيس المجموعة الحضرية أبلغونا أن لقاءه غير متاح وأن علينا التقدم بطلب مكتوب إلى مكتبه وسينظر فيه، وهو ما رأينا أنه يأخذ وقتا أكثر لا يتحمله التقرير، وعليه قررنا نشره في انتظار رد المجموعة الحضرية على ما قاله باعة الأغنام.