التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:11:07 غرينتش


تاريخ الإضافة : 11.12.2008 09:43:51

مصباح علاء الدين و"سكانير" الجنرال!

بقلم:محمد محفوظ ولد أحمد
تلاشت الفترة القصيرة التي شعرنا فيها بتغير إيجابي طرأ على وسائل إعلامنا الرسمية منذ 5 أغسطس 2005.. وعادت هذه الوسائل إلى سيرة اجترار الخبائث.
كانت فترة أشبه بالحلم القصير رأينا فيها الناس يشاهدون تلفزة موريتانيا وإذاعة موريتانيا ويتصفح بعضهم جريدة الشعب التي نسي كثيرون وجودها من أساسه.
الآن عاد كل شيء إلى مكانه "الطبيعي".. فقد أعيد فتح مطبخ "الدعمولوجيا" إياه وتناغمت هذه الوسائط الإعلامية مع نفس الأشخاص البائسين الذين ينظمون مبادرات تأييد هنا ومسيرات ومهرجانات دعم هناك. باختصار فتحت المزبلة على مصراعيها وتنادى إليها من كل حدب ناعقون يتسابقون في تقديم الدعم اللا مشروط، وعدِّ الإنجازات العظيمة والمشاريع العملاقة.. (لا معنى للغة!) التي حققها الرئيس الجديد في أقل من 100 يوم (اسك!)، ثم يتبارون في عد المثالب والمصائب التي لحقت بالبلد على يد النظام السابق (الذي كانوا قبل ذلك يتبارون في تعظيم إنجازاته الكبيرة ويشيدون بمحاسنه العجيبة)!.
ويبدو أن التحفظ الذي قيل إن مجلس الدولة الأعلى أبداه أول الأمر تجاه سرعة وسائل الإعلام الرسمية وجماعات المنافقين في تمجيده وتأليه رئيسه.. قد أخذ يتلاشى، ليحل محله ـ كالعادة ـ شعور بالنشوة والطرب يفضي "إدمانه" إلى تصديق الأمر وأخذه كحقائق مطلقة تحل محل الواقع، وتغني عن معالجة المشاكل وتحقيق الإنجازات الملموسة.
وهكذا فقد بدأت الإنجازات العملاقة للرئيس الجديد ـ حسبما يكرر الإعلام الرسمي ـ بزيارة "الكبات" ولقاء الفقراء والمستضعفين، مرورا بنقص أسعار المحروقات.. وانتهاء بشراء جهاز "سكانير" الذائع الصيت!
وهذه وغيرها القليل لا شك أنها خطوات إيجابية، بل وعظيمة في حد ذاتها.. لكنها كانت ستكون أكثر تواضعا وأكثر نفعا لو بذلت لوجه المصلحة ولم تلكها ألسن النفاق وتمنَّها وسائل الإعلام الرسمية على هذا النحو الخرافي المثير للغثيان. فهذه الإجراءات الجيدة مع موضوع "الفساد" حولها الناعقون ـ حقا أو كذبا ـ إلى دعاية استعراضية بتسويقها كفتح مبين و"إنجازات عملاقة" يبدأ وينتهي بها تاريخ البلد وربما العالم أجمع!!.
ومع ما في الأمر من مبالغة واستفزاز، لا بأس من إلقاء نظرة على هذه "الإنجازات" السريعة ومقارنتها بأشياء أخرى واقعية.
فالدكاكين التي افتتحت في رمضان ـ ولا ندري كم كلفت ولا كم أثرى منها من المسيرين والوسطاء ـ لم تكن بدعا.. بل هي سنة جرى عليها السلف العسكري.. وحتى المدني القريب. وهي على حسنها تكلف المستفيدين منها من الوقت والجهد ما يوازي فوائدها التي قد لا تتوفر إطلاقا (كثير من تلك المحلات كان فارغا).
أما زيارة الأحياء الشعبية فهي شيء جميل حقا ، غير أنه أيضا سهل جدا، حتى مع تلك الإجراءات الأمنية المرعبة.. ولكن مشكلة الكبات أكثر تعقيدا من زيارة وأوامر بتقسيم مساحات صغيرة من الرمال.. فهي ـ باختصارـ مشكلة فقر وتخلف لا يمكن حلها بهذه الطريقة العسكرية الخاطفة، بل تتطلب ـ كما هو الحال في معظم مدن العالم ـ تنمية اقتصادية شاملة ورعاية اجتماعية وتربوية طويلة وعادلة.
الكبات باقية ببقاء أسبابها!
أما هذه الطريقة الارتجالية فإنما تشعل النزاعات والحنق بين السكان الذين منح بعضهم قطعا في أماكنهم و"شرد" آخرون إلى بحور الكثبان البعيدة المعزولة التي لا يمكن لهم، ولا لأي مخلوق حي، العيش الطبيعي فيها.
أما من حالفهم الحظ (وكأنها لعبة قمار) فقد خططت لهم منازل قريبة، لكن معظمهم لا يستطيع ـ بحكم الفاقة والعجز عن التعميرـ مقاومة أي مبلغ يحصل عليه من بيعها للأغنياء، وحتى من يتمسك بمنزله فإنه سيبقى في نفس المسكن البائس والظرف الفوضوي تماما كما كان!.
وهكذا تكون النتيجة ـ وكما حدث في مرات أخرى أكثر جدية وأناة ـ خصومات ومشاكل اجتماعية جديدة، ومزيدا من العمى العمراني لعاصمة تتخبط في الفوضى وتتمدد أحياؤها بدون منطق ولا تخطيط ولا أبسط مقومات الحياة (الطرق، الماء، الكهرباء..الخ).. وتبقى "الكبات" قائمة على حالها، بل تتكاثر بانضمام "العائدين" إليها بعد بيع قطعهم المرغوبة والهروب من "منافيهم" المرهوبة!.
إن إدراك المسئولين لهذه الحقائق وتجاهلهم لها بهذه الإجراءات الشكلية، يعد في أحسن الأحوال نوعا من الانتهازية والبحث عن المكاسب السياسية والدعائية الظرفية على حساب المصلحة العامة. وأكبر دليل على ذلك هو تجاهل السلطة التام لمشاكل عمرانية وعقارية أكثر خطورة وأسهل حلا.. وهي الفوضى التي تعاني منها مدينة انواكشوط، حيث يتم "تشريع" احتلال الأقوياء للأراضي العمومية (الكزرات)، وتباع، بالعمولات والرشاوى، الساحات العامة وحتى الشوارع، أوتمنح مجانا لذوي الحظوة والنفوذ بشكل سافر جعل من هذه العاصمة مغارة بدائية وسجنا لا متنفس فيه.
فإذا كان النظام الحالي ، أو غيره، جادا في حل مشاكل ساكنة هذه المدينة كلهم والقضاء ـ فوق ذلك ـ على جزء خطير من الفساد والظلم، فعليه أن يصادر ويدمر كافة المباني والحوزات العقارية التي تشغل ساحات أو شوارع عمومية أو أراض غير مخططة ـ مهما كان نفوذ مغتصبيها ـ ويقدم كافة الوزراء والولاة والحكام الذين منحوها أو شرعوها للتحقيق الصار ثم للعدالة، باعتبارهم مفسدين وخونة أمانة.
أسعار دون أسعار!
أما تخفيض الأسعار فهو على كل حال إنجاز مهم أو على الأقل "بركة" عظيمة تحسب لصالح هذا النظام الجديد.. وإذا عرفنا أن حكامنا الجدد كأسلافهم وخلفائهم ـ بعد عمر طويل ـ لا يملكون الكثير من المواد والمنتجات، فإن تحكمهم في أسعارها مسألة فيها نظر. ولكن لحسن الحظ فقد شهدت أسعار بعض المواد الضرورية انخفاضا عالميا كبيرا مكنهم ـ مشكورين مأجورين ـ من تبني خفض أسعارها. غير أن مبالغة إعلامهم وحماقة أشياعهم تكلفهم ما لا يطيقون حيث تنسب إليهم كامل المقدرة على خفض أسعار السلع المستوردة في حين أن كثيرا منها يشهد ارتفاعا في مقابل انخفاض البعض اليسير، وهنا يحتار المواطن ويتساءل لما ذا لا يخفضون أسعار البضائع الأخرى أيضا.. بل لما ذا لا تخفض أثمان المواد المخفضة بنسبٍ أكبر وأكثر..؟؟
سكانير.. تلك المعجزة!
وتأتي مسألة اقتناء جهاز Scanner الطبي التي كادت تدخل المناهج التربوية ـ لو كانت هذه المناهج حية ـ على رأس "الإنجازات العملاقة".. وهي في أهميتها الواقعية والدعائية أيضا اتخذت طابعا سحريا، حتى أحرجت الرئيس ومجلسه العسكري.. ولذلك ابتدعت آلة الإعلام الرسمية أوصافا أكثر إبهاما وإبهارا في نفس الوقت؛ فأصبح التعبير عنها هو "تزويد مستشفياتنا بالوسائل التكنولوجية الحديثة المتطورة" بدلا من "شراء جهاز سكانير" التي هي الأصل (انظر إبداع إعلامنا العظيم)!
وفي الحقيقة فهذا الجهاز مهم وضروري جدا، لكن "عظمة" إنجاز شرائه يستمدها من واقع آخر هو لا مبالاة الأنظمة السابقة وإهمالها.. حيث كانت كلها قادرة على شراء جهاز "سكانير" جديد كل شهر من مصروفاتها الهامشية، غير أن اختيارها وقع على زر آخر من أزرار عواطف الجماهير الكثيرة.. فالبعض اختار "التطوع" والبعض اختار "الانترنت" و"الكتاب" والبعض اختار "علف الحيوان"، والآن "سكانير"... وهناك متسع من الاختيارات للقادمين!.. لكن الانتفاع بهذا الجهاز العظيم هو الذي سيتحدد ما إذا كان مرفقا صحيا نافعا للناس أم مجرد فقرة دعائية، ليكون مصيره مصير مئات الأجهزة والمعدات التي تتوقف أو تختفي.. بمجرد انقشاع الهالة الدعائية التي تبحث عن مصباح سحري جديد يبهر الجماهير ويشدها إلى الوجهة المطلوبة.
ساد الفساد!
وأخيرا نلقي نظرة على وقف الفساد. إنها حقا خطوة جريئة ومثيرة للحماس والإعجاب.. فنحن البلد الوحيد في العالم الذي يباح فيه المال العام، والوحيد الذي تعد فيه القوانين والنظم اختيارية، فمن شاء من السلطات طبق القانون على نفسه أو على غيره ومن شاء منهم خالفه بنفسه وأعفى منه عيره!!. فشعار قادتنا هو: "يسر الله ما حضر وعفا عما سلف"!.
لهذا كان عظيما ـ رغم معارضة البعض المفهومة ـ أن تفتح ملفات الفساد ويقدم البعض إلى العدالة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، ولكن لما ذا البعض فقط؟ وحتى لو كانت مجرد بداية لماذا لا تتجاوز ذلك البعض "المغضوب عليه" إلى بعض هذا البعض المرضي عنه والذي ولغ في نفس إناء الفساد والضلال؟؟.
حتى الآن نرى عدالة عرجاء مسلوبة الإدارة، تدور مع الآلة الإعلامية التي تعمه في سكرتها الدعائية المحمومة.
وفي الواقع فإن الفساد أوسع وأقرب من هذه التجزئة الانتقائية. بل هناك طبقة من الفساد أقل إثارة للجدل وأكثر ضررا على عامة المواطنين من طبقة الفساد "الراقية" التي لا تهم مباشرة سوى قادة الدولة والحكومة.
فساد دون فساد!
فهناك فساد مالي وإداري مستشر تقدر قيمته بمئات الملايين سنويا يدفعها المواطنون البسطاء بدون حق.
على سبيل المثال تحيط بالعاصمة انواكشوط ، والمدن الأخرى، من جميع مداخلها حواجز ونقاط أمنية من الشرطة والدرك. ولا يعلم أحد من العامة أن لها هدفا غير جمع الإتاوات والرشاوى. فكل سائق سيارة نقل عام يمر بهذه النقاط ينزل ليدفع مبلغا معلوما من المال، وإلا تعرض "للمشاكل" وفقد رزقه في النهاية. هذه المبالغ اليومية لا تدخل خزينة الدولة ولا يقدم عنها أي إيصال، بل إنها بلغت من التقرير والثبات أن لا تدفع يدا بيد، بل يلقيها صاحب المركبة في مكان محدد، داخل مبنى النقطة. وهذه الطريقة فضلا عن كونها "تطهر" أفراد الأمن من "أخذ" الرشوة! فإنها أيضا تضمن عدم استئثار بعضهم بالغنيمة دون بعض، فلو سلمت للمناوب على الطريق ـ كما يفعل بعض الغرباء ـ فيمكن أن "يغيب عليها" على حد مصطلح الفقهاء!.
هذه الأموال الضخمة التي يمتكسها رجال الأمن على كافة الطرقات العمومية كل يوم وليلة، يدفعها المواطنون الذين يستخدمون النقل العمومي، وهم الأغلبية الفقيرة ، من أرزاقهم برفع أجور النقل، ومن صحتهم حيث يضغطون في سيارات لا تتسع لهم، ثم يدفعون أرواحهم هلاكا في حوادث السير الناجمة عن مخالفة قوانين السير ونظم النقل وإهمال إجراءات السلامة..
مئات الحواجز "الأمنية" التي لا ترد سيارة ولا تسائل مخالفا ولا تؤمن راكبا.. إلا في حالة واحدة: إذا لم يدفع المعلوم!! وحتى مفوضيات الأمن العام داخل العاصمة والمدن الأخرى فإن وسائلها القليلة مسخرة لجمع الإتاوات بنفس الطريقة الوقحة المخزية!. فلا عجب بعد ذلك إذا رأينا فوضى في النقل وسائقين بلا رخص ومركبات تدمر الإنسان والبيئة بلا وثائق ولا حتى لوحات أرقام!!
هذا مجرد مثال للفساد العلني "الرسمي"..
ومثال آخر هو الضرائب التي توضع على الناس بموجب تشريعات وأوامر الدولة، ويعفى منها، كليا أو جزئيا، بعض المحتالين والنافذين.. ثم يضطر غيرهم ـ وهم الكثرـ إلى رشوة الجباة والمفتشين مقابل تخفيض المبالغ المسجلة للخزينة العامة أو الإعفاء منها كلية(بغض الطرف)، علما بأن واضعي هذه الضرائب يتعمدون رفعها ومضاعفتها على الفئات الفقيرة لدفعهم إلى هذا الأسلوب المتبع منذ أمد بعيد... والأمثلة كثيرة وقريبة.. والإصلاح ما زال شعارا يستهلكه المنافقون الناعقون حتى يصبح كغيره من الشعارات والكلمات الفارغة .. بل المنفرة!!.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!