التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:21:35 غرينتش


تاريخ الإضافة : 22.12.2007 19:18:58

إصلاح المجتمع المدني الموريتاني و محنة النموذج الثلاثي للتنمية

محمد السالك ولد ابراهيم

محمد السالك ولد ابراهيم


[email protected]

إصلاح المجتمع المدني الموريتاني و محنة النموذج الثلاثي للتنمية*


بقلم: محمد السالك ولد إبراهيم

باحث، المركز الموريتاني لأبحاث التنمية والمستقبل/انواكشوط


بمناسبة انعقاد أيام التشاور الوطني حول إصلاح المجتمع المدني الموريتاني في 25، 26 و 27 دجمبر/كانون الأول 2007، وعلى ضوء التطورات السياسية الجارية في موريتانيا و ما تمثله الإرادة السياسية للنظام الجديد من ميول ظاهرة نحو التغيير ـ انعكست حتى الآن بوضوح في مستوى التعهد العمومي للسلطات الجديدة المنتخبة التي ألزمت نفسها سياسيا وأخلاقيا بتحقيق نتائج تتناسب كما و كيفا مع أهداف و مضامين السياسة العامة التي اقترحتها من قبل على الموريتانيين ـ فإن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه اليوم على كل مراجعة نقدية للنموذج الثلاثي الجديد للتنمية الذي تشكله الدولة و المجتمع المدني و السوق ـ هو هل سيكون المجتمع المدني الناشئ ـ الذي هو أحد مرتكزات هذا النموذج في بلادنا ـ قادرا في المستقبل القريب على رفع التحديات الكبرى التي تواجهه ليصبح شريكا ايجابيا في إطار عملية شاملة للانتقال نحو الديمقراطية والتنمية المستدامة يتم التشاور حولها بين مختلف الفاعلين في الساحة الوطنية؟ أم على العكس من ذلك، سيظل قدر ذلك المجتمع المدني أن يبقى كيانا هامشيا و مهمشا، ضعيفا ـ بسبب أزمة هويته الذاتية و انعدام الرؤية الواضحة لدوره ـ و متشرذما بسبب الانقسامات الضيقة والصراعات الداخلية و معتمدا أكثر مما ينبغي على الحكومة و/ أو على الممولين؟ و بالتالي، يبقى عاجزا عن تحمل مسؤولياته بصورة مستقلة و فعالة تجاه المصالح الوطنية للمجتمع الموريتاني. ضمن السياق الجاري، يهدف هذا المقال التحليلي إلى الإسهام في حوار وطني صريح، هادئ و بناء يسعى لمناقشة و تقييم الجهود المبذولة حتى الآن، لإصلاح المجتمع المدني في بلادنا.


تاريخياً، كان ظهور المجتمع المدني في الغرب ردة فعل على انحلال الروابط التقليدية للتضامن الاجتماعي و بروز أشكال جديدة من الاندماج في سياق التحديث الرأسمالي للمجتمع و الدولة. أما في نهاية سبعينيات القرن العشرين فقد تطورت مطالب المجتمع المدني لتتزامن مع الضغوط الليبرالية المتزايدة للتحول من تخطيط الدولة إلى بدائل السوق الحرة، مبشرة بأن الحرية الاقتصادية و الحرية السياسية متلازمتان. و هكذا ظهر المجتمع المدني أولا من خلال منطق سياسي لا من خلال منطق السوق.


أما في بلدان العالم النامي و دول أفريقيا جنوب الصحراء خاصة، فإن تضافر عوامل عديدة مثل هشاشة بنية الدولة الوطنية و اعتمادها الشديد على المساعدات المالية و الفنية الخارجية و ضعف البرجوازيات المحلية في العديد من هذه الأقطار، بالإضافة إلى انتشار الفقر و تدني دخل الفرد، قد أدى إلى تعاظم دور و تأثير الجهات المانحة أو الممولين في عملية إنشاء و تعهد قطاع المجتمع المدني في مراحل متأخرة بعد الاستقلال. و هكذا ولد المجتمع المدني في أغلبية هذه الدول عبر عملية قيصرية لينتشر كالفطريات فيما بعد، فتصبح المنظمات غير الحكومية تعتمد بشكلٍ كبير ـ تماما مثل الحكومات المحلية ـ على التمويل الخارجي لبرامجها و أنشطتها المختلفة. و في أحيان كثيرة، تتنافس الدولة مع الممولين على تشكيل المجتمع المدني و التحكم فيه متذرعة بأن المجتمع المدني قد يشكل معول هدم ضد الدولة أو أداة خفية لتعزيز السياسات التدخلية لجهات التمويل. لقد أسهمت خلفية ميلاد مجتمع مدني مبني بشكل أساسي من الخارج و ليس من الداخل في استمرار الالتباس الذي يكتنف دقة هذا المفهوم من الناحية النظرية و كذا عدم وضوح الحدود الفاصلة بين مكونات النموذج الثلاثي للتنمية الذي يشكل المجتمع المدني أحد أضلاعه إلى جانب الدولة و السوق. لقد ظل المجتمع المدني يطرح في الأدبيات العامة باعتباره كيانا مستقلا عن الدولة (منظمات غير حكومية) من جهة، و عن السوق (منظمات لا تهدف للربح) من جهة أخرى. لكن الحقيقةً هي أنّ العلاقات بين هذه الأطراف جد متداخلة و مشوشة في أقطار كثيرة، خاصة في بلادنا. إنها محنة النموذج الثلاثي الجديد للتنمية أو معضلة إصلاح المجتمع المدني الموريتاني.


و فيما حاول الباحثون غالباً تجنب الضبابية في تعريفهم للمجتمع المدني و في معالجتهم لإشكالية علاقاته البينية مع بقية الأطراف الأخرى، فإنّ الممولين ـ الذين تصدوا مبكرا لحضانة و تعزيز ديناميكية المجتمع المدني ـ قد اهتموا أساسا ببلورة تصور لهذا المفهوم بدون تفكير معمق لا في حقيقة المكونات التي تشكل المجتمعَ المدني ذاته و لا في طبيعة العلاقات الإشكالية في ما بينها.



و منذ أواخر الثمانينيات، استحوذت الإمكانية الديمقراطية للمجتمع المدني على تصورات الممولين في ظل وضع دولي بدأ يتجه نحو أحادية قطبية طاغية، منتشية بإرهاصات انحسار المد الاشتراكي عبر العالم. و في المقابل، أُعير اهتمام أقل لتحليل طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني و السوق. و اتجه خطاب مدرسة الممولين إلى إضاءة التوترات القائمة بين المجتمع المدني و الدولة من جهة وبين السوق و الدولة من جهةٍ أخرى، بينما فُهِمَت ضمنياً العلاقة بين المجتمع المدني و السوق على أنها منسجمة بل و متكاملة إلى أن استيقظ العالم على وقع حركة "البروليتاريا الجديدة" المضادة للعولمة (Altermondialisme)، بعد أن استطاعت المنظمات الأهلية إفشال قمة التجارة العالمية في "سياتل" بالولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر سنة 1999. تلك المنظمات الأهلية التي أصبحت الآن تقود المفاوضات حول القضايا الدولية الكبرى (الكفاح من اجل السلام العالمي، مناهضة الحروب، الحفاظ على البيئة و مكافحة التلوث، معارضة الآثار السلبية للعولمة، الخ…) نيابة عن الحكومات أو بموازاة معها. و قد كان ذلك المشهد برمته طريقة جديدة في التعبير عن الاستياء العام من عواقب الرأسمالية الجامحة التي يؤيدها الليبراليون الجدد في الغرب وعن خيبة الأمل من قيادة الدولة المستبدة لعمليات التنمية في البلدان النامية. لقد كان ذلك جزء من تحول معياري حيال نموذج الدولة والمجتمع المدني و السوق داخل المجتمع الغربي و نخبه الفكرية التقدمية سواءً بالنسبة للاقتصاديين "الكينزيين" أو لتنويعات الاشتراكيين الآخرين.


و فيما تعتبر النقاشات المعاصرة الدولةَ هي الخطر الرئيسي على المجتمع المدني و المصدر الأساسي للقمع السياسي، فإنّ نقاد عصر التنوير كانوا قد حذروا مبكرا من الخطر الذي يشكله السوق على الحياة العامة للمجتمع. إن فكرة المجتمع المدني كفضاء سياسي غير مصنف، يعكس نقدياً الآراء الحرة حول الكيفية التي ينبغي أن ينظم بها المجتمع و الحكم و الإنتاج الاقتصادي و من ثم يقوم باختبار تلك الآراء، هي ذاتها تستند إلى فرضية أن مهمة المجتمع المدني هي قبل شيء أن يكون صمام أمان لكبح جموح الدولة و السوق كليهما تجاه الهيمنة على المصالح الحيوية للمجتمع. كما أن تطور المجتمع المدني قد مكنه من تكوين قاعدة احتجاج عريضة لمقاومة طغيان رأس المال العالمي و تحميل الشركات المتعددة الجنسيات مسؤولياتها تجاه العواقب البيئية و الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة لعملياتها و أنشطتها التجارية، كجزء من عملية الضغط المتنامي من أجل تحسين نظام الحكم الديمقراطي و تأكيد احترام كرامة الإنسان وحقوقه و الحرص على سلامة بيئته عبر العالم.


و لكن، بعد عقود من تعثر البرامج التي تستهدف إصلاح الدولة ذاتها في بلدان العالم النامي ـ بسبب تضارب المصالح الخارجية و نقص الرغبة الداخلية في التغيير ـ قادت هذه المشكلة الممولين في تلك البلدان "للدخول إلى خدر" المجتمع المدني الذي لم يخرجوا منه حتى الآن. لقد بدأ المجتمع المدني ـ منذ أواخر الثمانينيات ـ يصُوّر على أنه المكان "الجيد" الوحيد في مواجهة الدولة "السيئة" برمتها. و هو ما أدى إلى بروز المجتمع المدني داخل بلدان العالم النامي "كبؤرة" مقلقة أصبحت توظف بصورة مزدوجة لتشجيع الضغطً الخارجي على الدولة لتمرير أجندة الإصلاح كما أنها تستخدم داخليا لدواع سياسية حزبية أو لأغراض استخباراتية و أمنية تقف الدولة وراءها من خلال عمليات الاختراق العديدة لهذا القطاع الذي ظل يشكل الحلقة الأضعف في النموذج الثلاثي للتنمية.


و هكذا نجح مناهضو الدولة، الذين هيمنوا على نقاشات المجتمع المدني في الثمانينيات و بداية التسعينيات من القرن الماضي في تغذية و تلميع صورة أسطورية للمجتمع المدني ـ بالرغم من هلامية العديد من هيآته و ضحالة مستوياتها في أغلب الأحيان ـ باعتباره جبهة تعددية منسجمة و موحدة لأناس طيبين يناضلون من آجل الحريات و حقوق الإنسان المهدورة ضد ديكتاتورية الدولة و استبدادها، بغض النظر عن طبيعتها السياسية، سواءً أكانت اشتراكية أم توتاليتارية أم عسكرية.


لقد تبلور مفهوم مدرسة الممولين حول المجتمع المدني ـ الذي يستند أساسا على البعد السوسيولوجي ـ على أنه شكل مجتمعي منظم لفضاءٍ بيني وسيط، لا هو كالسوق فهو غير ربحي و لا هو كالدولة فهو غير تسلطي. و هنا يتخذ الفصل المفاهيمي للمجتمع المدني عن الدولة أهمية بالغة ليس لأنه يعبر بدقة، و لو نظريا، عن واقعٍ قانوني و مؤسسي، بل لأنه يجعل من الممكن حماية هذا الفضاء في وجه قمع الدولة.


في أوروبا، سيطرت البرجوازية أثناء القرن التاسع عشر إلى ذلك الفضاء و سعت ـ خدمة لمصالحها الخاصة ـ إلى حماية استقلالية المجتمع المدني في وجه استبداد دولة الإقطاع. و في أواخر القرن العشرين، أفرزت رأسمالية المجتمع المدني الغربي مجموعة قوى متعددة، تضم منظمات خدمية و منظمات مكرسة للنضال الفكري و حماية الحقوق المدنية والسياسية صدعت بتحدي و مناهضة اللامساواة العالمية التي كرستها ظاهرة العولمة. و هكذا أصبح فضاء المجتمع المدني يتمدد أكثر فأكثر ليشمل مجموعات جد مختلفة و ذات أهداف متباينة. و بينما تستخدم الرأسمالية العالمية و المحلية المسيطرة على السوق بعض منظمات المجتمع المدني لتحمي مصالحها ليس فقط في وجه الدولة لكن أيضاً في وجه الحركات العمالية و أنصار البيئة و مناهضي الرأسمالية المتوحشة، تسعى منظمات غير حكومية أخرى لتأمين الرعاية الاجتماعية و النهوض بالتنمية المحلية معتبرة بأن المجتمع المدني هو فضاء يؤمن بعض الخدمات و يلبي بعض حاجاتٍ الفقراء و الضعفاء و المهمشين و يساهم في تطوير الاستجابات للمشاكل الاجتماعية المطروحة على المجتمعات الحديثة. كما أن جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان و الاتحادات المهنية و تكتلات المنتجين والنقابات والجمعيات النسوية و جمعيات الرفق بالحيوان و أنصار البيئة و علماء الدين، تريد جميعها من المجتمع المدني أن يواجه جبروت الرأسمال العالمي و أن يقدمَ تصوراً لطرق و حلول بديلة لتنظيم الحياة الاجتماعية و الاقتصادية أكثر ملائمة و أكثر أنسنة (Humanisme) لهذا العالم المتجهم الذي نعيش فيه. لقد أصبح المجتمع المدني منبرا فعالا لمجابهة و تحدي رؤى مختلفة و مشاريع كونية متصارعة، لكنه يظل في الوقت ذاته موضوعا للتحدي و ساحة للصراع و المجابهة بين أطراف عديدة.


أما في بلانا، فإن المجتمع المدني الناشئ يمر الآن بمرحلة حساسة في تاريخ تطوره تجعله يقف على مفترق طرق حاسم. فبقدر ما تتيح له التحولات السياسية الجارية في البلد و كذا مقاربات الشراكة الجديدة في مجال نشر الديمقراطية و الحكم الرشيد وتفعيل التنمية التشاركية من فرص مؤاتية قد تسمح بإشراكه في اتخاذ القرارات لصياغة و تنفيذ التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلد، فإنها تطرح عليه ـ في الوقت ذاته ـ إكراهات إضافية و تطالبه بضرورة مباشرة إصلاح ذاته نحو إعادة تأسيس مجتمع مدني حقيقي كشرط مسبق لا غنى عنه لولوج مرحلة المشاركة الكاملة.


منذ سنة 1995 تبنت أغلبية مؤسسات التمويل الدولية بحماس شديد نظرية بلورتها مدرسة علماء الاجتماع بجامعة "هارفارد" تسمى "طرفي اللعبة" و هي ترى أنّ الاتفاقيات الدولية لن تنجح ما لم تولد منافع على الصعيد المحلي، انطلاقا من التمييز بين نوعين من رأس المال الاجتماعي: رأس المال الرابط و هو أن تتشارك مع من يشبهونك في الدين أو العمر أو العرق و رأس المال المجسّر وهو أن تقيم علاقاتٍ مع أناس يختلفون عنك. و تخلص هذه النظرية إلى أنّ انخفاض رأس المال الرابط سيؤدي إلى انخفاض رأس المال المجسّر بما يؤدي إلى ازدياد التوترات و الصراعات العرقية و الطبقية و الدينية، إلخ....


و في ظل هذه "العقيدة التنموية" الجديدة، اجتهد منظرو المجتمع المدني من الأمريكيين في حشد الدلائل المختلفة على صحة العلاقة المفترضة بين الديمقراطية و المجتمع المدني و كيف تصبح تلك العلاقة متعدية بين هذا الأخير و التنمية المستدامة. كما أنهم ساقوا العديد من الحجج المقنعة على مساهمة المنظمات و الفعاليات المدنية النشطة في سياسة نشر و توطين الديمقراطية في بلدان العالم النامي و ما سيؤدي إليه ذلك من تقدم و ازدهار لشعوب تلك البلدان. أما مفكرو التنمية الأوروبيون ـ و هم أصحاب خلفية تاريخٍية وثقافية مختلفة ـ فلهم تصور آخر حول الأدوار المنوطة بالدولة و بهيئات المجتمع المدني و علاقاتهما بالسوق. و هو تصور يأخذ بعين الاعتبار الدور السياسي التاريخي "للمانيفاكتورات" التجارية و الكنائس و الهيئات الخيرية في النضال من أجل الديمقراطية و إصلاح الدولة في أنحاء مختلفة من العالم. و اليوم، يرى الممولون الأوروبيون في منظمات المجتمع المدني و ما تقوم به من عمل سياسي لإصلاح الدولة من الداخل، إمكانية إعادة إنتاج الدور ذاته من جديد.


و لأول مرة في تاريخ التعاون الدولي المتعدد الأطراف، نجح اتفاق "كوتونو" للشراكة( Cotonou Accord de partenariat de) ، الموقع سنة 2000 بين دول مجموعة الـ 77 (دول إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ) ، من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، في إرساء مبدأ الشراكة ـ من الناحية القانونية ـ كحق ثابت بين الدولة من جهة و "الأطراف الفاعلة غير الدولتية" (acteurs non étatiques)، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني من جهة أخرى.


و هكذا، نزل ذلك الاعتراف القانوني بحق مشاركة المجتمع المدني في المجال العمومي كجلمود صخر حط من عل في بركة آسنة مليئة بالتوجس و التردد و الاستسلام للضغوط الداخلية والخارجية التي طالما طبعت المواقف الرسمية في البلدان النامية تجاه فكرة إعادة الاعتبار للمجتمع المدني، أحرى إشراكه في صياغة و تنفيذ و مراقبة السياسات العمومية. أما بعد اتفاق كوتونو، فقد شكل التزام الدول الموقعة عليه ـ بإشراك فعلي للمجتمع المدني داخل كل بلد، في عملية صنع القرار في السياسات الوطنية و الحوار السياسي والحكم الرشيد و كذا كل القضايا المتصلة بالتنمية المستدامة ـ تطورا نوعيا و مكسبا قانونيا ثمينا لا رجعة فيه.


أما بالنسبة لموقف بلادنا من هذا الموضوع، فإن الدولة الموريتانية ـ التي سبق أن صادقت من قبل على اتفاق كوتونو بموجب القانون رقم 2001-02 بتاريخ25 يناير/كانون الثاني 2001 وبموجب المرسوم رقم 037-2001 بتاريخ 03 فبراير/ شباط 2001 ـ قامت من أجل الوفاء بتعهداتها بإدراج مكونة لدعم إصلاح المجتمع المدني وتعزيز قدراته تم تضمينها في البرنامج الإرشادي الوطني (PIN) 2001-2007 لموريتانيا في إطار التعاون مع اللجنة الأوروبية، بهدف توطيد الديمقراطية وسيادة القانون ومساعدة المجتمع المدني ليصبح شريكا حقيقيا في الحياة الوطنية والتنمية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للبلد.


و بما أن اتفاق كوتونو يمثل ابتكارا جديدا، فهو يكتسي أهمية خاصة في مجال رصد استراتيجيات السياسات الإنمائية و تأثيراتها على التحولات الاجتماعية و السياسية في حقل الشراكة متعددة الأطراف، بالإضافة إلى كونه يمثل اجتهادا قانونيا و مؤسسيا ربما يكون مفيدا في تسريع عملية تكوين ونضج المجتمع المدني في هذا البلد و تمكينه من الاضطلاع بلعب دوره المطلوب عبر آليات و صيغ إجرائية عملية و شفافة لعله يكون في أمس الحاجة إليها في الوقت الراهن.


و مع تفعيل فكرة المجتمع المدني ضمن هذا السياق، يواجه أطراف النموذج الثلاثي للتنمية: الدولة و المجتمع المدني و السوق، بالإضافة إلى الجهات الممولة ـ كل على طريقته ـ جملة من الإشكاليات و التناقضات و المصاعب تدعو بشدة لإعادة التفكير في طبيعة العلاقات البينية وكذا الأهداف و الإستراتيجيات و صيغ و إجراءات العمل الملائمة. فإلى أي حد يمكن للتوجه السياسي القوى لهذا الاتفاق أن يسهم ـ في ما يخص بلادنا ـ في تحقيق أهداف التنمية المستدامة بعد مرور سبع سنوات على تاريخ توقيعه؟ و هل نجح الاتفاق فعليا في توسيع فضاء الشراكة من أجل التنمية في بلادنا بتشجيع الحوار والتعاون بين الدولة و الأطراف غير "الدولتية" كالمجتمع المدني و السوق بوصفهم باحثين عن نفس الأهداف التنموية؟ و ما هي المعوقات التي تقف في طريق تنفيذه على أرض الواقع؟


و إذا كان اتفاق كوتونو يتخذ مقولة الحد من الفقر كهدف رئيسي، فإلى أي مدى تتيح أبعاده المختلفة ـ بما في ذلك موضوع الشراكات الاقتصادية و التجارية خاصة ـ فرصا جدية لتعزيز مكافحة الفقر وتحقيق الالتزامات الدولية الأخرى كالأهداف التنموية للألفية على وجه الخصوص؟


ثم إلى أي مدى يمكن للإرادة السياسية للحكومة الجديدة في موريتانيا أن تواكب هذا النهج العالمي الساعي لإعادة الاعتبار للمجتمع المدني كشريك في صياغة وتنفيذ السياسات الوطنية بشأن القضايا الإنمائية الرئيسية: توطيد الاستقرار، محاربة الفقر، تحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد، تعزيز حقوق الإنسان، وهلم جرا... ؟


و بما أن وضعية "مفترق الطرق" تنطبق في بلادنا، بصورة ثنائية، على المجتمع المدني تماما كما تنطبق على موقف السلطات التنفيذية والتشريعية الجديدة، فلن يعفي ذلك أحدا من واجب التساؤل عن ما هي و أين هي "الحلقات المفقودة" لشراكة بين الدولة والمجتمع المدني تكون أكثر توازنا وفعالية في موريتانيا. و إذا ما تأكدت الإرادة السياسية للحكومة الحالية (إنشاء وزارة مكلفة بالعلاقات مع المجتمع المدني و تفعيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي المنتظر)، فكيف يمكن أن تترجم تلك الإرادة في عمل منهجي منظم و شفاف يسعى إلى إضفاء الطابع المؤسسي على شراكة بناءة و متوازنة بين الدولة و المجتمع المدني في موريتانيا؟ ويعمل على تجاوز السلبية المتبادلة و لعبة الاستخدام المزدوج السياسي و الإستخباراتي من طرف الدولة للمجتمع المدني كحلقة أضعف؟


لذلك، يجب التنويه إلى أن أي خطوة جدية في هذا الاتجاه لا بد أن تراعي الاعتبارات التالية: (ا) إعادة رسم و تحديد الأدوار بين الدولة والمجتمع المدني، (ب) بناء الثقة على أسس واضحة تقوم على مبادئ العقلانية والقانون، (ج) منح المجتمع المدني مساحة من الحرية والاستقلالية الحقيقية كمجال حيوي واضح المعالم للحركة، (د) وضع آليات مؤسسية متماسكة للحوار والتعاون على مستويات مختلفة بين الدولة والمجتمع المدني، (هـ) التسليم بمبدأ دور المواطن في المتابعة و المساءلة (principe de suivi citoyen) كحق ثابت من حقوق المواطنة و تنظيم و تقنين الصيغ الإجرائية لممارسة هذا الحق تجاه النشاط العمومي للدولة.


أما بالنسبة لموقف الجهات المانحة أو شركاء التنمية أو الممولين من موضوع إصلاح المجتمع المدني، فإن الأمر يتطلب جهدا نوعيا خاصا من طرفهم من أجل إعادة تقييم صحة و صلاحية (pertinence) التزامهم واستراتيجياتهم في التدخل، و طرق التحالف والتعاون المتبعة مع مختلف شرائح المجتمع المدني. إن عملية النقد والتقييم الذاتي من منظور الآخر هذه ينبغي أن تتم بصورة تشاركية و أن تستهدف تحقيق جملة من الأمور الضرورية : (ا) تجاوز المقاربات و المناهج الاختزالية التقليدية لمقولة "المساعدة الإنمائية" (l’aide au développement)، (ب) تسهيل ظهور و مواكبة و توطيد مجتمع مدني منظم و منفتح يتمتع بالمصداقية و قادر على الاضطلاع بكامل الأدوار الجديدة المنوطة به في عملية التحول الديمقراطي و تحقيق التنمية المستدامة، (ج) المساعدة في بناء نماذج لشراكة خلاقه، مبتكرة وفاعلة بين الدولة والمجتمع المدني مع احترام الأدوار والخصوصيات و المصالح المشروعة لكل من الأطراف المعنية.


إن تدخل الممولين في موضوع المجتمع المدني ـ بالرغم من حتميته و فضلا عن بعض أوجهه الإيجابية ـ خلق و يخلق سياسات خاصة بهم داخل ميدان بالغ الحيوية. وقد أصبح قطاع المجتمع المدني في بلادنا، بالرغم من هشاشته البنيوية، يعيش معركة شرسة بين تضارب القوانين و القيم و الرؤى و المصالح و الأولويات و "الأجندات" المختلفة حول كيفية تنظيم الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و دور كل من الفرد و الجماعة و الدولة فيها و ماهية و طبيعة العلاقات فيما بين هذه الأطراف و محيطاتها و تفاعلاتها مع الآخر.


هنالك مقارباتٍ عديدة و متباينة للديمقراطية وعلاقتها بالمجتمع المدني. المقاربة الأمريكية ترى أن مهمة المجتمع المدني هي توطيد الاستقرار و بناء أو تقوية المؤسسات الديمقراطية التي تحمي قواعد القانون و شرعية المعارضة السلمية و حقها في التعبير بوسائل مقبولة. إنها مقاربة ترى بأن الاستقرار السياسي مهمٌ كالحرية السياسية و لكن الحماية من الدولة و تجاوزات الحكومة أهم. إنها مقاربة تحافظ على الحرية السلبية، فتدافع عن الفرد ضد الجماعة و تربط فيما بين مطالب و مصالح من الممكن الدفاع و التفاوض عليها، و هي تعتقد بأنها تحافظ ـ من هذا المنظور ـ على جوهر الثقافة المدنية.


أما المقاربة الأوروبية حول المجتمع المدني فهي تستند إلى تقليد ثقافي عريق ذي مضمون راديكالي يتميز عن المفهوم الأمريكي للديمقراطية و المجتمع المدني. إنها مقاربة تستند إلى ثلاثة مبادئ هي البحث عن "الخير الجماعي" و السعي وراء تحرر و انعتاق الإنسان و القدرة على توليد النقاش النقدي. إنها رؤية تجعل من المجتمع المدني ميدانا رحبا لنقاش و تحدي الأفكار السائدة عن التقدم و التطور عبر المشاركة الفعالة في مجالات سياسية غير رسمية لتقرير أي أشكال التقدم و التنمية يجب الأخذ به عندما يتجدد النقاش حول الطريقة التي تتفاعل بها الدولة و المجتمع و حول دور الدولة، و من هو الذي يحدد هذا الدور و كيف؟


و ضمن هذه المقاربة الأوروبية، يعالج المنظرون للمجتمع المدني حاليا الطريقة التي يصطدم فيها عدم المساواة الاجتماعية و السياسية مع الممارسة الكاملة للمواطنة، حيث تتمكن التعددية غالباً من المحافظة على مصالح معينةٍ على حساب المصلحة العامة أو المشتركة عندما تخفي مصدر القوة الحقيقي و تخلق أوهاماً حول المشاركة السياسية و دور الدولة. لقد دأبت الأدبيات الفكرية الماركسية الكلاسيكية على التقليل دائما من أهمية المجتمع المدني باعتباره ساحة "طبقية" تسيطر عليها المصالح الاقتصادية القوية و مجموعات الضغط المتنفذة. لكن في نهاية المطاف، تجاوز اليسار عموما سلبيته تجاه فكرة المجتمع المدني في نهاية القرن العشرين و تم الاعتراف بأهمية نشاط الجماعات المستقلة بوصفه يشكل بحق مساهمة نوعية في ديناميكية التغيير السياسي و الاجتماعي. لقد تكرس المجتمع المدني بصفته مصدراً ثريا لإعادة إنتاج فضاءٍ سياسيٍ حيوي يناقش المصلحة العامة بدون قمع للتعددية و الاختلاف، مشكلا بذلك آلية للتفكير البنّاء حول الدولة و التنمية و ملهما أساسيا في نقد نمط التنمية الرأسمالية المتوحشة وفظائع الآثار السلبية للعولمة الجامحة.


لكن متعهدي الديمقراطية الأمريكية الذين بذلوا جهوداً مضنية لفهم المجتمع المدني في شروطه المعقدة ضمن المجتمعات التقليدية في أفريقيا و آسيا و الشرق الأوسط، قد تجاهلوا بشكلٍ أساسي المكونات المختلفة للأنسجة المجتمعية المكونة له في لتلك البلدان. تلك المكونات التي تتشكل أساسا من قبائل و طوائف و جمعياتٍ قروية و جماعاتٍ فلاحية و مهنية و منظمات دينية محلية و جمعيات أثنية، إلخ ... ، يصعب فهمها ضمن المقاربة الأمريكية لأنها ـ ببساطة ـ لا تنخرط مباشرةً في النشاط المؤيد لنشر الديمقراطية، بينما تهيمن على الصعيد الوطني حفنة من المنظمات غير الحكومية ـ المتشكلة على النمط الغربي ـ منتدبة نفسها للدفاع عن المصالح العامة في تلك البلدان.


إن إدراك وجود مثل هذه الفوارق داخل قطاع المجتمع المدني ذاته، إضافة إلى تعدد الحواجز أمام كل داخل جديد إليه، يجعل من المجتمع المدني مجالا مغلقا تماماً مثل الدولة و مثل السوق (الاقتصاد). و في ظل انعدام عدالة ميزان القوى الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، يتعذر ضمان المساواة في تكوين الجمعيات و المنظمات غير الحكومية و المشاركة في المجتمع المدني و النشاط السياسي. كيف يمكن للفقراء و المهمشين أن يجدوا أصواتا لهم في المجتمع المدني؟ و كيف يمكن تمويل الجمعيات و أنشطتها و حملاتها عندما تكون المصادر المالية المحلية شحيحة و غير شفافة؟ فالمصادر العمومية تسيطر عليها الدولة و المصادر الخصوصية تسيطر عليها رأسمالية الشركات و الجماعات الاجتماعية المتنفذة؟ عندها، لا يبقى أمام منظمات المجتمع المدني من خيار سوى التدافع أمام شبابيك هيآت التمويل الأجنبية لمنافسة الحكومة في الحصول على بعض المصادر الزهيدة التي تعمق الشرخ داخل جسم المجتمع المدني و تزيد من انقساماته الداخلية و تغذي الشعور بالإحباط بين مكوناته و هوامشه.


و فيما حظيت استقلالية المجتمع المدني عن الدولة باهتمامٍ واسعٍ في أدبيات التنمية، فإنّ استقلاليته عن السوق من الناحيتين النظرية و التطبيقية كانت مفترضةً أكثر من كونها مبرهناً عليها، رغم استمرار النقاش فيما إذا كان من الأفضل إدخال السوق ضمن المجتمع المدني أو إخراجها منه. أو بمعنى آخر هل تشكل الشركات جزءً من المجتمع المدني أم لا؟ إن إشكالية الاتصال أو الانفصال بين المجتمع المدني و السوق تستحق التأمل فيها جديا. ففيما يؤمن السوق قاعدته المالية من خلال ربحية التراكم الرأسمالي و تؤمن الدولة دخلها من الضرائب و من ريع ممتلكاتها، فإن المجتمع المدني ليس له مصدر ثروة واضح. فهو إن عُرّف على أنه غير حكومي يجب أن يكون مستقلاً مادياً عن الدولة و إن قيل بأنه غير ربحي فيجب أن لا يراكم رأسمال.


إن الواقع التجريبي يكشف بوضوح اعتماد المجتمع المدني ماليا ليس فقط على اشتراكات المنتسبين و رسوم الخدمات التي يؤديها و إنما على الدولة و بدرجةٍ أقل على الأعمال الخيرية. و بما أن القطاع غير الربحي هو فضاءٌ لنشاط اقتصادي يولد دخله من جهة، و هو من جهةٍ أخرى قاعدةٌ مادية مرتبطة بالدولة و بالسوق، فإنه عمليا يشوش مفهوم وضوح الحدود في النموذج الثلاثي للمجتمع المدني و السوق و الدولة. نظريا المجتمع المدني هو شيءٌ و عمليا هو شيءٌ آخر. المجتمع المدني كيان مستقلٌ لكونه يحمل منطقه الخاص، لكنه أيضاً مشتقٌ و تابع لغيره. إن حدة هذه الظاهرة تبرز بشكل خاص في سياق الدول الفقيرة ـ مثل بلادنا ـ التي تعتمد غالبا على المساعدات الخارجية، حيث توفر تمويلات الجهات المانحة دخلاً رئيسيا للناشطين في منظمات المجتمع المدني تماما كما تشكل مصدرا سخيا للمشاريع و الهيآت الحكومية.


و لكن تحليل إشكالية المجتمع المدني كفضاء مفاهيمي منفصل نظريا عن السوق لا بد أن يصل إلى ملاحظة أن معيار غير الربحية ـ الذي يميز طبيعة عمل هذا القطاع ـ هو نفسه ما يهبط به إلى قاع الأنشطة الاقتصادية. و هكذا فإنّ القطاع الربحي الذي هو السوقٌ و القطاع غير الربحي الذي هو المجتمع المدني، ليسا سوى وجهين لعملةٍ واحدة هي الاقتصاد. إنّ القطاع غير الربحي يعمل كفضاء لنشاطاتٍ اقتصادية مختلفة تولد نتائج مفيدة بأشكال متعددة مثل إنشاء و تسيير البني التحتية كالمدارس و الجامعات و المشافي، أو توفير خدمات فكرية مثل انجاز الاستشارات و الخبرات الضرورية لمواكبة و تأطير المجتمعات المحلية في إطار تنفيذ المشاريع و الأنشطة الصغيرة، إلخ...، و العملية برمتها تؤمن دخلاً و وظائف و تؤسس تجربة و تراكم خبرة و تخلق قيمة مضافة للناتج القومي الإجمالي لكل بلد كما تفيد المجتمع برمته. و تشير آخر دراسةٍ مقارنة نشرت حول القطاع غير الربحي في 22 بلداً أنه يمثل قوة اقتصادية كبيرة، حيث يوظف هذا القطاع 19 مليون عاملٍ بدوامٍ كامل، بما يعادل قرابة 70% من الوظائف المدفوعة في غرب أوروبا و 22% في أمريكا اللاتينية.


إن اعتماد المجتمع المدني في البلاد النامية على المساعدة و على الخارج تؤدي إلى تشويه جداول أعمال المنظمات غير الحكومية المحلية، التي أصبحت تتنافس على التمويلات و تصوغ برامجها و نشاطاتها حسب أولويات الممولين. إنّ وصول الممولين مع تصوراتٍ مسبقة في حقائبهم عن ما يجب أن يفعله المجتمع المدني و عن ما يجب أن يكون عليه، في بلدان لا تزال منظماتها الأهلية في وضعية بالغة الهشاشة، سينتهي بإضعاف قدرة هذه المنظمات المحلية على تطوير رؤيتها الذاتية للمجتمع في بلدانها، و بالتالي، إضعاف مساهمتها في تصور كيفية إنجاز تغيير سياسي و اجتماعي و كذا في إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل المطروحة على بلدانها.


و في مواجهة مثل هذه التحديات، تسعى الدولة ـ في ظل التحولات الجارية ـ و كذالك الممولون إلى معالجة الموقف عبر التركيز على إعادة تأهيل و تقوية مؤسسات المجتمع المدني. و ضمن هذا السياق، يتنزل اتفاق كوتونو للشراكة الذي صادقت عليه الحكومة الموريتانية منذ سنة 2001. و تأخذ خيارت دعم المجتمع المدني عدة أشكال تتضمن إنشاء برامج نوعية لتقوية المجتمع المدني تتعلق غالباً بموضوعات الديمقراطية و الحكم الرشيد و برامج تعزيز القدرات المؤسساتية و التنظيمية و الوظيفية لمنظمات المجتمع المدني، و كذا إطلاق شراكة بين منظمات المجتمع المدني و الحكومة و مؤسسات الأعمال بالإضافة إلى دعم الاستدامة المالية للمجتمع المدني عبر دعم مهنية منظماته المحلية. هذه المحاولات لتفعيل المجتمع المدني هي محاولات إبداعية تعد بفتح طرقٍ جديدة لإعادة التوازن ولإشراك مختلف الأصوات المهمشة من خلال تذليل التناقضات في العلاقة ما بين الدولة و المجتمع المدني و تشجيع أشكال تعاونية أكثر منها عدائية بين الطرفين تعزز خدمة المصلحة العامة.


لكن المشاكل تكمن في التفاصيل و تبدأ بالظهور حالما يبدأ تنفيذ برامج الدعم هذه خاصة عندما ندرك بأن الطرق التي يتم بها استهداف المجتمع المدني و التعامل معه لها خلفياتها ليس فقط بالنسبة للممولين على اختلاف مشاربهم و لكن أيضاً بالنسبة لمنظمات و هيآت المجتمع المدني نفسها. و تختلف الجهات المانحة في غرضها من استخدام مصطلح المجتمع المدني و في مستوى تحمسها له، بينما توجد بين موظفي تلك الهيآت المانحة تمايزاتٍ متفاوتة في درجة تقبل المجتمع المدني و في توقع ما يمكن تحقيقه و ما هي الطرق الأكثر فعالية و ملائمة للعمل معه.


إن غياب المعايير الموضوعية أو اعتماد معايير بعينها يساهم جزئياً في فرز منظمات و هيئات مختارة من المجتمع المدني للعمل معها دون غيرها. و معايير الاختيار هذه غالبا ما تتم وفقا لعواملَ مركبةٍ مثل التركيز على أولويات خاصة ببرامج الجهات المانحة سواء كانت وطنية أو أجنبية و طبيعة القيم التي تشكل خلفياتها بالإضافة إلى تصوراتها عن المنظمات المحلية من حيث القدرة و الفاعلية والتأثير. و هكذا فإنّ معايير الممولين في انتقاء المنظمات المحلية ربما تكون واضحة لكنها ليست دائما شفافة. بل إن منهم من ليست لديه أية معايير ثابتة للاختيار بين المنظمات المحلية و هو يعتمد أساسا على عوامل شخصية و منفعية قبل كل شيء.


و في جو يفتقر إلى الثقة و الشفافية، يكون من الطبيعي أن تظهر لدى القائمين على مؤسسات التمويل الأجنبية و الوطنية في المرافق التنفيذية للحكومة كالإدارات العمومية و منسقيات مشاريع التنمية، المعنية بالتعامل مع المجتمع المدني، سياسات خاصة في التعامل و الشراكة تؤثر على موضوعية الاختيار. إنها سياسات و مواقف قد تشجع على التعاون والاندماج أو على النقيض من ذلك، قد تؤدي إلى الإقصاء و التهميش حسب الحالات و الظروف. و لا يخفى ما لهذه المواقف من تأثير حاسم على نجاح و توازن سياسات الشراكة و تدفق المعاملات، من شأنه أن يعزّز قواعد و رؤى و مصالح خاصة و يدير عناصر الصراع في العلاقات داخل المجتمع المدني، من جهة وبين المجتمع المدني و الدولة و السوق من جهة ثانية. إن المجتمع المدني لا يمكن أن يستمر في وضعية كوكب بارد و مظلم، له جغرافية جسم مترهل بمركز نابض و أطراف مشلولة. كما أنه لن يظل إلى الأبد أسيرا لإحدى حالتين من الضياع : إما إعارة نفسه لمؤسسات خارجية كطابور خامس أو الذهاب في إجازة مفتوحة إلى "الخيام"، و من غير المجدي له كذلك أن يبحث لنفسه عن تطور ذاتي حقيقي من خلال سيناريوهات تتم صياغتها ـ بعيدا عن أرض الواقع ـ بين أربعة جدران في واشنطن أو لندن أو باريس. إن كل منظمة مدنية، مهما كانت، يفترض أن تكون مبنية على علاقات اجتماعية و ثقافية لها تاريخيتها الخاصة و هي قابلة للتفعيل و التطور و النضج و العطاء ضمن شروط معينة ليست مستحيلة على كل حال. و المجتمع المدني ـ بهذا المعنى ـ لا بد أن يعمل على تكوين شخصيته الخاصة التي لها هوية و تاريخ و ثقافة و يجب أن يتطور بتناغم مع شخصيته تلك.


إن سيطرة الجهات المانحة في حقل تمويل التنمية ـ من خلال ما تتوفر عليه من مصادر مالية و بشرية و معرفية غير متكافئة ـ على التفاعلات مع أجهزة الدولة المختلفة و كذا ضعف القدرات التفاوضية للحكومات في ظل غياب أو تغييب رأي المستفيدين أو المستهدفين ـ الذين هم المواطنون ـ خلف واجهة تدعي المقاربة التشاركية بينما هي تكرس بيروقراطية تسلطية جشعة، تنعكس سلبيا على موقف المجتمع المدني. إنّ منظمات المجتمع المدني التي يفترض أنّها تتميز بسمة الاستقلال تنتهي بالتضحية بهذه الاستقلالية بدرجاتٍ متفاوتة باعتمادها على تمويل المانحين، و هو ما يؤدي إلى احتدام التنافس فيما بينها بغية الحصول على تمويلات على حساب سعيها للبحث عن تحالفات و استراتيجيات مشتركة و تطويرها من أجل ترشيد المصادر المتاحة و استكشاف البدائل الممكنة.


نحن نعتقد أنّ على الجهات المانحة سواء كانت ثنائية أم متعددة الأطراف أن تكون شفافة في فهمها لما يشكله المجتمع المدني الموريتاني و في أطروحاتها حول العلاقات بين المجتمع المدني و مقولة نشر الديمقراطية و التنمية المستدامة. يجب على الممولين الاعتراف بالمجتمع المدني كما هو لا كما يجب أن يكون. إن مثل هذه المراجعة النقدية الذاتية ضرورية لتجاوز كل الأفكار المسبقة و إدراك الرؤى الموضوعية للمجتمع المدني و وضع التحليلات السياسية و الاجتماعية في سياقها الصحيح و هذا ما سينير حتما تدخلاتهم و يضفي عليها مصداقية أكثر. إن هذه النظرة الجديدة تستلزم هدم التصورات الصنمية عن المنظمات غير الحكومية كرافعةٍ أولى للمجتمع المدني و توسعة مفهومه ليشمل كافة أشكال التعبير المدني عن التضامن الجماعي من أجل أهداف مشتركة قد تخدم المصلحة العامة، بما في ذلك هيئات المنتخبين و الإعلام و الصحافة المحترفة و النقابات و التجمعات المهنية وغيرها. طبعا، تبقى المنظمات غير الحكومية مكوّناً طبيعياً لأي مجتمع مدني حين تغيب يجب إنشاؤها، خصوصاً في المجتمعات التي تعيش مرحلة انتقالية من التحولات الكبرى المجتمعية و السياسية و الاقتصادية مثل بلادنا. لكن تطور تلك المنظمات لا بد أن يتخذ مضموناً ديمقراطياً من الداخل يؤهلها لاكتساب شرعية حقيقية ضمن السياق المحلى تمكنها من تشكيل رافعةً فعالة للتغيير السياسي و الاجتماعي في البلاد، جنبا إلى جنب، مع غيرها من مؤسسات المجتمع المدني الأخرى.


في مناسبة وطنية حوارية كهذه، تجد النخب الموريتانية نفسها في أمس الحاجة للتفكير بصوت عالٍ حول إشكالية المجتمع المدني في بلادنا ليس باعتباره ذلك "الجنتلمان" أو الفتى الطيب في النموذج الثلاثي للتنمية، حيث انبثقت تلك الصورة أصلا من جدول أعمالٍ معادٍ لصميم فكرة الدولة، يحمله بعض أنصار التحديث ممن يديرون الصراع في الجانب الأكثر عتمة من المجتمع المدني في بلادنا. كما يتوجب أن يتجه النقاش نحو إضاءة مواضيع جوهرية مثل المجتمع المدني و قضايا الفقر و عدم المساواة في الصحة و التعليم و الشغل و تخلف الريف و تهيئة المجال الحضري و الأمن و السلم الاجتماعي، إلخ.... نحن بحاجة لتوسيع المناقشة ليس فقط ضمن محور المجتمع المدني مقابل الدولة فحسب، بل لنستكشف نقدياً و عن قرب طبيعة الروابط بين المجتمع المدني وقضايا النمو الرأسمالي اللامتكافئ في بلادنا و دور المجتمع المدني في تخفيض الفقر بشكل يتجاوز سطحية و غوغائية الملتقيات و الشعارات و اللافتات و صور التلفزيون في نشرة أنباء الثامنة مساء.


و لا شك أن بلوغ مثل هذه الأهداف يتطلب إعادة النظر في دور الدولة في مجال التنمية وإعادة صياغة العلاقة فيما بين الدولة والمجتمع المدني في موريتانيا. و هنا بإمكان المجتمع المدني أن يوفر منهاجاً جديداً للتفكير في دولة التنمية. و ضمن هذا السياق الايجابي، لا يمكن إلا أن نتساءل كيف يمكن لجمهور واع و فعال يشارك في هذه الجلسات التفكيرية حول إصلاح المجتمع المدني أو يتابع أعمالها عن كثب إلا أن يدافع عن المواطنين في وجه الدولة و يشارك في التفكير و الجدال حول الصالح العام للمجتمع؟ لا بل، كيف يمكن للدولة الديمقراطية نفسها أن لا تلعب دوراً ايجابيا في هذه العملية؟


لا شك بأن تضافر الظروف الملائمة و الآليات المناسبة لإصلاح المجتمع المدني ينبغي أن يمر حتما بحصول نوع من التقارب و التفاهم العقلاني بين الأسر الثلاث التي تشكل الأطراف المعنية بملف الإصلاح و هي الحكومة والمجتمع المدني والشركاء في التنمية. و هي ظروف ما زالت ـ للأسف ـ تتسم بالضبابية و التوجس و التردد على الرغم من الجهود المبذولة حتى الآن.


و لعل هذا الانطباع يبدو جليا عندما نتساءل عن ماهية المعوقات التي تواجه حاليا تنفيذ الجيل الأول من برامج الحكومة لدعم إصلاح المجتمع المدني المعروف اختصارا بـ PASOC. و هو المشروع الذي يسعى إلى تحقيق هدف مزدوج يتمثل في تمكين المجتمع المدني من خلال دعم مهنيته و استقلاليته من جهة و تعزيز قدراته بالتعلم و التكوين الجماعي المتبادل للتعرف على الأشكال الجديدة للتسيير التشاركي للأنشطة التنموية المستدامة.


في هذا الصدد، ينبغي الإشارة إلى أن صلاحية و استدامة تمكين المجتمع المدني الموريتاني و تعزيز استقلاليته كشرط أساسي لبناء شراكة جديدة مع الدولة، تتطلب معالجة جذرية لخمس إشكاليات رئيسية هي : (ا) تحديد واضح لهوية المجتمع المدني في مقابل الآخر، (ب) إعادة انتشار المجتمع المدني في مجاله الحيوي، (ج) التحرر من النزعة الأبوية أو "الأبوسية" للإدارة العمومية المهيمنة تقليديا على المجال المدني، (د) توفير الحد الأدنى من الاستقلال المالي (هـ) اعتماد ميثاق شرف مدني و احترامه كمدونة أخلاقية لضبط السلوك المدني يجب التقيد بها من طرف الجميع.


إن مناقشة موضوع إصلاح المجتمع المدني ينبغي أن تطرح إشكالية جوهرية تتعلق بضرورة انخراط كل الأطراف المشاركة ـ سواء تعلق الأمر بالمنظمات غير الحكومية أو بالصحافة أو بالمنتخبين المحليين و الوطنيين أو بأطر الإدارة العمومية وغيرهم من المسؤولين و شركاء التنمية ـ في مسار التعلم المتبادل والمتواصل باعتباره مسألة لا مفر منها لبناء و تعزيز قدرات كل الأطراف المعنية بالشراكة كشرط مسبق لإجراء أي إصلاح أو إعادة صياغة العلاقة فيما بين الدولة والمجتمع المدني في موريتانيا.


وفي هذا الصدد، لا يزال من الضروري التعرف على أحسن التجارب و أفضل الممارسات في جميع أنحاء العالم قصد استلهام الدروس المفيدة و إجراء مقارنة مسار عملية إصلاح المجتمع المدني في موريتانيا بنظرائه في البلدان النامية التي سلكت قبلنا نفس الطريق باحثة عن "إعادة هندسة" العلاقات و الروابط و الأدوار والمسؤوليات بين الدولة والمجتمع المدني و السوق على المستويات الهيكلية و التنظيمية و الوظيفية بغية ضمان التماسك و الانسجام و الفاعلية الضرورية لتحقيق الديمقراطية و التنمية المستدامة.


وأخيرا، من المؤمل أن يتطرق النقاش إلى ضرورة النظر في كيفية إعادة تأهيل المؤسسات الجمهورية القادرة على لعب دور محوري في المقاربة المؤسسية لإصلاح المجتمع المدني في موريتانيا، سواء تعلق الأمر هنا بالمؤسسات الموجودة حاليا مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي و الوزارة المكلفة بالعلاقات مع المجتمع المدني و مشروع دعم المجتمع المدني PASOC و صندوق دعم مهنية منظمات المجتمع المدني FAPONG، أو أي مؤسسات أخرى يمكن إنشاؤها في المستقبل، لكي تشكل "مختبرات" فعالة وأمينة، تمكن من إجراء التجارب على المقاربات و الأفكار و المناهج المقترحة التي من شأنها أن تسهل و تعقلن و ترشد عملية التحول نحو تحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد والتنمية المستدامة في موريتانيا على أساس التعددية و المشاركة و الشفافية. ومن هنا، تأتي أهمية إعادة النظر الدائم و المتعدد الزوايا لنقد و تصحيح الإطار المفاهيمي لإصلاح المجتمع المدني و بلورة الرؤى و المناهج و الآليات المقترحة للعمل و التدخل، بغية التعرف على المعوقات التي تواجه مسار ذلك التحول الكبير و سبل مواجهتها. و سيكون من الجوهري ـ أولا و قبل كل شيء ـ أن يظل الفضاء الثقافي و الاجتماعي للمجتمع المدني مستقلا، حرا و مسؤولا، لكي يستطيع عامة الناس و خاصتهم في هذه البلاد أن يناقشوا بانفتاح و بروح نقدية الصالح العام و أن يجربوا الوسائل البديلة لتنظيم الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية بدون خوف و لا طمع.



Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!