التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:10:46 غرينتش


تاريخ الإضافة : 08.01.2009 08:05:12

الحرب على غزة.. قراءة في النتائج

عمر السالك بن الشيخ سيدي محمد

منذ يوم "السبت" الأخير من العام الميلادي المنصرم (2008).. والعدوان الإسرائلي مستمر على قطاع غزة المرابط. القصف الجوي الذي بدأه اليهود "يوم سبتهم".. وعزّزوه بهجوم بري بدأ منذ يوم "السبت" الأول في العام الميلادي الجديد (2009).. قصفٌ أسفر عن مصاب جَلَل، وخسائر بشرية ومادية جسيمة مرشحة للزيادة في كل لحظة.. لكن النظر إلى "الحرب على غزة" من زاوية استراتيجية ـ ولو على المدى المتوسط ـ يؤدي إلى استنتاج أن إسرائيل خسرت الحرب بكل المقاييس وأن المقاومة ربحت شوطا آخر في سجال الصراع، وأن "قوى الاعتدال" العربية أصبحت في حرج، وأن النصر تحقق جزئيا وسيكتمل محالة.

الخسارة الإسرائيلية

الحرب الإسرائيلية خاسرة بكل المقاييس حتى وإن حققت أهدافها، وهيهات!
خاسرة لأن إسرائيل طالما تغنت بجيش عرمرم وآلة حربية متطورة، وأسلحة ذكية تُستخدم فيها تكنولوجيا حديثا.. والنتيجة: بحر من الدماء رآه العالم بأسره، يغرق فيه جيش وصف نفسه بأنه الأطهر في العالم، وعناصره يؤدون الصلاة أمام عدسات الكاميرا قبل أن يتوجهوا إلى ساحات القتال.. لكن نيرانهم تصيب الأطفال والنساء والمساجد والمدارس.. أكثر مما تصيب المقاومة الباسلة.. علما بأن الجيش الإسرائيلي لم يسمح لوسائل الإعلام بأن ترافقه في عملياته، خوفا من تكرار ما حدث في حرب لبنان الأخيرة في تموز يوليو 2006م.
الخسارة الإسرائلية حتمية، لأنها لم تحقق أهدافها، ولن تحققها.. فحماس لا تزال قادرة على إطلاق الصواريخ على الأراضي المحتلة، كما أنها لم تخضع للتفاوض على أساس الشروط الإسرائيلية، بل إنها هي من اشترط وقف القتال أولا.. قبل الذهاب إلى القاهرة، وبالتالي فالأهداف المعلنة لم تتحقق، وربما لن تتحقق.
الحرب الإسرائيلية خاسرة لأنها كذلك جريمة ضد الإنسانية، وليست حربا على مقاتلين، والصور الأليمة التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية خير دليل على ذلك.

مكاسب المقاومة

ومع أن الهدف من الحرب كان إسكات صوت المقاومة الفلسطينية عموما والإسلامية على وجه الخصوص، وتركيع "حماس" بقوة الجيش؛ بعد أن لم يُرغمها الحصار الجائر على الرضوخ لمطالب إسرائيل والمطبعين معها، والدخول في ما يسمى "عملية السلام".. إلا أن الحرب أتت بنتائج عكسية لأهدافها، فحماس لم ترضخ، بل إن دول "الاعتدال" العربي هي التي أصبحت تراود حماس لإرسال وفد للتفاوض، في مطلع الأسبوع الثاني للعدوان الإسرائيلي على بيوت الله ومدارس الأونروا، بعد أن ارتوت الآلة العسكرية من دماء الأطفال والنساء خلال الأسبوع الأول من الحرب!
تهافت "قوى الاعتدال" العربي على دعوة حماس للحوار، مكسب يريح حماس ويسهل عليها اتخاذ خطوات تكتيكية معززة بمكاسب استراتيجية أكثر أهمية، تمثلت في وقوف الشارع العربي والأجنبي إلى جانب مقاومة إسلامية كان البعض ـ حتى وقت قريب ـ يشكك في ولائها الوطني وانتمائها الأممي وقدرة فكرها الإسلامي على التطبيق في الألفية الثالثة. الحرب الإسرائيلية على غزة، جعلت أصحاب الفكر اليساري واليميني يخرجون إلى الشارع لنصرة أصحاب الفكر الإسلامي.

"قوى الاعتدال" العربية.. أصبحت في حرج

ولم يعد خافيا أن أنظمة عربية رسمية عديدة، غضت الطرف عن الحرب على غزة، لأنها أرادت أن تخلصها إسرائيل من حماس؛ كبحا لجماح المد الإسلامي المتنامي في المنطقة.. لكن هذه الأنظمة بدأت تحس أن الخطوة لم تكن محسوبة بالقدر الكافي، وأن إسرائيل بدأت تخيب أملها، مثلما عجزت في حرب تموز عام 2006م. عن تركيع المقاومة اللبنانية، في وقت باركت فيه حينئذ دول عربية لأول مرة (بشكل علني على الأقل) هجوما إسرائيليا على بلد عربي مسلم. قد لا تكون خيبة الأمل في لبنان كخيبة الأمل في غزة، من الناحية العسكرية.. لكنها لا تقل عنها عمقا من حيث النتائج التي ترتبت في الشارع العربي والأجنبي بعد الهجوم.
دول "الاعتدال" العربية، كافأت العدوان الإسرائيلي على لبنان بالذهاب إلى أنابوليس،
مثلما كافأت العدوان على العراق باستقبال الرئيس الأميركي المعتدي جورج بوش، واحتفلت به جهارا نهارا بعد يوم من مشاركته في الاحتفال مع اليهود بعيد نكبة الشعب الفلسطيني.
بالنسبة لدول "الاعتدال" العربي، لم تعد إسرائيل عدوا، بل باتت حليفا محتملا لدى البعض.. لكن الحلف مع إسرائيل ضد أي شيء من أجل الحفاظ على الكرسي، أصبح مفضوحا بشكل أحرج الحكام العرب، وأحرج الدول المبشرة بالديمقراطية، مع أن مشروع الديمقراطية في المنطقة أُجهض منذ أن فازت حماس في اتنخابات فلسطينية شهد العالم بنزاهتها.. فليست لدى الغرب حاجة في ديمقراطية عربية ستوصل حملة الفكر الإسلامي إلى الحكم. وبالتالي لم يعد الغرب يفكر في الديمقراطية إلا داخل حدوده الجغرافية.
لكن قبول الغرب بدكتاتويات تحكم العالم العربي والإسلامي، مقابل أن يكون كل دكتاتور بيدقا في يد الغرب.. حمل بعض الساسة العرب على تخطي الخطوط الحمراء في تنفيذ رغبات الغرب وإسرائيل على حساب رغبات الشعوب.. فاستفحل الأمر حتى بات كل شيء مكشوفا، وباتت غزة تقصف بمباركة عربية أعلن عنها الرئيس الإسرائيلي عبر وسائل الإعلام دفاعا عن نفسه وبلده، وسعيا إلى خداع الشارع العربي بأن ما تقوم به إسرائيل في غزة هو دفاع عن العرب، دون أن يتذكر أن الدفاع عن الحكام العرب ليس دفاعا عن العرب.. فهنالك فرق كبير بين حكام إسرائيل الذي يعملون لمصلحة شعبهم المؤلف من أطياف عرقية جاءت من الشرق والغرب، وبين حكام العرب الذي لا يأبهون بإرادات شعوبهم الذين ورثوا الأرض عن آبائهم وأجدادهم مثلما ورث الحكام الكراسي.
الحرب على غزة وضعت النقاط على الحروف وأدخلت دول الاعتدال العربية في مزالق يبدو أنها لم تكن في الحسبان.. وأصبح الحديث يدور حول تمرد وشيك للجيوش العربية على الدكتاتوريات المشاركة في العدوان على غزة، ولو بالصمت.

ليس هناك مجتمع دولي

أما على الصعيد الدولي فقد زهد العالم في مصلحات "الشرعية الدولية" و"عملية السلام" و"مجلس الأمن الدولي" وأصبحت مراكز البحث تعيد ـ بجدية ـ مراجعة هذه المطلحات، مع أن إصلاح الأمم المتحدة مطلب قديم جديد، لأنها لم تعد تلبي توازن القوى الذي تغير كثيرا عما كان عليه ما بين الحربين العالميتين وما أعقبهما من صياغة للنظام العالمي في نهاية النصف الثاني من القرن الماضي.. وباتت دول آسيوية وأميركية-لاتيتينية تدعو بإلحاح إلى تغيير هيكل الأمم المتحدة ومجلس الأمن.. وزادت الحرب في غزة من تعرية المؤسسات الدولية، لأن هيمنة الولايات المتحدة على قرارات الأمم المتحدة لم تعد تحوجها إلى الكذب والخداع مثلما حدث في الحرب على العراق وتلفيق صور تؤكد حصول نظام صدام حسين على أسلحة دمار شامل، وهي صور اضطر كولن باول للاعتذار عنها بعد أعوام من الاستماتة في شرحها في أروقة مجلس الأمن، كما اضطر رئيسه بوش خلال أيامه الأخيرة في البيت الأبيض إلى الاعتذار عنها والتأكيد على أنها كانت صورا استخبارتية غير دقيقة.
حرب غزة بالفيتو الأميركي الجاهز ضد إيقافها، جعلت شعوب العالم تفقد آخر حبال الثقة في المجتمع الدولي.. وبات الجميع يعلم أن: لا مجمع دولي، ولا سلام عادل، ولا عملية سلام في الشرق الأوسط.. وهذا كله يصب في مصلحة غزة، وأهالي غزة.
وباختصار، فمهما كان الحزن عميقا على أرواح مئات الشهداء وآلاف الجرحى وملايين المشردين في غزة.. فإن النتائج التي تحققت حتى الآن ـ وهي نتائج غير نهائية والوقت في صالح المقاومة ـ تؤكد أن الرابح هو المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، والربح هنا لا يقتصر على البعد الاستراتيجي، بل هو متمثل في الخطوات التكتيكية التي اتبعتها المقاومة وأثبتت من خلالها تواجدها على الأرض، وأن الجيش الإسرائيلي الجبان الذي لم يكد ينتصر على كوكبة من المقاتلين في مخيم جينين.. هو جيش عاجز عن احتلال غزة الأبية، وما مخيم جينين إلا شارع واحد من شوارع غزة التي لا يعرف أزقتها سوى أبطال المقاومة. فالنصر تحقق بشكل جزئي في الميدان وفي الجبهات الدبلوماسية.. وسيكتمل لا محالة، وصبرا أهل غزة.

كاتب وإعلامي موريتاني مقيم في موسكو


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!