التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:10:57 غرينتش


تاريخ الإضافة : 22.01.2009 18:40:31

موريتانيا و حلم الاستقرار السياسي المنشود

بقلم: إبراهيم ولد محمد اتليميدي ـ باحث في مجال علم السياسة

بقلم: إبراهيم ولد محمد اتليميدي ـ باحث في مجال علم السياسة

بقلم: إبراهيم ولد محمد اتليميدي
لئن كان ثمة ما هو محل إجماع وتوافق في الساحة السياسية الوطنية اليوم فهو أن البلد يعاني من فوضى عارمة ومنقطعة النظير في المجال السياسي تكشف عن حجم أزمة سياسية قد استحكمت حلقاتها، ستكون لها حتما ارتداداتها الخطيرة على المجالات الاجتماعية والاقتصادية للبلد.

لم تعرف بلادنا ما يسمى بالاستقرار السياسي منذ نشأتها وإلى اليوم، وإذا استثنينا فترة حكم كل من المختار ولد داداه 1960ـ 1978 ومعاوية ولد سيد أحمد الطايع1984 ـ 2005 فإن بقية الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم البلاد قد تم إجهاضها قبل أن تصل مرحلة الفطام أحرى الفترة المناسبة لتطبيق أي برنامج سياسي جاد، وحتى فترتي كل من المختار ومعاوية نفسيهما لم تشهد أي منهما استقرارا سياسيا مضطردا بل كانتا في جلهما مشحونتين بالحروب الطاحنة (حرب الصحراء- الأزمة مع السنغال) فضلا عن الأزمات السياسية الداخلية المستحكمة.

وقد كانت آخر حلقة من مسلسل الفوضى غير الخلاقة التي يغوص في أوحالها مشهدنا السياسي الوطني ما حدث صباح السادس من أغسطس، والذي يكشف بجلاء عن حجم قوة ونفوذ نخبة سياسية ذات سحنة قبلية وجهوية و اقتصادية واعدة كاد الرئيس السابق بدستورانيته الماكرة أن يعصف بمشروعها الكبير الذي دشنته غداة تغلبها ( بالمفهوم الخلدوني للتغلب) على النخبة القبلية والاقتصادية التي حكمت البلاد طوال العشرينية الأخيرة.

وحسب رأيي فإن الأمر يمكن إرجاعه إلى توافر جملة من المؤشرات الموضوعية الكفيلة بخلق و تجذير حالة عدم الاستقرار التي تطبع مشهدنا السياسي لعل أخطرها العجز عن خلق إجماع تام حول القواعد التي تحكم المنافسة السياسية وتلك التي تحسم الخلاف السياسي ( احترام رأي الأغلبية، قدسية إفرازات صناديق الاقتراع) فضلا عن القواعد الأخلاقية للجدل السياسي، ثم جسارة الحكام وحتى الفاعلين السياسيين الآخرين الغريبة والمستهجنة على خرق القواعد القانونية التي تحكم العلاقة بين السلطات العامة وبخاصة تقاسم الاختصاصات والصلاحيات فيما بينها، و هي مؤشرات تكمن خطورتها في أنها قد تؤدي إلى نسف أسس شرعية المنظومة السياسية بأسرها وتضعف من قدرتها على تبين التحديات المتربصة بها.

ويبقى التساؤل الأكثر إلحاحا هنا هو عن الأسباب التي يعزى إليها وجود هذه المؤشرات داخل حقلنا السياسي؟
لقد ظلت مختلف الدراسات المعرفية و إلى عهد قريب تذهب إلى أن هناك تلازما بالضرورة بين الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وبين فقدان خاصية الاستقرار السياسي وذلك منذ أن أقام أرسطو علاقة تلازم بين الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي، وحتى في أيامنا الحاضرة من المستحيل أن لا نلاحظ أن البلدان الأكثر نموا اقتصاديا هي تلك التي تتمتع بالديمقراطيات التعددية الأكثر توطدا، وفي هذا الإطار يؤكد صمويل هنتنغتون في بعض أعماله العلمية بأن "هذا المستوى العالي من النمو يشجع على قيام مؤسسات أكثر تطورا لإجراءات الحوار ويسهل أفضل الشروط لممارسة الحريات السياسية"، ويبقى من المهم هنا أن نشير إلى البون الشاسع بين الآثار التي يتركها النمو الاقتصادي أو الحداثة الاقتصادية التي نتحدث عنها هنا وبين عمليات التحديث القسرية التي غالبا ما تترك آثارا وتبعات عكسية على الاقتصاد الذي يخضع لها وهو المعنى الذي تشير إليه العبارة الشهيرة التي صارت عنوانا كبيرا في أدبيات الإصلاح السياسي"الحداثة تولد الاستقرار لكن التحديث يولد عدم الاستقرار".

على أن مختلف هذه التفسيرات ذات السبب الواحد تبقى قاصرة و عاجزة عن الوفاء بالغرض، ومكمن هذا العجز هو استحالة فهم الأوضاع المتشابكة التي ينتجها تداخل العوامل الغائبة في النموذج العام للتحليل نظرا للتلازم الوثيق بين الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأن الدراسات الأكثر علمية هي دائما تلك التي تدمج مختلف العوامل في نماذج من النمط المتعدد الأسباب الذي يهدف إلى كشف الاختلالات البنيوية الإجمالية في المجتمع.

وفي هذا الإطار -وكمثال على هذا النمط من التحليل- فإن هناك العديد من الأطروحات و المقاربات لعل أشهرها تلك التي قدمها كارل دوتش و التي خلص فيها إلى أن الدول تعاني من عدم الاستقرار السياسي عندما يتكامل فيها العنصران التاليان:
- ارتفاع مستوى التعبئة السياسية
- الحفاظ على تمايز اجتماعي قوي

فالعنصر الأول يشير إلى تشديد المتطلبات السياسية والطلب المتزايد على شكل أو آخر من أشكال المشاركة السياسية أو بمعنى آخر تقهقر الخمول واللامبالاة السياسية، أما الثاني فيصف حالة المجتمعات التي يبقى فيها اندماج مختلف السكان في بوتقة متجانسة وموحدة ضعيفا للغاية بسبب تجذر الاختلافات القابلة للبقاء على مستوى اللغة والهوية الثقافية والانتماء العرقي والتطلعات والأهداف والولاءات السياسية وما ينتج عن ذلك من نشوء أحزاب وتنظيمات سياسية على أساس عرقي وثقافي وقيام شبكات أتباع تقوم على أساس ولاءات عائلية قوية.

وتمثل أطروحة صمويل هنتنغتون في هذا المجال_ والتي بسطها في أحد كتبه القديمة(النظام السياسي والتغيرات الاجتماعية و المنشور في سنة 1968) _محاولة جادة لتعميق مثل هذا الطرح، وينطلق هنتنغتون من أن زيادة منسوب التعبئة الاجتماعية يساهم في توليد وتعزيز المتطلبات بشكل أسرع من الإشباع الذي يوفره توسع الإنتاج، إن الهوة _ يقول هنتنغتون_ تثير الكبت النسبي الذي يقود إلى عدم استقرار المنظومة السياسية، إذا لم يوجد هناك من جهة أولى أي منظور لحركية اقتصادية واجتماعية صاعدة ومن جهة أخرى مؤسسات تمثيلية مرنة ومفتوحة لاستقبال المزيد من المشاركة السياسية التي يثيرها الكبت.
عجيب أمر هذه البلاد كلما حسب المتتبع لشأنها أنها خرجت من أوحالها السياسية أو أنها على الأقل سلكت طريق نور أبصرته في نهاية نفقها السياسي الحالك، إذا بها تعود القهقرى أشواطا طويلة، والأكثر إثارة للعجب ليس فشلها في مجال الديمقراطية فحسب، بل حتى في مجال الديكتاتورية التي هي أفضل ألف مرة من الفوضى السياسية التي تترنح تحت أعبائها الثقيلة، فكما قال الشاعر الأكثر حكمة من كل نخبنا السياسية:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولاسراة إذا جهالهم سادوا
إذا تولى سراة الناس أمرهم نما على ذاك أمر القوم فازدادوا


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!