التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:10:50 غرينتش


تاريخ الإضافة : 05.02.2009 14:22:55

غزة: الصمود الأسطوري يقلب أوراق الصراع

محمد المصطفى ولد أوفى/ كاتب صحفي

محمد المصطفى ولد أوفى/ كاتب صحفي

أتيحت لي على مدى أكثر من عقد من الزمن، من خلال عملي كمنتج للأخبار التلفزيونية، فرصة متابعة الصراع العربي- الإسرائيلي عن كثب بدء بالحرب في جنوب لبنان ثم الانتفاضة الثانية التي انطلقت في 2000 واجتياح جنين في الضفة الغربية ومجزرة حي الدرج في قطاع غزة سنة 2002 وحرب تموز 2006 على لبنان ومجزرة العثامنة في غزة في 2007. وفي كل مناسبة من هذه المناسبات، كان الصمود حاضرا لكنني أستطيع أن أقول إن الصمود هذه المرة كان أشبه بالمعجزة.
عندما أتحدث عن الصمود فإنني لا أعني الفصائل الفلسطينية المنظمة التي تملك أسلحة مهما كانت بدائية ومقاتلين مستعدين للشهادة. وإنما أعني المواطنين العاديين الذين لم يكونوا يملكون سوى صدورهم العارية وأجسامهم ودمائهم الطاهرة لاستقبال قذائف الموت الإسرائيلية التي لم تسلم منها حتى مقرات الأمم المتحدة.
وتشهد الصور على فداحة الجريمة التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني في غزة. لكن الصور التي يسمح منتجو الأخبار ببثها عبر محطات التلفزة لا تعبر، بحال من الأحوال ـ رغم بشاعتها ـ عن جحم الكارثة والمعاناة. فهناك الكثير من الصور والقصص المؤلمة التي وصلت غرف الأخبار عبر الوكالات المصورة. إلا أن أغلب القنوات لم تسمح ببثها. وقد مكنت هذه الصور العاملين في الحقل التلفزيوني من الوقوف أكثر من غيرهم على مظاهر الصمود الفلسطيني. أذكر أنني على سبيل المثال، لا الحصر، تحاشيت أكثر من مرة بث العديد من الصور: كانتشال الجثث المتحللة من تحت أنقاض المنازل المدمرة، وصور الأطباء يجرون العمليات الجراحية للمصابين دون تخدير، ومن بينهم أطفال يصرخون من الألم، ومشاهد أخرى يندى لها الجبين ولا يقوى أحد على متابعتها مهما بلغ من القساوة والحياد.
فقد وقف سكان غزة العزل ـ إلا من إرادتهم ـ بشجاعة في وجه واحد من أكثر جيوش العالم تجهيزا وبطشا. وقاوموا على مدى ثلاثة وعشرين يوما الجيش الذي عجزت الجيوش العربية مجتمعة أن تصمد في وجهه لمدة أيام فاستحقوا عن جدارة تعاطف واحترام أصحاب الضمائر الحية ونجحوا في إعادة تسليط الضوء على القضية الفلسطينية التي كادت تطمر تحت أكوام القرارات الدولية التي لا تعني – حتى الآن على الأقل– شيئا بالنسبة للدولة العبرية. فعلى مدى أيام الحرب وبعدها لم نسمع فلسطينيا يستسلم أو يرفع راية بيضاء. بل كانت كل التصريحات، حتى تلك الصادرة عن الثكالى والأرامل والأيتام والأطفال والشيوخ، تنضح بشتى عبارات الصمود والتحدي. وشاهدنا الأطفال وهم يروون، على الهواء مباشرة، كيف قتل الجنود الإسرائيليون آباءهم وأمهاتهم أمام أعينهم فلا يبكون بينما يعجز المراسل الذي يجري اللقاء عن التماسك من هول ما سمع.

مظاهر الصمود:

منذ اليوم الأول من الحرب، تعمد الاحتلال تطبيق سياسة القصف العشوائي لتخويف كل سكان غزة وخلق الظروف المناسبة لمأساة ثالثة تنضاف إلى نكبة 1948 ونكسة 1967. لكن سكان غزة رفضوا الاستجابة لهذا المخطط وواجهوه بصمود أسطوري يمكننا تلمس أبرز مظاهره فيما يلي:

1- التمسك بالأرض:
بدلا من التهجير إلى مصر، اغتنم مئات الفلسطينيين، العالقين على الحدود المصرية فرصة فتح معبر رفح، لنقل المساعدات، فعادوا إلى غزة مدشنين بذلك عهدا جديدا عنوانه: الهجرة العكسية أي التوجه إلى مكان الخطر بدلا من الهروب منه. فالصور التي تنقل لنا من كل مناطق الصراع في العالم تزخر باللاجئين والنازحين وهم يفرون من مناطق النزاع حفاظا على حياتهم وحياة أطفالهم وبحثا عن أماكن آمنة. وشاهدنا في بيت لاهيا وعزبة عبد ربه وحي الزيتون وتل الهوى وغيرها من الأحياء، أسرا كاملة تتكون من عشرات الأفراد، وهي تتكدس تحت ركام منازلها المدمرة، وترفض مغادرتها تحت أي ظرف. أما الذين اضطروا للتوجه إلى مدارس وكالة تشغيل وغوث اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا) فقد تركوها فور الإعلان عن وقف إطلاق النار ليعودوا إلى منازلهم المدمرة ويبدأوا رحلة إعمارها دون تأخير ودون استجداء المساعدة من أي كان.
باختصار، لجأ سكان غزة إلى إشعال ثيابهم وأثاث منازلهم وأبواب ونوافذ بيوتهم للتعويض عن انقطاع الكهرباء وغاز الطهي والتدفئة في طقس شديد البرودة. لكنهم صمدوا في وجه القصف الجوي والبري والبحري لتنتصر إرادة البقاء والحياة على إرادة التدمير والقتل.

2- التكافل الاجتماعي:
سبق الحربَ على القطاع حصارٌ دام سنة ونصف السنة. فقد أغلقت إسرائيل معابرها التي تدخل منها البضائع والمؤن كما أغلقت مصر معبر رفح، المنفذ الوحيد لقطاع غزة على الخارج. ورغم ذلك، لم يشهد القطاع مشاكل من نوع المجاعة أو سوء التغذية أو النقص الحاد في الغذاء. فقد سطر الفلسطينيون صورا رائعة من التضامن والتكافل وقف العالم حائرا أمامها. فكانت الأسر تتقاسم رغيف الخبر وشربة الماء وصحن السعتر والزيت. وكثيرا ما دمر القصف منزل أسرة أو أسر متقاربة. لكنها سرعان ما تجد تعويضا من الجيران وسكان الحي الذين يتقاسمون معهم منازلهم. كما شاهدنا أطفالا فقدوا أبويهم في القصف لكن الجيران والأقارب عوضوهم عن حنان الأبوين.

3- الطواقم الطبية:
شهد العالم كله بشجاعة وصبر ومهارة الطواقم الطبية الفلسطينية وقدرتها على تحمل العمل في ظروف صعبة والتعامل مع هذا العدد الكبير من الإصابات والوفيات رغم النقص الحاد في الأدوية. ضاقت غرف العمليات وامتلأت أجنجة الحجز وحتى الممرات بالجرحى لكن صدور أطباء غزة كانت تتسع لاحتواء القادمين في كل مرة. وقد فقدت هذه الطواقم نحو خمسة عشر من أفرادها بين مسعف وطبيب أثناء أدائهم لمهامهم. واستهدفت الطائرات الإسرائيلية بشكل مباشر ومتعمد هذه الطواقم لتخويفها رغم أن سياراتها تحمل علامات واضحة بما فيه الكفاية لتمييزها. وقد وصل الحد إلى قصف المستشفيات نفسها. وكثيرا ما فوجئ الأطباء بوجود أفراد من عائلاتهم في صفوف الجرحى إثر تعرض منازلهم للقذائف. وتدل قصة قصف منزل الدكتور عز الدين أبو العيش الذي يعمل طبيبا وباحثا في إسرائيل على الاستهداف الواضح. فهذا الدكتور، الذي تقدمه وسائل الإعلام الإسرائيلية على أنه نموذج للفسطيني المعتدل، ودأب على انتقاد حماس على أثير القنوات والإذاعات الإسرائيلية، لاحظ وجود دبابة قرب منزله، فاتصل بزملائه من الصحافة الإسرائيلية وأخبرهم بالحادث.
وبعد اتصالات أجراها الصحافيون، مع قيادة الجيش، غادرت الدبابة. لكنها عادت في اليوم الموالي. إلا أن أبو العيش كان خرج متطوعا لعلاج الجرحى، فقصفت الدبابة البيت فاستشهدت ثلاث من بناته وشقيقته وولدا شقيقه وأصيب جميع من في البيت بجروح. ورغم هذه المحاولات لإضعاف عزائمها، واصلت هذه الفرق صمودها وتمسكت بالقيام بدورها على أحسن وجه

4- رجال الكلمة:
سعيا إلى التعتيم على جرائمها، منعت إسرائيل الصحافيين والمراسلين الأجانب من الدخول إلى القطاع بل حتى من مجرد الاقتراب من حدوده. فكانت مسؤولية نقل الحرب تقع على عاتق الإعلاميين الفلسطينيين المقيمين في غزة. وقد تمكنوا، بشهادة الجميع، من رفع التحدي. وظلوا على مدى فترة العدوان ينقلون بالصورة والصوت ما تجود به قرائح جنرالات الحرب من صنوف التنكيل بالمدنيين وتدمير ممتلكاتهم واستهداف البنى التحتية من جامعات ومدارس ومقرات حكومية.
ومن أمثلة صمود رجال الكلمة، أذكر أنه بعد اشتداد القصف وبدء العملية البرية، كنا في غرفة الأخبار نتصل بالمراسلة في غزة صباح كل يوم للاطمئنان على سلامتها. وكنا نحذرها من تعريض نفسها لأي خطر. ونطلب منها عدم التحرك خاصة أن الصور التي تصلنا تمكننا من تغطية الأحداث دون المجازفة بتعريضها للخطر. لكنها كانت تصر في كل مرة على الرفض. وكانت تبقى عدة أيام في مقر العمل دون رؤية أسرتها وأبنائها وتخرج للتصوير وتنسق مع المصالح المعنية لإرسالها إضافة إلى النقل الحي عبر التلفون والأقمار الصناعية في نشرات الأخبار. فكانت أكثر حماسا وجدية من الحالات العادية. وقس عليها بقية الصحفيين الذين دُمرت منازل العديد منهم في القصف وفقدوا بعض ذويهم. كما استهدفت مكاتب بعض المحطات الفضائية العربية. إلا أن رجال الكلمة صمدوا وقاوموا كل هذه التحديات وظلوا ينقلون الأخبار على مدى الساعة غير آبهين بالخطر الذي يمثله ذلك على حياتهم ليجسدوا بالفعل تحول السلطة الرابعة من مهنة المتاعب إلى مهنة المخاطر

قلب أوراق الصراع:

أنتجت حرب غزة مجموعة من المؤشرات تدل على أن تغييرا ما في طور التشكل في مسار الصراع الذي عجزت كل المحاولات حتى الآن عن حله بسبب عدم احترام الاحتلال الإسرائيلي لقرارات الأمم المتحدة بل وحتى للاتفاقيات التي وقعها مع منظمة التحرير الفلسطينية. ومن أبرز هذه المؤشرات على ما أسميته قلبا لأوراق المعادلة المعقدة:

1- الفشل الميداني:
ذكرتني صور الدمار في غزة بمنطقة تعرضت لكارثة طبيعية قوية من نوع تسونامي الذي ضرب العديد من الدول الآسيوية في ديسمبر 2004 أو الزلزال الذي قضى على مدينة بم الإيرانية في ديسمبر 2003 أو زلزال مدينة كوبي في اليابان في يناير 1995. لكن الحروب لا تقاس بحجم الدمار بل بتحقيق الأهداف التي شنت من أجلها. ولا يحتاج المرء إلى ذكاء خارق ليدرك أن إسرائيل لم تحقق أهدافها في هذه الحرب. فلم تمنع الصواريخ الفلسطينية من السقوط على المستوطنات. ولم تحرر الجندي جلعاد شاليط الأسير في القطاع منذ يونيو 2006. كما لم تغير الوضع الميداني في القطاع.

2- المواقف السياسية:
ليس سرا أن إسرائيل تتلقى دعما قويا من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو أكثر من مرة لمنع مجلس الأمن الدولي من مجرد إدانة إسرائيل. ورغم الأمل الذي يبعثه وصول الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما إلى السلطة، فإنه لا أحد يتوقع أن تقلب واشنطن سياساتها رأسا على عقب. فالسياسات الخارجية في البلدان ذات التقاليد الديموقراطية العريقة ليست مرتبطة بأفراد. ومع ذلك، فإن بعض المسؤولين في الإدارة الجديدة خرجوا بمواقف جديدة لم نكن نسمعها خلال حكم الرئيس السابق جورج بوش. فقد أعلنت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة التي عينها أوباما، سوزان رايس، خلال أول اجتماع حضرته في المنظمة أنه يتوجب على إسرائيل أن "تحقق في اتهامات بأن جيشها انتهك القانون الدولي في غزة".
ومن المواقف السياسية التي تعتبر نتيجة مباشرة للحرب على غزة، انسحاب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من منتدى دافوس الاقتصادي بسبب عدم السماح له بالرد على مداخلة للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز حول الحرب على غزة. لكن أردوغان لم ينسحب قبل أن يُسمِع بيريز كلاما لم يَسمعْه مسؤول إسرائيلي عن كثب في تاريخ الدولة العبرية. فقد خاطب أردوغان بيريز قائلا: " أشعر أنك ربما تشعر بالذنب، لذلك ربما كنت عنيفا، أنا أتذكر الأطفال الذين قتلوا على الشاطئ. (...) أشعر بالحزن عندما يصفق الناس لما تقوله، لأن عددا كبيرا من الناس قد قتلوا. وأعتقد أنه من الخطأ وغير الإنساني أن نصفق لعملية أسفرت عن مثل هذه النتائج."
من تداعيات حرب غزة كذلك تصريحات مبعوث الرباعية الدولية للسلام، رئيس الوزراء البريطاني السابق وحليف واشنطن، توني بلير التي أكد فيها أنه لا بد من إشراك حماس في أي حل محتمل. وهي أول مرة يدلي فيها مسؤول غربي رفيع المستوى بتصريح من هذا القبيل.

3- الاحتجاجات الشعبية:
كشفت هذه المظاهرات تباينا واسعا بين الزعماء الغربيين وقادتهم بخصوص الدعم اللامشروط للدولة العبرية. فقد عمت المظاهرات والمسيرات والفعاليات التضامنية الشعبية مختلف أنحاء العالم من أستراليا في أقصى الشرق إلى كندا والولايات المتحدة في أقصى الغرب. وليست هذه بالطبع أول مرة تخرج فيها مظاهرات مماثلة. لكن حجمها ونوعية الأشخاص المشاركين فيها من ممثلين وبرلمانيين وصحفيين وقانونيين وناشطين يشي للمتتبع الفطن بتحول في وجهة الصراع. وقد وصلت هذه الاحتجاجات الشعبية ذروتها عندما تظاهر متضامنون في لندن أمام هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي.سي) احتجاجا على التغطية المنحازة لإسرائيل. لكنهم ما لبثوا أن اقتحموا مقرات الهيئة بسبب رفضها بث إعلان لجمع التبرعات لصالح سكان غزة. كما أيد أعضاء في الحكومة والبرلمان البريطانيين المتظاهرين في انتقادهم قرار هذه المؤسسة الإعلامية العريقة. وأزعم أن ثمة إحساسا بالذنب بدأ يتشكل خاصة لدى البريطانيين لأن بلادهم كانت السبب في محنة الفلسطينيين من خلال وعدِ بلفور، وزير الخارجية البريطاني سنة 1917، اليهود بإعطائهم أرض فلسطين ليقيموا عليها وطنا قوميا لهم. الشعور ذاته بالذنب تجاه اليهود كان يمثل أبرز أسباب التأييد الغربي لإسرائيل. وقد بدأ هذا الشعور يتناقص لدى أغلب شرائح المجتمع الغربي لصالح القضية الفلسطينية.

4- الإضرار بصورة إسرائيل:
ظلت الدولة العبرية تقدم نفسها إلى العالم الغربي على أنها واحة الديموقراطية وحقوق الإنسان الوحيدة في المنطقة. وقد أكدت أحداث غزة أن هذه الصورة الوردية التي بنتها إسرائيل لنفسها على مدى عقود من الزمن قد تضررت كثيرا. وتعني هذه الاحتجاجات التي تحدثنا عنها سابقا أن إسرائيل خسرت جانبا من التأييد الشعبي في المجتمع الغربي وجزء كبيرا من جبهتها الداخلية بعد فهم أسباب الصراع الحقيقية وهي الاحتلال الإسرائيلي لأرض العرب الفلسطينيين. وفي إسرائيل، خرج إسرائيليون يهود في مظاهرات وفعاليات مناهضة للحرب على غزة. وذهب بعض الناشطين الإسرائيليين، غير العرب، إلى إطلاق تحركات عالمية لمقاطعة إسرائيل لإرغامها على تغيير"الفصل العنصري الذي تمارسه ووقف سياساتها العدائية تجاه الفلسطينيين". ولا أعني هنا بالناشطين الإسرائيليين، بالطبع، منظمة "ناطوري كارتا" اليهودية المعروفة بعدائها التقليدي لإسرائيل. فقد كتب الصحفي الإسرائيلي الشهير نتان زهافي مقالا عممه على عدة صحف ومواقع في الانترنت يقول فيه إنه يخجل من كونه إسرائيليا. وقد بدأ بريق صورة إسرائيل يخفت منذ قيام حركة التضامن احتجاجا على بناء الاحتلال الإسرائيلي للجدار العازل في الضفة الغربية. لكن صور أشلاء أطفال غزة المتناثرة في كل مكان أطلقت رصاصة الرحمة على ما تبقى من هذه الصورة التي جندت لها إسرائيل الكثير من الوسائل.

5- التحركات القانونية:
قامت إسرائيل منذ نشأتها على المجازر ضد المدنيين الأبرياء في مختلف الدول العربية. فدير ياسين في 1948، ومجزرة قانا الأولى والثانية في 2006 وغيرها ستظل ماثلة في الأذهان. ورغم ذلك، لم يقلق جنرالات إسرائيل في يوم من الأيام من الحديث عن هذه المجازر. بل قال بعض قادتها إنه يشعر بالفخر عندما يقتل الفلسطينيين. أما اليوم، فقد بادرت إلى تشكيل لجنة قانونية للدفاع عن جنودها وامتنعت عن نشر لائحة وصور الضباط المشاركين في الحرب على غزة خوفا من ملاحقتهم. وقامت أكثر من أربعمائة منظمة غير حكومية دولية بجمع الأدلة والوثائق على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب تمهيدا لرفع دعوى ضدها إلى المحكمة الجنائية الدولية. ورغم أننا لا نتوقع في ظل موازين القوى الراهنة أن يحضر المسؤولون الإسرائيليون عن هذه الجرائم لمحاكمتهم، كما حدث مع مجرمي الحرب في ليبيريا والكونغو ويوغسلافيا السابقة، فإننا نعتقد في الوقت ذاته أن مجرد قبول بعض المحاكم بالنظر في القضية هو في حد ذاته إنجاز ونصر قانوني. وقد سبق هذه الحادثة رفع دعاوى في كل من اسبانيا وسويسرا وبريطانيا ونيوزيلندا ضد ضباط إسرائيليين. وتمكن اللواء دورون ألموغ في 2005 من الفرار من العدالة البريطانية التي أصدرت أمرا باعتقاله للاشتباه بارتكابه مخالفات جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 في مخيم رفح عام 2002. وكان مقررا اعتقال ألموغ على أرض مطار هيثرو بلندن. غير أنه أبلغ بذلك، فبقي في الطائرة إلى أن عاد هاربا إلى إسرائيل. كما قبلت المحكمة الوطنية الاسبانية، أعلى هيئة قضائية في البلد، في يونيو 2008 النظر في الدعوى ضد مسؤولين إسرائيليين متهمين باقتراف جريمة حرب في مجزرة حي الدرج في 2002 في غزة. وهي المجزرة التي أسفرت عن استشهاد وإصابة العشرات بينهم صلاح شحادة، القيادي في كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية.
لكننا نعتقد أن حرب غزة ستدفع بهذه الإجراءات القانونية إلى الأمام وتسرعها في ظل تنامي الأصوات المنادية بمحاسبة إسرائيل. ولئن كان ألموغ قد أفلت تلك المرة، ولئن نجحت إسرائيل في مسعاها لتفادي مثول مسؤوليها أمام القضاء الاسباني، فإنه أو غيره من المسؤولين الإسرائيليين قد لا يفلتون في المرات القادمة. أضف إلى ذلك أن أغلب الإسرائيليين يحملون جنسيات أخرى ما يعني أنهم مهددون بالمثول أمام القضاء في دولهم الأصلية التي ما يزالون يحتفظون بجنسياتها.
ورغم أنني لست من هواة إطلاق الكلام على عواهنه ولا من الذين يُحكِّمون العاطفة على حساب العقل عندما يكتبون عن قضايا حساسة كهذه، فإنني أستطيع أن أجازف بالقول إن العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة سيشكل منعطفا حاسما في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي وسيعجل بحل النزاع. وبالنظر إلى أهمية هذا المكسب، يمكننا أن نعتبر أن العدوان على غزة لم يكن سلبيا بالنسبة للقضية الفلسطينية. فاستشهاد أكثر من ألف وثلاثمائة فلسطيني وإصابة أكثر من خمسة آلاف آخرين سيخرج أغلبهم – إن كتب لهم العيش– بإعاقات دائمة أمر مؤسف دون أدنى شك، ولم يكن أحد في أمتنا الإسلامية يتمنى أن يحصل. لكنه كتب بحروف من ذهب صفحة مشرقة ستضرب مثلا للصمود لأجيال قادمة.
ولولا هذا الصمود الأسطوري لتحول العالم إلى منظمة خيرية كبيرة وانشغل في إغاثة سكان غزة ولما وجد فرصة لجمع الأدلة على جرائم الحرب والحديث عن ملاحقة مرتكبيها. وقد علمنا التاريخ – وليت المرجفين في أمتنا الإسلامية وما أكثرهم هذه الأيام يستفيدون من دروسه– أن الضربة التي لا تقتل تزيد قوة وأن الشعوب العظيمة تنهض دوما من تحت الركام الذي يخلفه المعتدي. وقديما قال العرب في أمثالهم: رب ضارة نافعة.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!