التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:11:02 غرينتش


تاريخ الإضافة : 22.02.2009 10:39:05

دائرة جهنم .. والخيارات الصعبة

بقلم: م. محفوظ ولد أحمد                             mahfuzouldahmed@gmail.com

بقلم: م. محفوظ ولد أحمد [email protected]

لا ينقضي العجب من إصرار البعض على تجاهل جذور وأسباب الأزمة السياسية الخانقة التي يعيشها بلدنا، وغضهم الطرف عن النتائج الخطيرة التي نتجت عنها وتلك التي ستترتب على تطوراتها.
في البداية لا بد من الإقرار بأن السنوات الطويلة لانحراف البلد عن المسار المدني الطبيعي وخضوعه لأحكام عسكرية فردية، قد خلق أجيالا من النخب الفاسدة التي لا إيمان لها بالمصلحة العامة وإنما تنظر إلى الأمور وتقيمها من مصالحها الآنية، بحيث تكون آراؤها ومواقفها هلامية تتقلب وتتحدد حسب الحال السياسي، متتبعةً مساقط المنافع الشخصية.
وهؤلاء الذين يسميهم البعض المنافقين والانتهازيين المتملقين هم وقود الدولة المغشوش وحطب إدارتها الفاسدة. ففي ظل الأحكام الديكتاتورية المفتقرة إلى الكفاءة والشرعية يختار الحاكم وأعوانه مثل هؤلاء ليستر حقيقته تلك وليقنع الناس، ونفسه أيضا، بأنه الحاكم الصالح الملهم بالحكمة والصواب، المعصوم من الخطأ والزلل.
وفي المقابل فإن هذا الحاكم وبطانته ينفرون كل النفور من أصحاب الكفاءة والاستقامة. وهذا بالضبط هو ما ترسخ خلال السنوات الطويلة لحكم ولد الطائع ـ وخاصة في نسخته المدنية ـ حيث عرف هذا البلد نموذجا فريدا من تقنين الفساد وشخصنة حكم البلاد.. حتى صار جوره عدلا وقضاء، وتسلطه بذلا وعطاء، وحماقته حكمة وإلهاما، وعيايته فصاحة وفصل خطاب..!
ويبدو أن هذه النخب المزيفة، التي يتصدرها معظم المنتخَبين (بطبيعة الحال) ومسئولون سابقون وأصحاب أحزاب مجهرية ومبادرات نفعية.. قد استشعرت الخطر حين بدا لها أن الرئيس المنتخب المخلوع (ولد الشيخ عبد الله) بات يعول على شرعيته الديمقراطية ومنها يستمد قوته، بدلا من الارتهان لهؤلاء الذين لا يرضون بديلا لنظام الزبونية والمحسوبية السائد كأسلوب للحكم في هذه الدولة الغريبة الأطوار.

غياب المبررات

ومن هنا نشأت بوادر الأزمة الراهنة بسبب اتضاح الاتجاهين المتناقضين لشرعية النظام؛ فأحدهما يجعل علاقة السلطة وثمراتها بين الرئيس والشعب، والآخر يجعل تلك العلاقات وتلك الثمرات دولة بين الرئيس وتلك الزمر التي تخصصت في وضع نفسها مكان الشعب والدولة أيضا.
وهكذا بدأ افتعال الأزمة والبحث عن طريقة "للرجوع" في رئاسة ولد الشيخ عبد الله.. فكان الانقلاب العسكري ـ كالعادة ـ هو الحل السحري للحصول على السلطة في خمس دقائق، وقلب الشرعية إلى نقيضها تماما بكل بساطة!.
إلا أن هذا الانقلاب العسكري كان أكثر حاجة من أي انقلاب آخر، في التاريخ الحديث، إلى المبررات والمسوغات.. مما أوقع قادته وأشياعه في سلسلة من الارتباكات والعثرات والتناقضات.. فهو تارة "حركة تصحيحية" وليس انقلابا بدليل بقاء مؤسستي البرلمان والمجالس البلدية، مع أن هذه الهيئات الدستورية كان متوقعا أن تتعرض للحل والتعطيل لو لم تكن مصدر الدعم والمساندة الأول للانقلابيين. وهو تارة أخرى إنما جاء ردا على إقالة قائده وزملائه من مناصبهم العسكرية.. أو بسبب تعطيل عمل البرلمان. أو هو ببساطة أن العسكريين هم من جاء بالرئيس "المؤتمن" وبالتالي لهم الحق في "أخذ أمانتهم"..الخ. وهى في مجملها مبررات قاصرة وواهية تماما مثل قضية المفسدين الذين قُسموا هم أيضا إلى فئتين: فئة مقربة فسادها حميد لا تثريب عليها، وفئة معارضة خبيثةُ الفساد مأخوذة بذنوبها أخذ "عزيز" غاضب!.
وإذا كان تأييد وتصفيق الانتهازيين والانتفاعيين الذين لم يبرحوا الساحة منتظرا ومتوقعا، فإن تأييد حزب RFDورئيسه أحمد ولد داداه للانقلاب قد أثار العجب والاستغراب، لا باعتبار ولد داداه زعيما للمعارضة الديمقراطية فقط، ولكن أيضا لاعتباره ـ حتى ذلك الوقت ـ أحد أبرز المناضلين من أجل الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، ناهيك عن المأزق الأخلاقي لذلك التأييد باعتباره نوعا من الثأر والشماتة بغريمه الذي أزيح من السلطة إلى المعتقل بالقوة وتعرض أثناء وبعد ذلك لمعاملات مهينة ومشينة، تسيء للمنصب الرئاسي ورمزيته الوطنية أكثر من إساءتها للرجل العجوز.
وعلى أية حال فقد سلم الجنرال ولد عبد العزيز السلطة لنفسه كما لو كان هو الأجدر بها، ولم يترك مجالا لطرح أسئلة ملحة من قبيل: ألم يكن هناك حل آخر؟ وإذا كان ولد الشيخ عبد الله هو المشكلة، فلما ذا يترأس هذا الجنرال دون غيره من الموريتانيين.. أو حتى من العسكريين؟؟!
وهكذا عاد البلد إلى مربع 1978 المشؤوم، لكن دون أن يرجع التاريخ إلى الوراء.. فقد واجه ولد عبد العزيز وأنصاره رفضا قاطعا مزعجا في الداخل والخارج.

 

المشكلة في الخارج


وإذا كان العسكريون يملكون الخبرة الكافية والقدرة الكاسحة على إسكات المعارضة الداخلية بالقمع أو الشراء.. فإن المعارضة الخارجية كانت ولا تزال هي المشكلة التي يستنفد النظام قوته وجهوده ووسائل البلد في سبيل التغلب عليها.
وفي حين يبذل الانتهازيون المتملقون جهدهم ويعتصرون خبرتهم الطويلة في طمس الحقائق وإبراز الأباطيل لإقناع الرأي العام بأهمية "الإنجازات العملاقة" التي حققها الانقلابيون للبلاد، والتي لا وجود لها في الواقع، تستميت الحكومة وبرلمانيوها في كفاح مرير من أجل إقناع المجتمع الدولي بقبول الحلول و"التضحيات" التي قدموها والمتمثلة في إطلاق سراح الرئيس المخلوع، وتنظيم انتخابات رئاسية "شفافة" عاجلة، والبقاء على خط عودة جاهز للعلاقات مع إسرائيل (التي تم تجميدها بدل قطعها الذي هو مطلب إجماع وطني).
وسواء نجح هذا الكفاح المصيري في تفادي عقوبات موجهة أساسا إلى قادة الانقلاب وبطانتهم أم لا، فإن الضرر الأكبر تتجرعه البلاد متمثلا في الصعوبات الاقتصادية والسياسية الناتجة عن عدم الاستقرار وتوقف أو انحسار المساعدات. وحتى لو لم تطبق عقوبات رسمية في الجانب الأوروبي الأمريكي ـ وهو الأهم ـ فإن حكم هذه العقوبات سيكون حاضرا متمثلا في غياب شبه كامل لمشاريع التنمية والاستثمار، بل سيقتصر التعاون على نوع من الابتزاز تمارسه القوى الغربية على النظام لتحقيق مصالحها بأقل ثمن.. تماما كما كان الحال قبل 3 أغسطس 2005، حيث كان ولد الطائع شبه محاصر في الخارج رغم علاقاته المسرفة في التودد والبذل للقوى الغربية (لدرجة استبدال العلاقات مع الجمهورية العراقية بالعلاقات مع إسرائيل!).

 

الحل هناك أيضا!


أما على الصعيد الداخلي فتتضح معالم الأزمة ومخاطرها في استمرار حالة الحيرة والترقب والتوتر أحيانا، واتساع الهوة بين الفرقاء بصورة خطيرة تتمثل في الآتي:
فجبهة المعارضة، التي تعول على تزايد الوعي بزيف الإنجازات واستحالتها أصلا، لا شيء يدعوها للتنازل وقبول حلول خصم تعْلَم جيدا أن مقصده الأوحد هو الانفراد بالسلطة وتشريعها بانتخابات معلومة النتائج. وتنظر الجبهة إلى دعوات الحوار والاحتكام لصناديق الاقتراع التي يطلقها أنصار السلطة وحتى علماؤها (الذين يعارضون الديمقراطية أصلا) على أنها من قبيل مفاوضة اللص على الاحتفاظ بغنيمته التي اغتصبها! وتقول: إذا كان أنصار الجنرال يحاولون إقناع الناس بأن الجبهة هي المشكلة وأن مواقفها المتصلبة هي السبب في العقوبات والعزلة الدولية، فإنهم يتجاهلون بشكل فج أن العسكريين الحاكمين بيدهم الحل أيضا، بل الحل الجذري السريع: فبمجرد تراجعهم عن احتلال السلطة والانسحاب من الشأن السياسي ـ الذي ليس شأنهم الطبيعي على أي حال ـ ستنتهي المشكلة تماما، وسيرسون سابقة بناءة وإنجازا وطنيا تاريخيا هو قطع الطريق أمام الانقلابات والاستيلاء على السلطة بالقوة، وهي من أخطر ما يهدد بلدنا وغيره من البلدان المتخلفة.

 

دائرة جهنم!

أما في جانب المجلس العسكري الحاكم، فالحل الأفضل هو خضوع الجبهة للأمر الواقع وانخراطها في المسلسل الجديد. وفضلا عن بعد هذا الحل حتى الآن، فإن اعتماد رئيس المجلس الأعلى للدولة على مجموعات الطمع من الإقطاعيين المنتخَبين والانتهازيين السياسيين وأصحاب مبادرات التملق، توقعه في دائرة جهنمية مغلقة من الضغوط السلبية الكفيلة بزرع وري الفساد ـ المستشري أصلا ـ وتخبط التسيير وتناقض القرارات.. خاصة أنه كلما شعر هؤلاء بتزايد المصاعب والضغوط على النظام .. كلما طلبوا ثمنا أكبر وجرُّوه إلى مواقف مهلكة.. حتى إذا سقط أو عجز انفضوا من حوله إلى من يخلفه، أو وضعوا هم ذلك الخلف بأنفسهم..
ومع ذلك لا يبدو في الأفق ـ حتى الآن ـ حل غير ذلك الذي يسعى العسكريون إلى فرضه بالأمر الواقع، والذي ليس من أقله خطرا إجراء تعديلات مرتجلة على الدستور تنطلق من ردات فعل حرفية لمواقف ورهانات شخصية وظرفية.. ليصبح هذا الدستور أيضا لعبة تتقاذفها أمزجة الحاكم ومصالحه المتقلبة.
ويبقى هناك من يحاول جعل نفسه طرفا ثالثا أو "منزلة بين المنزلتين" ـ رغم سقوطه الابتدائي في تأييد الانقلاب ـ بمساع سياسية يختلط فيها العبث بالمناورة، ألا وهو حزب تكتل القوى الديمقراطية. ولكن من المؤكد أن هذا الحزب الذي أثخن الانقلابيون فيه استمالة وشقا، سيكون هو ورئيسه الخاسر الأكبر، حتى لو صحت المزاعم بأن السيد ولد داداه سيصل إلى رئاسة وزارة نافذة إن لم يصل إلى الرئاسة نفسها بعناية العسكر والجنرال ولد عبد العزيز بالذات.. إذا ما تعذر تحقيق الخيار الحالي... فهل هي نفس المتاهة سيعيدنا إليها مرة أخرى هذا التاريخ النكد..؟


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!