التاريخ: 21.09.2024  التوقيت:08:37 غرينتش


تاريخ الإضافة : 09.03.2009 19:18:52

الحسين ولد مدو يكتب: وساطة القذافي: رؤية في المأمول والمتوقع

عود على بدء:

hmeddou@yahoo.fr                        الحسين ولد مدو

[email protected] الحسين ولد مدو

نوع من العبثية الجادة والأداتية الحادة، ذلك الذي نعيشه علي المستوي السياسي، بعدما أصبحنا أكثر الشعوب انتقالا و دلفنا للحلقة المفرغة : انقلاب، انتخاب، انقلاب، انتخاب.
بتنا نتقاطع في غائية المسار وأهداف المسعى مع ذلك المأثور الذي ينتزع جذور النبات لتقوية عضلاته ويقوي عضلاته لينتزع جذور النباتات.
تبدو اللوحة ناطقة في تواتر عمليات الانتقال بهرم السلطة،
من فاتح أغسطس 2005 لغاية السادس من أغسطس 2008 كان لنا أربعة رؤساء، بمعدل رئيس لكل تسعة أشهر، نعم السنة الرئاسية كالسنة الدراسية تبدأ بأمل وتنتهي بامتحان عسير "يمنح" بموجبه الرئيس إلى الخارج أو "يمحن" بالداخل، ولد الطايع أسلمته الأقدار إلي النفي وسيدي أوصلته إلي السجن واعل الوحيد الذي سلم من العسكر خرج وعيناه على قصر تسرب من بين يديه.

من الخامس مايو 2008 إلي السادس أغسطس 2008 كانت لنا أربع حكومات بمعدل حكومة كل شهر، وفق هذا المنطق الاستعجالي يؤخذ الوزراء من الشارع ويعودون إليه، امتهنت الوظيفة مطلقا وخلقت الانتقالية موظفين معقدين ووظائف معقدة وارتهنت الدولة للارتجال الدائم والانتقال المتواصل وغابت الرؤية الزمنية الكافية لإدارة أي قطاع.
وراء كل انقلاب كان يغيب بريق الاعتزاز من الأعين وتخيب الآمال في التجربة الديمقراطية التي كان ولد الشيخ عبد الله يخاف عليها الفقر لا الجيش.

معمر القذافي كان الرئيس الوحيد الذي واكب عن قرب جميع رؤساء موريتانيا في بياناتهم الأول، في إيهامهم الجميع بالتغيير، في صعودهم وهبوطهم، في المبررات و الوعود التي تبدأ شعاراتها وطنية وتنتهي أنانية
كان الوعي بالذنب والسعي للتكفير عنه يدفع في البداية دائما الأنظمة العسكرية وفق تكتيك متقارب إلي ممارسة نوع من "غسيل" الأفعال و"تبييض" الأقوال، فتكون وطنية منفتحة قبل أن تؤمن الانتقال من "الانتقال" إلي التأبيد. لا يفكر قادتها في البداية في الترشح بقدر ما يؤرقهم إخراج البلاد من الأزمة الفعلية أو المصطنعة، وعندما تنقضي المدة اليسيرة ولم تخرج البلاد يستدعي وضع البلد الترشح، فيترشح القادة حال التخفيف من الأزمة للحفاظ علي المكاسب ويترشحون كذلك حال تفاقم الوضعية لمعالجة المضاعفات.
وهكذا تغيب المبررات والمرجعيات ونعود علي بدء.

 

تكليف من لجنة الاتصال ومساءلة للوسيط:


خلص الاجتماع الأخير للجنة الاتصال المكلفة بموريتانيا إلي بيان عائم وأصيل أرجع الكرة لمرمى الموريتانيين وأراد من ورائه الاتحاد الأوروبي إبقاء الأطراف على طاولة الحوار الافتراضي وتشجيعهم علي مباشرة التواصل الفعلي. اقتصرت نتائج أعمال اللجنة علي إصدار بيانات تبدو ديباجتها قوية ولكنها تسلم إلى نهاية ضعيفة فيما يشبه نوعا من التسيير النفسي لمسار تعاط يجد كل طرف موريتاني فيه ذاته وصفاته على أن تتكفل الأطراف ذاتها باستخلاص النتائج لنفسها وبالطريقة التي تراها مناسبة.

كان تكليف لجنة الاتصال للرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي الزعيم الليبي معمر القذافي مقاربة ذكية وهدية من اتحاد يملك الحسم و الآلة الاقتصادية لآخر يملك القرب و الشرعية الأخلاقية، ومثل التكليف نوعا من تأجيل إنزال العقوبة بالبلاد و إتاحة الفرصة السعيدة للأطراف، ومع ذلك فلم يعهد الأوربيون لرئاسة الاتحاد الإفريقي بابتداع الحلول وإنما اقتراح الآليات الضامنة للو صول إلي الحل المقترح و ضمان تصديره بطريقة تتفق مسبقا مع أجندة الأوربيين الذين يملكون أساسا سوط العقاب الريعي والردعي والذين لم يقرروا بعد أن يتركوا معالجة الملف الموريتاني خالصة للعرب أو الأفارقة.

وفق هذا المنطق يبدو القذافي حرا في المبادرات التي يقترحها، مربوطا بالحدود التي قدمتها اللجنة، ولكن هوامش التحرك في تلك المساحة كبيرة.
وتحول الحكم على آفاق نجاح الوساطة إلي مساءلة للوسيط بدلا من البحث في آلياته وقدراته، و بدأت محاكمة القذافي بسابق وساطاته حينما يفوز في بعضها أو حينما تنقسم الأطراف ميتوزيا وميوزيا فينسحب، أو يدعم أحدهما أو كليهما حتى يبقي على جذوة الوساطة قائمة ومبررة.

رأي البعض في تكليف الرئيس الدوري إعادة للملف للحاضنة الإفريقية ومحاولة لتسويق وتطبيق الحل الذي صاغته أيد أوروبية بأياد عربية، واعتبره آخرون إرهاصات لتسليع أو تمييع الملف الموريتاني.
وكان الزعيم الليبي في كل مرة يلمس في نفسه الشجاعة علي المبادرة والقدرة علي التوسط والإرادة في جمع الأطراف وكان الآخرون في عديد المرات يتوسمون فيه الاستعداد و القدرة علي الاضطلاع بدور من هذا القبيل، كانت كثيرا ما تدفعه روح المغامرة للقبول بمباشرة المهمات الصعبة للوساطة.

إن تكليف القذافي من لجنة الاتصال لا يجعله موفدا دوليا أو أوربيا رفيع المستوى بل القذافي المسلم العربي الإفريقي الذي حمل شعار كل هذه الفضاءات لفترات متفاوتة ، مدعوما هذه المرة بتفويض أوربي ودولي و لم يكن الزعيم الليبي في لحظة من القوة التي تمكنه من المعالجة أكثر من هذه: رئيس دوري للاتحاد تتولي دولته رئاسة مجلس الأمن ويرتبط منذ انقلاب السادس أغسطس بعلاقات متوازنة مع أطراف اللعبة ويقيم صلاة المولد بانواكشوط كما أن المشهد الموريتاني لم يصل بعد درجة التمزق مقارنة بباقي الحالات في مناطق أخرى، فالفرقاء عندنا سياسيون يتقاسمون المشهد السياسي لا الفضاء الجغرافي، ولم يجربوا بعد أي صيغة للحوار ومجرد إطلاقه سيكون إنجازا.

إلى ذلك يبدو القدافي اقدر من حيث آليات الفعل التي تتداخل فيها وشائج الصلات ومعاني الصلاة وتوابل الماضي والحاضر وشيء من الحميمية وبعض من الآليات الأقل أورتودوكسية وهي الآليات التي لا يريد الأوربيون أو لا يستطيعون استخدامها إذ ينقصهم تملكها أو التجذر الكافي لاستخدامها دون أن تتسبب في إزعاجات للمشهد أو تشققات في المبدأ.

سيكون القذافي ـ لأنه أكثر قربا ـ أكثر تحررا من هذه القيود الأوربية وستدخل في لعبة البحث عن التوافق السياسي الصلوات، والصلات والدعاء والرجاء ووصلات المولد وابتهالات ومواجد الطرق واتصالا ت عشائر القبيل والفصيل وسوابق عهد ليبيا بالمنطقة وطرف الزعيم وأصالة أفكاره. وفي ظل هذا ا المعطي الروحي الذي سيستبد بالبعد الزمني قد تقتصر الزيارة علي مباشرة اتصالات فردية و تؤجل هذه النزعة الروحية إطلاق الحوار الفعلي إلي ما بعد عودة الزعيم لليبيا.

بداية اتصال:

القذافي مفرط الحساسية تجاه الديمقراطية التمثيلية ولكن المطلوب من القذافي ليس تأسيس الديمقراطية الموريتانية ولا ترميمها وإنما دفع الأطراف للتقدم وتحقيق الطبعة التوافقية الكفيلة بالوصول إلي الاشتراطات الديمقراطية التي حددها الأوربيون، وقد ربطت الزعيم الليبي مع أطراف الأزمة الموريتانية علاقات خاصة؛ إذ كان في بياناته و صلاته واتصالاته يدعم المجلس و الجبهة دون أن يدعم منهما أحدا، مارس مع الفرقاء الموريتانيين قبل تنقلهم إليه لعبة ما يطلبه المستمعون بذكاء، وفاء للدور المرتقب وحرصا علي البقاء من الطرفين بالمسافة ذاتها .

في أوروبا كانت تتم دراسة الانقلاب الموريتاني كحادث من الوضوح بحيث لا يحتاج إلي حضور الشهود أو في حالات نادرة بحضور بعض عناصر الكومبارس أو بقائهم علي هامش اللقاءات يرصدون ويترصدون
أما في ليبيا فاستعداد الأطراف وانفتاح المضيف تطلب تنقل أصحاب الملف إلي طرابلس للاجتماع بالقذافي والاستماع إليه وكان ذلك يؤشر لبداية التواصل ويشي عمليا ببدء التأسيس لمفهوم الأطراف واعتبار الفرقاء كما هم فعلا ، لا كما يريد القادة العسكريون.

أراد الجنرال الإيحاء بأن زيارته لليبيا زيارة عمل تطبعها الندية ولذلك حافظ في خطابه أمام الجاليات علي حدته اللهجية دون كبير اعتداد بالمكان ومقتضيات السياق الزمني، بخلاف الجبهة التي خففت من نبرتها طيلة تلك الفترة مع أن التغطية التلفزيون الليبي لاستقبال سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله كانت توحي بالقرب من الطرح العسكري.

جاء القذافي:

جاء القذافي بصراحته وأصالة طرحه و طرافته وغرائبية أفكاره، جاء يزحف بخيله ورجله و خيامه، قبائل الصحراء الكبري يجرجرها من ورائه وبيوتات الأشراف من أمامه والفعاليات الشعبية تنبجس من حوله.

رجل كاريزماتي مبدئي ، مستعد لدفع ضريبة مبدئيته حصارا و دما ودمارا و سنينا عجافا، و تسلمه مبدئيته حينا إلي واقعية مذهلة تمحق المنطلقات، كان دائما يبتدع أفكارا سابقة لزمانها، أو أزمنة سابقة لأفكارها.
جاء ليضرب أطناب خيمته إلي جانب خيامنا ليصلي بالناس إماما.
هيئت الساحة الموريتانية لاستقبال الضيف الكبير و تمت تهيئة الظروف السياسية و اللوجستية، فقد مكن الرئيس ولد الشيخ عبد الله من الدخول إلي نواكشوط وسط الأهازيج ومن دخول المطار من قاعة الشرف
وتم ترحيل السفارة الإسرائيلية وخلفتها الجرافات تهيئ الأرض والأرضية
وجندت وسائل الإعلام العمومية للحديث عن الاحتفال بعيد المولد النبوي و مبادرات بيوتات الشرف وأعيد البحث في أرشيف أمجاد السلاطين والقبائل وتم إطلاق مبادرات مواليد الفاتح وحصر المسؤولون الرسميون أحاديثهم علي مناقب الزعيم.
وملأت شوارع البلد الصغير بحجمه العظيم بأهله شعارات الترحيب بالقائد، الفاتح، ملك ملوك إفريقيا، رسول الصحراء، و اخلي أهل الديار ديارهم لاستقبال ضيوف الضيف وزينوا واجهاتها البسيطة، وتناسي الموريتانيون خلافاتهم وحتى ذواتهم في برهة استقبال الضيف الكبير و بذلت البلاد كل ما في وسعها وسخرت حتى ما يمكن أن يخرج في منطق ا لأنظمة العادية من صفات أريحية المضيف إلي إشكالات السيادة الوطنية.

منطلقات أوروبية:

يقتصر المطلب الأوربي علي ضمان العودة السريعة للشرعية الدستورية، وبهذا المفهوم ـ حتى مع بقاء علي خطاب الفرقاء المحليين علي مبدئيته ـ ، لم تعد مطروحة منذ مدة عودة سيدي ولم يعد مطروحا منع ترشح ولد عبد العزيز كما لم يعد مطروحا التسيير الأحادي للمسار الانتقالي أو الإبقاء في السلطة بمجرد الاستيلاء عليها أو ضمان الاعتراف الدولي بمجرد استتباب الوضع.
وإنما تمت بلورة مقترح لتحقيق توافق الشركاء و النظر في إمكانية الاتفاق علي مساعدة الموريتانيين في التخلص من لحظة الانقلاب بتنظيم الانتخابات وفق آليات توافقية من مفرداتها تسيير المرحلة السابقة للانتخابات وفق الطرق الدستورية والوصول إلي حل توافقي يكفل استقالة الجنرال في فترة كافية و تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الجبهة ووضع آليات متشاور عليها لتنظيم ومراقبة الانتخابات
وضمن هذه المنطلقات الأوروبية المقترحة ستعمد الأطراف الموريتانية إلي محاولة فرز الانتصارات من المبادرة المطروحة.
فقد حافظت الجبهة لأول مرة في تاريخ الانقلابات بموريتانيا علي درجة من التماسك وسعت إلي انتزاع موقع الشريك وستعتز ـ مدعومة بإثم الانقلاب ـ بتأسيسها لأول ممانعة من نفس طويلة للانقلاب وبإرغامها الجنرال علي البقاء لا قصر فترة ودون كبير اعتراف دولي و دفعها لتنظيم انتخابات تحظي بمشاركة الجميع في الوضع والتنفيذ وبكونها أصبحت شريكا فاعلا يتوقف علي تجاوبه إلي حد كبير حلحلة الوضع المحلي

وسيعتز المجلس العسكري بالإبقاء علي كثير من خطته دون كبير تغيير مع تنازلات بشان الحكومة الوطنية والاستعجالية الزمنية وغياب الاعتراف والتحول إلي طرف.

المتوقع والمأمول:

كان الإشكال الموريتاني قانونيا وسياسيا لكنه اكتسي إلي ذلك لبوسا نفسيا لغياب التواصل وهكذا مكنت الاتصالات الليبية لحد الآن من مساعدة الأطراف علي تجاوز العتبة النفسية الأولي وحققت اتصالا متعديا بانتقال الأطراف و سمحت للعسكريين بتجاوز عقدة المخاطب الأوحد ومكنت سيدي من الخروج من عزلة الضربة الأولي
و تمكن القذافي حتي قبل وصوله من إطلاق حراك ممهدا للتواصل وسيحاول خلال زيارته تسجيل هدف آخر بلقاء الأطراف انفراديا والسعي لاحقا لجمع ممثليهم لمناقشة مبادرته.

علي أن المقترح الليبي لن يكون في جميع الحالات إلا نسخة مهذبة من الطرح الأوروبي والمبادرة العسكرية ، يتجاوز فيه مفهوم الأحقية القانونية ويعمل فيه علي تحقيق الطبعة التوافقية وضمان مسايرة الفرقاء دون الشعور بالتغرير وإضافة تحويرات تؤسس للشعور بالتشارك لدي الأطراف أو تدفعهم لخلق الوهم بالانتصار وتبعا لذلك سيكون الحكم علي إنجاح المبادرة من اختصاص الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية التي سيطلب منها التنازل أكثر.

يجب أن نقلل من درجة التفاؤل المفرط بالتسوية الفورية وأن لا يدفعنا التفاؤل مطلقا إلي الاعتقاد بان الزعيم الليبي يحمل مبادرة جاهزة للتطبيق تحظي بموافقة الأطراف، ولكننا ملزمون بإعادة التأكيد علي أن الحل بيد الموريتانيين الذين بحساب تعاطيهم واستعدادهم لتقديم التنازلات المؤلمة سيساعدون الوسيط علي إنجاح المهمة ويساعدون البلاد علي تجاوز الاختيار بين التجويع والتركيع.
وفي كل الحالات ستمكن زيارة القذافي من تحقيق اتصال مفيد ومحمود حول مبدأ الحوار الوطني وستسعي إلي الدعوة لتكريس مبدأ الحوار الوطني ومطلب الحل التوافقي، وهذا جديد أيضا ، غير أنه يستبعد حصول أية خطوات سياسية عملية ملموسة خلال هذه الزيارة التي يتوقف نجاحها إلي حد كبير علي طبيعة التجاوب المحلي أكثر من آليات الوسيط ، وعلي تجاوب الجبهة خصوصا وهو ما لا يعتبر مضمونا بداهة اعتبارا للبعد الزمني للمبادرة الجديدة الذي لم يكفل إنضاج آلياتها ووسائل تقبلها و في ظل واقعية الطرح الذي يحمله الزعيم الليبي المتناغم نسبيا مع المجلس الأعلى وعدم الاستعداد الصريح من الجبهة لتقديم التنازل واقعية.
إن الرهان الحقيقي في نجاح مبادرة الزعيم الليبي يرتبط بالقدرة علي انتزاع اعتراف الفرقاء بتبني المبادرة أصلا خصوصا الجبهة و حينها ستبدو عملية ربط الفرقاء بمبادرته طيلة الأسابيع المقبلة ممكنة حال تامين الانطلاقة وكذلك مواكبة الأطراف في تنفيذ الحل التوافقي.
إن الحل الحقيقي مرتبط بإرادة وشجاعة الموريتانيين في تقديم تنازلات حقيقية تسهيلا للوسطاء ووصولا لحل توافقي في ظرف زمني لا يزيد علي شهر، لتجنيب البلاد مخاطر الدخول إلي المسارات الأحادية والعقوبات الجماعية.


Class SQL 1.1 | Database down. | Please contact [email protected] | Thank you!